المَطلَبُ الثَّاني: شُروطُ الجَمعِ بَينَ الأدِلَّةِ المُتَعارِضةِ
مِنَ الشُّروطِ التي يَنبَغي تَحَقُّقُها لإعمالِ الجَمعِ بَينَ الأدِلَّةِ التي ظاهِرُها التَّعارُضُ
[69] يُنظر: ((التعارض والترجيح)) للحفناوي (ص: 264)، ((منهج الإمام الطحاوي في دفع التعارض بين الأدلة الشرعية)) لحسن بخاري (ص: 116- 117). :
1- ثُبوتُ حُجِّيَّةِ كُلٍّ مِنَ المُتَعارِضَينِ، فمَتى لم تَثبُتْ لكِلَيهما الحُجَّةُ سَقَطا ولا حاجةَ للجَمعِ، بَل يُعمَلُ بغَيرِهما.
وإن كان أحَدُهما فاقِدًا للحُجِّيَّةِ، كأن يَكونَ ضَعيفًا أو مَنسوخًا، فلا حاجةَ للجَمعِ كذلك؛ لعَدَمِ تَحَقُّقِ التَّعارُضِ؛ إذ يَكونُ الآخَرُ الذي ثَبَتَت حُجِّيَّتُه سالِمًا مِنَ التَّعارُضِ، فيَتَعَيَّنُ العَمَلُ به
[70] قال الشَّافِعيُّ: (جِماعُ هذا ألَّا يُقبَلَ إلَّا حَديثٌ ثابِتٌ، كما لا يُقبَلُ مِنَ الشُّهودِ إلَّا مَن عُرِف عَدلُه، فإذا كان الحَديثُ مَجهولًا أو مَرغوبًا عَمَّن حَمَلَه، كان كما لم يَأتِ؛ لأنَّه ليس بثابِتٍ). ((الأم)) (8/598). .
2- ألَّا يُؤَدِّيَ الجَمعُ بَينَ المُتَعارِضَينِ إلى إبطالِ أحَدِ النَّصَّينِ أو جُزءٍ مِنهما؛ لأنَّه مَتى أُوِّلَ النَّصَّانِ أو أحَدُهما بتَأويلٍ يُعَطِّلُ لَفظَ النَّصِّ الشَّرعيِّ، كان الجَمعُ المُتَرَتِّبُ عليه غَيرَ مُعتَبَرٍ
[71] قال إمامُ الحَرَمَينِ: (مِمَّا غَلَّظَ الشَّافِعيُّ فيه القَولَ على المُؤَوِّلينَ: كُلُّ ما يُؤَدِّي التَّأويلُ فيه إلى تَعطيلِ اللَّفظِ). ((البرهان)) (1/209). وقال الغَزاليُّ: (قال بَعضُ الأصوليِّينَ: كُلُّ تَأويلٍ يَرفعُ النَّصَّ أو شَيئًا مِنه فهو باطِلٌ). ((المستصفى)) (ص: 198). .
3- ألَّا يَصطَدِمَ الجَمعُ بَينَ المُتَعارِضَينِ مَعَ نَصٍّ شَرعيٍّ آخَرَ صحيحٍ يُخالِفُ هذا الجَمعَ، وإلَّا كان غَيرَ مُعتَبَرٍ، كالجَمعِ بَينَ آيَتي العِدَّةِ:
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة: 234] ،
وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق: 4] بالقَولِ: إنَّ الحامِلَ المُتَوفَّى عنها زَوجُها تَعتَدُّ بأبعَدِ الأجَلَينِ: الحَملِ أوِ الأشهُرِ.
لأنَّ هذا الجَمعَ يَصطَدِمُ بحَديثِ سُبَيعةَ الأسلَميَّةِ رَضِيَ اللهُ عنها أنَّها نَفِسَت بَعدَ وفاةِ زَوجِها بلَيالٍ، فاستَأذَنَتِ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن تَنكِحَ، فأذِنَ لها فنَكَحَت
[72] أنَّ أبا سَلَمةَ بنَ عبدِ الرَّحمَنِ وابنَ عبَّاسٍ اجتَمَعا عِندَ أبي هرَيرةَ، وهما يَذكُرانِ المَرأةَ تُنفَسُ بَعدَ وفاةِ زَوجِها بلَيالٍ، فقال ابنُ عبَّاسٍ: عِدَّتُها آخِرُ الأجَلَينِ، وقال أبو سَلَمةَ: قد حَلَّت، فجَعَلا يَتَنازَعانِ ذلك، قال: فقال أبو هرَيرةَ: أنا مَعَ ابنِ أخي، يَعني أبا سَلَمةَ، فبَعَثوا كُرَيبًا مَولى ابنِ عبَّاسٍ إلى أمِّ سَلَمةَ يَسألُها عن ذلك، فجاءَهم فأخبَرَهم أنَّ أمَّ سَلَمةَ قالت: إنَّ سُبَيعةَ الأسلَميَّةَ نُفِسَت بَعدَ وفاةِ زَوجِها بلَيالٍ، وإنَّها ذَكَرَت ذلك لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأمَرَها أن تَتَزَوَّجَ. أخرجه البخاري (4909)، ومسلم (1485) واللَّفظُ له. .
4- أن يَكونَ التَّأويلُ الذي يَتَرَتَّبُ عليه الجَمعُ صحيحًا، وذلك بأن تَجتَمِعَ فيه شُروطُه التي مَتى فُقِدَت كان التَّأويلُ فاسِدًا، وبِالتَّالي لم يَصِحَّ الجَمعُ المَبنيُّ عليه.
وزادُ الحَنَفيَّةُ شَرطَينِ آخَرَينِ مَبنيَّينِ على تَرتيبِهم لطُرُقِ دَفعِ التَّعارُضِ مِن تَقديمِ النَّسخِ والتَّرجيحِ على الجَمعِ، وهذان الشَّرطانِ هما
[73] قال ابنُ عبدِ الشَّكورِ: (حُكمُه النَّسخُ إن عُلِمَ المُتَقدِّمُ، وإلَّا فالتَّرجيحُ إن أمكَنَ، وإلَّا فالجَمعُ بقَدرِ الإمكانِ). ((مسلم الثبوت)) (2/152). ويُنظر: ((منهج الإمام الطحاوي في دفع التعارض بين الأدلة الشرعية)) لحسن بخاري (ص: 116، 117). :
1- ألَّا يُعلَمَ تَأخُّرُ أحَدِ الدَّليلَينِ المُتَعارِضَينِ عنِ الآخَرِ، وإلَّا كان المُتَأخِّرُ ناسِخًا للمُتَقدِّمِ.
2- تَساوي الدَّليلَينِ المُتَعارِضَينِ، وألَّا يَكونَ لأحَدِهما مَزيَّةٌ على الآخَرِ، فإن كان لأحَدِهما مَزيَّةٌ فإنَّه يُصارُ إليه باعتِبارِه راجِحًا، ولا حاجةَ إلى الجَمعِ بَينَهما.
انظر أيضا:
عرض الهوامش