موسوعة أصول الفقه

المَطلَبُ الأوَّلُ: التَّعارُضُ بَينَ القَطعيَّاتِ


لا تَعارُضَ بَينَ القَطعيَّاتِ في حَقيقةِ الأمرِ. ونَقَلَ الِاتِّفاقَ على ذلك صَفِيُّ الدِّينِ الهِنْديُّ [12] قال: (أطبَقَ الكُلُّ على أنَّ تَعادُلَ القاطِعَينِ المُتَنافيَينِ -عَقليَّينِ كانا أو نَقليَّينِ- غَيرُ جائِزةٍ؛ لأنَّ مَدلولَ الدَّليلِ القَطعيِّ يَجِبُ أن يَكونَ حاصِلًا، فلَو جَوَّزنا تَعادُلَ القاطِعَينِ لَزِمَ حُصولُ مَدلولَيهما، وهو جَمعٌ بَينَ المُتَنافيَينِ، وهو مُمتَنِعٌ). ((نهاية الوصول)) (8/3616). ، والزَّركَشيُّ [13] قال: (إذا عَلِمتَ ذلك فالتَّعادُلُ بَينَ الدَّليلَينِ القَطعيَّينِ المُتَنافيَينِ مُمتَنِعٌ اتِّفاقًا، سَواءٌ كانا عَقليَّينِ أو نَقليَّينِ). ((البحر المحيط)) (8/124). ، وابنُ النَّجَّارِ [14] قال: (تَعادُلُ دَليلَينِ قَطعيَّينِ مُحالٌ اتِّفاقًا، سَواءٌ كانا عَقليَّينِ أو نَقليَّينِ، أو أحَدهُما عَقليًّا، والآخَرُ نَقليًّا). ((شرح الكوكب المنير)) (4/607). .
وذلك لأنَّه لو فُرِضَ وُقوعُ التَّعارُضِ بَينَ القَطعيَّاتِ للَزِمَ اجتِماعُ النَّقيضَينِ أوِ ارتِفاعُهما، وهو مُحالٌ؛ فالدَّليلُ القَطعيُّ يُفيدُ العِلمَ اليَقينيَّ، فلَو تَعارَضَ قَطعيَّانِ لم يُمكِنْ إثباتُ مُقتَضى أحَدِهما دونَ الآخَرِ، وإلَّا لَزِمَ التَّحَكُّمُ، فتعَيَّن حينَئِذٍ إمَّا رَفعُ مُقتَضاهما، وهو رَفعٌ للنَّقيضَينِ، أو إثباتُه، وهو جَمعٌ بَينَ النَّقيضَينِ، وكِلاهما مُحالٌ [15] يُنظر: ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (7/2728،2727)، ((نهاية السول)) للإسنوي (ص: 375)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (4/607). .
ويَجوزُ وُقوعُ التَّعارُضِ بَينَ القَطعيَّاتِ في ذِهنِ المُجتَهدِ؛ فقد يَتَعارَضُ عِندَه دَليلانِ قاطِعانِ، بحَيثُ يَعجِزُ عنِ القَدحِ في أحَدِهما، ويَدفعُ بمَعرِفةِ التَّاريخِ ونَسخِ المُتَقدِّمِ بالمُتَأخِّرِ، أو بحَملِ العامِّ على الخاصِّ، والمُطلَقِ على المُقَيَّدِ، والمُجمَلِ على المُبَيَّنِ، ونَحوِ ذلك مِن هذه التَّصَرُّفاتِ [16] قال الشَّاطِبيُّ: (كُلُّ مَن تَحَقَّق بأصولِ الشَّريعةِ فأدلَّتُها عِندَه لا تَكادُ تَتَعارَضُ، كما أنَّ كُلَّ مَن حَقَّقَ مَناطَ المَسائِلِ فلا يَكادُ يَقِفُ في مُتَشابِهٍ؛ لأنَّ الشَّريعةَ لا تَعارُضَ فيها البَتَّةَ، فالمُتَحَقِّقُ بها مُتَحَقِّقٌ بما في نَفسِ الأمرِ؛ فيَلزَمُ أن لا يَكونَ عِندَه تَعارُضٌ؛ ولِذلك لا تَجِدُ البَتَّةَ دَليلَينِ أجمَعَ المُسلِمونَ على تَعارُضِهما بحَيثُ وجَبَ عليهمُ الوُقوفُ، لكِن لمَّا كان أفرادُ المُجتَهِدينَ غَيرَ مَعصومينَ مِنَ الخَطَأ أمكَنَ التَّعارُضُ بَينَ الأدِلَّةِ عِندَهم). ثُمَّ قال: (التَّعارُضُ إمَّا أن يُعتَبَرَ مِن جِهةِ ما في نَفسِ الأمرِ، وإمَّا مِن جِهةِ نَظَرِ المُجتَهدِ؛ أمَّا مِن جِهةِ ما في نَفسِ الأمرِ فغَيرُ مُمكِنٍ بإطلاقٍ، وقد مَرَّ آنِفًا في كِتابِ الِاجتِهادِ مِن ذلك -في مَسألةِ أنَّ الشَّريعةَ على قَولٍ واحِدٍ- ما فيه كِفايةٌ، وأمَّا مِن جِهةِ نَظَرِ المُجتَهدِ فمُمكِنٌ بلا خِلافٍ، إلَّا أنَّهم إنَّما نَظَروا فيه بالنِّسبةِ إلى كُلِّ مَوضِعٍ لا يُمكِنُ فيه الجَمعُ بَينَ الدَّليلَينِ، وهو صَوابٌ؛ فإنَّه إن أمكَنَ الجَمعُ فلا تَعارُضَ؛ كالعامِّ مَعَ الخاصِّ، والمُطلَقِ مَعَ المُقَيَّدِ، وأشباهِ ذلك). ((الموافقات)) (5/ 341-342). ، ومِمَّن نَصَّ على ذلك: الدَّبُوسيُّ [17] يُنظر: ((تقويم الأدلة)) (ص: 214). ، والسَّرَخسيُّ [18] يُنظر: ((أصول السرخسي)) (2/13،12). ، وابنُ السُّبكيِّ [19] يُنظر: ((الإبهاج)) (7/2728). ، وصَفِيُّ الدِّينِ الهِنْديُّ [20] يُنظر: ((نهاية الوصول)) (8/3656). ، والزَّركَشيُّ [21] يُنظر: ((البحر المحيط)) (8/125:122). ، والإسْنَويُّ [22] يُنظر: ((نهاية السول)) (ص: 376، 375). ، والبِرْماويُّ [23] يُنظر: ((الفوائد السنية)) (5/229). .

انظر أيضا: