موسوعة أصول الفقه

المَطلَبُ الثَّالِثُ: التَّعارُضُ بَينَ الظِّنِّيَّاتِ


تَعارُضُ الظَّنِّيّاتِ في نَظَرِ المُجتَهدِ جائِزٌ اتِّفاقًا، ومِمَّن نَقَلَ هذا الِاتِّفاقَ: الإسْنَويُّ [35] قال: (وأمَّا التَّعادُلُ بَينَ الأمارَتَينِ، أي: الدَّليلَينِ الظَّنِّيَّينِ، فاتَّفقوا على جَوازِه بالنِّسبةِ إلى نَفسِ المُجتَهدِ، واختَلَفوا في جَوازِه في نَفسِ الأمرِ). ((نهاية السول)) (ص: 372). ، وأبو زُرعةَ العِراقيُّ [36] قال: (وأمَّا التَّعادُلُ بَينَ الأمارَتَينِ فإن كان في نَظَرِ المُجتَهدِ فهو مُتَّفَقٌ على جَوازِه). ((الغيث الهامع)) (ص: 661). .
وأمَّا تَعارُضُ الظَّنِّيّاتِ في نَفسِ الأمرِ، على مَعنى أن يَنصِبَ اللهُ تعالى على الحُكمِ أمارَتَينِ مُتَكافِئَتَينِ في نَفسِ الأمرِ، بحَيثُ لا يَكونُ لأحَدِهما مُرَجِّحٌ، فاختُلِف فيه، والرَّاجِحُ مَنعُه، وعلى ذلك عامَّةُ الفُقَهاءِ [37] قال السَّمعانيُّ: (مَذهَبُ الفُقَهاءِ أنَّه لا يَجوزُ اعتِدالُ الأماراتِ بحالٍ، ولا بُدَّ أن يَكونَ لإحدى الأمارَتَينِ تَرجيحٌ على الأخرى). ((قواطع الأدلة)) (2/316). وقال الزَّركَشيُّ: (قال إلكِيَا: وهو الظَّاهرُ مِن مَذهَبِ عامَّةِ الفُقَهاءِ، وبه قال العنبَريُّ، وقال ابنُ السَّمعانيِّ: إنَّه مَذهَبُ الفُقَهاءِ، ونَصَرَه). ((البحر المحيط)) (8/125). ، ومِنَ الحَنَفيَّةِ: الكَرخيُّ [38] يُنظر: ((بذل النظر)) للأسمندي (ص: 658)، ((حاشية العطار على شرح المحلي على جمع الجوامع)) (2/401). ، والسَّرَخسيُّ [39] يُنظر: ((أصول السرخسي)) (2/12). ويُنظر أيضًا: ((مسلم الثبوت)) ضمن شرحه ((فواتح الرحموت)) (2/235). ، وعليه جَمعٌ مِن فُقَهاءِ الشَّافِعيَّةِ [40] قال صَفيُّ الدِّينِ الهنديُّ: (اختَلَفوا في تَعادُلِ الأمارَتَينِ، فمَنَعَه الإمامُ أحمَدُ، والكَرخيُّ، وجَمعٌ مِن فُقَهائِنا). ((نهاية الوصول)) (8/3617). ويُنظر أيضًا: ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (7/2698). ، ومِنهمُ الشِّيرازيُّ [41] يُنظر: ((التبصرة)) (ص: 510). ، وابنُ السُّبكيِّ [42] يُنظر: ((جمع الجوامع)) (ص: 112). ويُنظر أيضًا: ((الغيث الهامع)) لأبي زرعة العراقي (ص: 661). ، وذَهَبَ إليه أحمَدُ بنُ حَنبَلٍ [43] يُنظر: ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (4/608). ، ومِنَ الحَنابِلةِ: القاضي أبو يَعلى [44] يُنظر: ((العدة)) (5/1536). ، وأبو الخَطَّابِ الكَلْوَذانيُّ [45] يُنظر: ((التمهيد)) (4/349). ، وقالوا: لا بُدَّ أن يَكونَ أحَدُ المَعنَيَينِ أرجَحَ، وإن جاز خَفاؤُه على بَعضِ المُجتَهدينَ، ولا يَجوزُ تَقديرُ اعتِدالِهما [46] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (8/125). .
الأدِلَّةُ:
1- أنَّ تَكافُؤَ الأدِلَّةِ لا يُعلَمُ مَعَه الصَّوابُ مِنَ الخَطَأِ، والمَقصودُ مِن نَصبِ الشَّارِعِ للأدِلَّةِ إنَّما هو الِاهتِداءُ إلى الحَقِّ [47] يُنظر: ((التبصرة)) للشيرازي (ص: 510)، ((التمهيد)) للكلوذاني (4/355). .
2- أنَّه لو جازَ تَعارُضُ الأمارَتَينِ دونَ مُرَجِّحٍ لَأدَّى إلى حُصولِ الشَّكِّ في الحُكمِ الشَّرعيِّ، وذلك لا يَجوزُ، فإنَّ المُخبِرَينِ المُتَساويَينِ في الصِّدقِ لو أخبَرَنا أحَدُهما بأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دَخل البَيتَ في وقتٍ عَيَّنَه، وكُنتُ مَعَه لم أفارِقْه، ولم أغفُلْ عن مُشاهَدَتِه إلى أن خَرَجَ مِنه، ولم أرَه يُصَلِّي فيه، وأخبَرَنا الآخَرُ: أنَّه رَآه يُصَلِّي فيه، فإنَّا نَشُكُّ هَل صَلَّى فيه أو لم يُصَلِّ، ولا يَجوزُ أن نَظُنَّ صِدقَ أحَدِهما ولا كُلِّ واحِدٍ مِنهما؛ لأنَّ الظَّنَّ: هو تَغليبُ أحَدِ المُخبِرَينِ على الآخَرِ، وذلك لا يَحصُلُ إلَّا بأمارةٍ تُرَجِّحُ أحَدَ المُخبِرينِ على الآخَرِ، وقد عُدِمَ ذلك؛ فإنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنَ المُخبِرينِ حالُه في الثِّقةِ كحالِ الآخَرِ، فلم يَبقَ إلَّا الشَّكُّ، ولا يَجوزُ أن يُحكَمَ بالشَّكِّ بحالٍ [48] يُنظر: ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (2/317)، ((التمهيد)) للكلوذاني (4/350). .
3- أنَّه يَلزَمُ مِنه التَّناقُضُ والعَبَثُ، والشَّارِعُ مُنَزَّهٌ عن ذلك [49] يُنظر: ((فواتح الرحموت)) للكنوي (2/236). .
وقيلَ: يَجوزُ تَعارُضُ الظَّنِّيّاتِ في نَفسِ الأمرِ، وهو قَولُ جُمهورِ الأصوليِّينَ [50] قال الإسْنَويُّ عن تَعادُلِ الأمارَتَينِ: (ذَهَبَ الجُمهورُ إلى جَوازِ التَّعادُلِ، كما حَكاه عنهمُ الإمامُ، وكذلك الآمِديُّ وابنُ الحاجِبِ، واختاراه). ((نهاية السول)) (ص: 372). ، واختارَه الآمِديُّ [51] يُنظر: ((الإحكام)) (4/424). ، وابنُ الحاجِبِ [52] يُنظر: ((مختصر ابن الحاجب)) (2/1226،1225). ، وهو مَذهَبُ أبي عَليٍّ وأبي هاشِمٍ الجُبَّائيَّينِ [53] يُنظر: ((المعتمد)) لأبي الحسين البصري (2/306). ، والأسمَنديِّ [54] يُنظر: ((بذل النظر)) (ص: 658). .

انظر أيضا: