موسوعة أصول الفقه

الفرعُ الرَّابِعُ: التَّخصيصُ بالغايةِ


وهيَ نِهايةُ الشَّيءِ ومُنقَطَعُه، وهيَ حَدٌّ لثُبوتِ الحُكمِ قَبلَها وانتِفائِه بَعدَها [2110] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (4/459)، ((إرشاد الفحول)) للشوكاني (1/378). .
مِثلُ قَولِ اللهِ تعالى: وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ [البقرة: 222] ، فقَولُه: حَتَّى يَطْهُرْنَ رَفَع المَنعَ الدَّائِمَ المَفهومَ مِن قَولِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ: لَا تَقْرَبُوهُنَّ، وبَقيَ المَنعُ خاصًّا بحالِ الحَيضِ، فإذا طَهُرَت جازَ وطؤُها.
وكذلك قَولُ اللهِ عَزَّ وجَلَّ: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ [البقرة: 230] ، اقتَضى هذا تَحريمَها عليه بَعدَ الطَّلاقِ الثَّلاثِ على وَجهِ التَّأبيدِ، وبقَولِ اللَّهِ تعالى: حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ارتَفعَ عُمومُ التَّحريمِ، وبَقيَ مُختَصًّا بما قَبلَ نِكاحِها زَوجًا غَيرَه، فإذا نَكَحَت زَوجًا غَيرَه حَلَّت له [2111] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (2/628)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (4/1438). .
ومِثلُ: قَولِ اللهِ تعالى: قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة: 29] ؛ فإنَّ حُكمَ المُغَيَّا به -وهو وُجوبُ المُقاتَلةِ- انتَهى بوُجودِ الغايةِ التي هيَ إعطاءُ الجِزيةِ؛ فلَزِمَ مِن ذلك إخراجُ أهلِ الذِّمَّةِ مِن عُمومِ المُشرِكينَ [2112] يُنظر: ((الدرر اللوامع)) للكوراني (2/358). .
شُروطُ التَّخصيصِ بالغايةِ:
1- الغايةُ إنَّما تَكونُ للتَّخصيصِ إذا تَقدَّمَها عُمومٌ يَشمَلُها لَو لَم يُؤتَ بها:
أي: إذا كان العامُّ شامِلًا لِما بَعدَ الغايةِ لَولا ذِكرُ الغايةِ، كالمِثالِ المُتَقدِّمِ؛ فإنَّ المُشرِكينَ عامٌّ في أهلِ الذِّمَّةِ وغَيرِهم، فالغايةُ أخرَجَت أهلَ الذِّمَّةِ، ولَولا الغايةُ لَقاتَلنا الكُفَّارَ أعطَوا أو لَم يُعطوا.
وأمَّا نَحوُ قَولِ اللهِ تعالى: سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ [القدر: 5] ، فليس مِن هذا القَبيلِ؛ لأنَّ طُلوعَ الفجرِ لَم يَتَناوَلْه أجزاءُ اللَّيلِ ليَخرُجَ بالغايةِ، بَل هو خارِجٌ ابتِداءً؛ فإنَّ طُلوعَه وزَمَنَ طُلوعِه لَيسا مِنَ اللَّيلِ حتَّى يَشمَلَهما قَولُه: سَلَامٌ هِيَ بَل حَقَّقَ به ذلك.
وإنَّما فائِدةُ الغايةِ في مِثلِه: تَأكيدُ العُمومِ، أي: هيَ سَلامٌ في أجزائِها كُلِّها إلى طُلوعِ الفجرِ؛ لئَلَّا يُظَنُّ أنَّ كَونَها سَلامًا مَخصوصٌ ببَعضِ أجزائِها.
ومِنه قَولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((رُفِع القَلَمُ عنِ الصَّبيِّ حتَّى يَبلُغَ، وعنِ النَّائِمِ حتَّى يَستَيقِظَ، وعنِ المَجنونِ حتَّى يُفيقَ)) [2113] أخرجه الطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (3987)، والبيهقي (21624) باختِلافٍ يَسيرٍ من حديثِ عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، ولَفظُ الطَّحاويِّ: ((رُفِعَ القَلَمُ عن ثَلاثٍ: عنِ الصَّبيِّ حتَّى يَبلُغَ، وعنِ النَّائِمِ حتَّى يَستَيقِظَ، وعنِ المَجنونِ حتَّى يُفيقَ)). صَحَّحه ابنُ حَزمٍ في ((المحلى)) (9/206)، والنووي في ((المَجموع)) (6/253)، وحَسَّنه ابنُ القيم في ((أحكام أهل الذمة)) (2/902). ورويَ عن عَليِّ بنِ أبي طالِبٍ: لَقد عَلِمتُ أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((رُفِع القَلَمُ عن ثَلاثةٍ: عنِ الصَّبيِّ حتَّى يَبلُغَ، وعنِ النَّائِمِ حتَّى يَستَيقِظَ، وعنِ المَعتوهِ حتَّى يَبرَأَ)). أخرجه أبو داوُد (4402) واللَّفظُ له، وأحمد (1328) بنحوه. صَحَّحه ابنُ حزم في ((المحلى)) (9/206)، والنووي في ((المجموع)) (6/253)، والسخاوي في ((الأجوبة المرضية)) (2/767)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4402)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (4402). ؛ لأنَّ حالةَ البُلوغِ والإفاقةِ والِاستيقاظِ: خارِجةٌ عنِ الصَّبيِّ والمَجنونِ والنَّائِمِ، ولَو لَم تُذكَرِ الغاياتُ المَذكورةُ لَم يَشمَلْها، وإنَّما يُقصَدُ بالغاياتِ في مِثلِ هذا تَأكيدُ العُمومِ السَّابِقِ، فإذَن الغايةُ تَرِدُ لتَأكيدِ العُمومِ كما تَرِدُ لتَخصيصِ العُمومِ [2114] يُنظر: ((الإبهاج)) (4/1442)، ((رفع الحاجب)) (3/299) كلاهما لابن السبكي. .
قال ابنُ السُّبكيِّ: (الغاياتُ ثَلاثٌ: إحداها: غايةُ تَقدَّمَها عُمومٌ يَشمَلُها لَو لَم يُؤتَ بها، وهيَ التي تُخَصِّصُ.
والثَّانيةُ: غايةٌ لَو سُكِتَ عنها لَم يَدُلَّ اللَّفظُ عليها، نَحوُ قَولِه: حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ، و"رُفِع القَلَمُ"، وهذه خارِجةٌ قَطعًا.
والثَّالِثةُ: ما يَكونُ اللَّفظُ الأوَّلُ شاملًا لها، وتجري هيَ مَجرى التَّأكيدِ، مِثلُ قَولِنا: قُطِعَت أصابِعُه كُلُّها مِنَ الخِنصرِ إلى الإبهامِ؛ فإنَّه لَوِ اقتَصَرَ على قَولِه: قُطِعَت أصابِعُه كُلُّها، لَأفادَ الاستِغراقَ، وهيَ داخِلةٌ قَطعًا، والمَقصودُ فيها إنَّما هو تَحقيقُ العُمومِ لا تَخصيصُه) [2115] ((رفع الحاجب)) (3/299). .
2- لا بُدَّ أن يَكونَ حُكمُ ما بَعدَها مُخالِفًا لِما قَبلَها:
وإلَّا كانتِ الغايةُ وَسَطًا، وخَرَجَت عن كَونِها غايةً، وفي ذلك خُروجٌ للشَّيءِ عن حَقيقَتِه، وهو مُحالٌ؛ حَيثُ لَم يَكُن لذِكرِها فائِدةٌ، ويَلزَمُ مِن ذلك إلغاءُ دَلالةِ إلى وحتَّى [2116] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (2/313)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (4/1595)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (2/629)، ((أصول الفقه)) لابن مفلح (3/942). .
ومَعنى أنَّ ما بَعدَها مُخالِفٌ لِما قَبلَها، أي: مَحكومٌ عليه بنَقيضِ حُكمِه؛ لأنَّ ما بَعدَها لَو لَم يَكُنْ مُخالِفًا لِما قَبلَها لَم يَكُنْ غايةً، قال اللهُ تعالى: أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة: 187] ، فليس شَيءٌ مِنَ اللَّيلِ داخِلًا قَطعًا؛ فإنَّ الصِّيامَ شَرعًا لا يَكونُ إلَّا نَهارًا [2117] يُنظر: ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (4/1444)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (3/351). .
أحكامُ التَّخصيصِ بالغايةِ:
الغايةُ لا تَخلو أيضًا: إمَّا أن تَكونَ مَذكورةً عَقِبَ جُملةٍ واحِدةٍ، أو جُمَلٍ مُتَعَدِّدةٍ.
فإن كان الأوَّلَ: فإمَّا أن تَكونَ الغايةُ واحِدةً أو مُتَعَدِّدةً:
فإن كانت واحِدةً، كقَولِ: "أكرِمْ بَني تَميمٍ أبَدًا إلى أن يَدخُلوا الدَّارَ"؛ فإنَّ دُخولَ الدَّارِ يَقتَضي اختِصاصَ الإكرامِ بما قَبلَ الدُّخولِ، وإخراجَ ما بَعدَ الدُّخولِ عن عُمومِ اللَّفظِ، ولَولا ذلك لعَمَّ الإكرامُ حالةَ ما بَعدَ الدُّخولِ. وعليه يَلزَمُ إكرامُهم بالأمرِ الأوَّلِ، فإذا دَخَلوا الدَّارَ سَقَطَ وُجوبُ إكرامِهم؛ حَيثُ إنَّ ما بَعدَ الغايةِ يُخالِفُ ما قَبلَها [2118] يُنظر: ((التمهيد)) للكلوذاني (2/72)، ((الإحكام)) للآمدي (2/313). .
وإن كانت مُتَعَدِّدةً فلا يَخلو: إمَّا أن تَكونَ على الجَمعِ، أو على البَدَلِ:
فالأوَّلُ كقَولِه: "أكرِمْ بَني تَميمٍ أبَدًا إلى أن يَدخُلوا الدَّارَ، ويَأكُلوا الطَّعامَ"، فمُقتَضى ذلك استِمرارُ الإكرامِ إلى تَمامِ الغايَتَينِ دونَ ما بَعدَهما.
والثَّاني كقَولِه: "أكرِمْ بَني تَميمٍ إلى أن يَدخُلوا الدَّارَ أوِ السُّوقَ"، فمُقتَضى ذلك استِمرارُ الإكرامِ إلى انتِهاءِ إحدى الغايَتَينِ، أيَّهما كانت، دونَ ما بَعدَها.
وأمَّا إن كانتِ الغايةُ مَذكورةً عَقِبَ جُمَلٍ مُتَعَدِّدةٍ، فالكَلامُ في اختِصاصِها بما يَليها، وفي عَودِها إلى جَميعِ الجُمَلِ، كالكَلامِ في الاستِثناءِ [2119] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (2/313). .
فحُكمُ الغايةِ هو حُكمُ الاستِثناءِ في وُجوبِ الاتِّصالِ، وفي رُجوعِها إلى الجُمَلِ المُتَعَدِّدةِ قَبلَها، أو إلى الأخيرةِ منها [2120] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (2/629)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (3/350). .
وقد تَكونُ الغايةُ والمُغَيَّا، أي: المُقَيَّدُ بها، مُتَّحِدَينِ، مِثلُ: "أكرِمْ بَني تَميمٍ إلى أن يَدخُلوا".
وقد يَكونانِ مُتَعَدِّدَينِ، إمَّا على سَبيلِ الجَمعِ، مِثلُ: "أكرِمْ بَني تَميمٍ وأعطِهم إلى أن يَدخُلوا ويَقوموا". أو على سَبيلِ البَدَلِ، مِثلُ: "أكرِمْ بَني تَميمٍ أو أعطِهم إلى أن يَدخُلوا أو يَقوموا".
وسَواءٌ كانتِ الغايةُ مَعلومةَ الوُقوعِ في وقتِها، كقَولِه: "إلى أن تَطلُعَ الشَّمسُ"، أو غَيرَ مَعلومةِ الوقتِ كقَولِه: "إلى دُخولِ الدَّارِ" [2121] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (2/313)، ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (2/305)، ((شرح العضد)) (3/67). .
ومِنَ الأمثِلةِ التَّطبيقيَّةِ:
إذا قال: وقَفتُ على أولادي، وأولادِ أولادي، وأولادِ أولادِ أولادي، إلى أن يَستَغنوا: تَعودُ إلى الكُلِّ [2122] يُنظر: ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (3/350). .

انظر أيضا: