الفرعُ الخامِسُ: نَسخُ ما قُيِّدَ بتَأبيدٍ
التَّأبيدُ: هو الِاستِمرارُ والدَّوامُ في جَميعِ الأزمِنةِ، والمُرادُ بتَأبيدِ الحُكمِ: دَوامُه واستِمرارُه مَتى وُجِدَ التَّكليفُ، سَواءٌ كان بلَفظِ (أبَدًا) ونَحوِها، أو بلَفظٍ يَقومُ مَقامَها، كَيَومِ القيامةِ، ونَحوِ ذلك
[167] يُنظر: ((أصول السرخسي)) (2/60)، ((لسان العرب)) لابن منظور (3/68)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 32)، ((الآراء الشاذة)) لعبد العزيز النملة (1/355). .
وقدِ اتَّفقَ الأصوليُّونَ على أنَّ التَّأبيدَ إذا كان قَيدًا للوُجوبِ، وبَيانًا لمُدَّةِ بَقاءِ الوُجوبِ واستِمرارِه نَصًّا، لم يَقبَلِ النَّسخَ، كأن يَقولَ مَثَلًا: (الصَّومُ واجِبٌ مُستَمِرٌّ أبَدًا)؛ لأنَّ النَّسخَ فيه يُؤَدِّي إلى الكَذِبِ والتَّناقُضِ.
واختَلَف الأصوليُّونَ في الأمرِ الذي يُفيدُ حُكمًا مُؤَبَّدًا، كما لو قال مَثَلًا: (صوموا أبَدًا)، هَل يَجوزُ نَسخُه أم لا
[168] يُنظر: ((أصول السرخسي)) (2/60)، ((الكافي)) للسغناقي (3/1502)، ((أصول الفقه)) لابن مفلح (3/1130)، ((تيسير التحرير)) لأمير بادشاه (3/194)، ((الآراء الشاذة)) لعبد العزيز النملة (1/357). ؟
والرَّاجِحُ: جَوازُ نَسخِ حُكمِ الخِطابِ الذي يَكونُ بلَفظِ التَّأبيدِ. وهو قَولُ جُمهورِ الأصوليِّينَ
[169] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (3/134)، ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (2/517)، ((أصول الفقه)) لابن مفلح (3/1130)، ((البحر المحيط)) للزركشي (5/218)، ((فواتح الرحموت)) للكنوي (2/80). ، مِنهمُ الشِّيرازيُّ
[170] يُنظر: ((شرح اللمع)) (1/491). ، والكَلْوَذانيُّ
[171] يُنظر: ((التمهيد)) (2/348). ، والقَرافيُّ
[172] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) (ص: 310). ، وبَعضُ الحَنَفيَّةِ
[173] يُنظر: ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (3/165). .
الأدِلَّةُ:1- القياسُ على تَخصيصِ العُمومِ؛ فإنَّ صيغةَ (أبَدًا) بمَنزِلةِ العُمومِ في الأزمانِ، والعُمومُ قابِلٌ للتَّخصيصِ والنَّسخِ، وبَيانُه: أنَّ الخِطابَ إذا كان بلَفظِ التَّأبيدِ فإنَّ غايَتَه أن يَكونَ دالًّا على ثُبوتِ الحُكمِ في جَميعِ الأزمانِ بعُمومِه، ولا يَمتَنِعُ مَعَ ذلك أن يَكونَ المُخاطِبُ مُريدًا لثُبوتِ الحُكمِ في بَعضِ الأزمانِ دونَ بَعضٍ، كما في الألفاظِ العامَّةِ لجَميعِ الأشخاصِ، وإذا لم يَكُنْ ذلك مُمتَنِعًا فلا يَمتَنِعُ وُرودُ النَّاسِخِ المُعَرِّفِ لإرادةِ المُخاطبِ لذلك. ولَو فرَضنا ذلك لَما لَزِمَ عنه المُحالُ، وكان جائِزًا
[174] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (3/134)، ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 310)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (6/2304). .
2- القياسُ على نَسخِ اللَّفظِ المُطلَقِ؛ فإنَّه إذا جازَ نَسخُ اللَّفظِ المُطلَقِ، وإن كان ظاهرُه يَقتَضي التَّأبيدَ، جازَ نَسخُ ما اقتَرَنَ به ذِكرُ التَّأبيدِ؛ لأنَّ التَّأبيدَ يُستَعمَلُ فيما لا يُرادُ به التَّأبيدُ، ألَا تَرى أنَّك تَقولُ: لازِمْ غَريمَك أبَدًا، وتُريدُ إلى وقتٍ، وكذلك هاهنا يَجوزُ أن يُقَيَّدَ بالتَّأبيدِ، والمُرادُ به إلى وقتِ النَّسخِ
[175] يُنظر: ((التبصرة)) (ص: 255)، ((شرح اللمع)) (1/491) كلاهما للشيرازي، ((التمهيد)) للكلوذاني (2/349)، ((أصول الفقه)) لابن مفلح (3/1130). .
3- أنَّه إذا جازَ أن يُقَيَّدَ الخِطابُ بالتَّأبيدِ ثُمَّ يَرِدَ بَعدَه الِاستِثناءُ والشَّرطُ فيَمنَعَ التَّأبيدَ -مِثلُ أن يَقولَ: (صَلِّي أبَدًا إلَّا أن تَكوني حائِضًا) و(صُمْ أبَدًا إلَّا أن تَكونَ مَريضًا)- جازَ أن يَرِدَ بَعدَه النَّسخُ بأن يُقَيَّدَ بالتَّأبيدِ، ويَرِدَ بَعدَ ذلك خِطابٌ يُسقِطُ التَّأبيدَ
[176] يُنظر: ((التبصرة)) (ص: 255)، ((شرح اللمع)) (1/492) كلاهما للشيرازي. .
وقيلَ: لا يَجوزُ نَسخُ حُكمِ الخِطابِ الذي يَكونُ بلَفظِ التَّأبيدِ. وهو مَذهَبُ كَثيرٍ مِنَ الحَنَفيَّةِ، مِنهمُ الماتُريديُّ، والجَصَّاصُ، والبَزْدَويُّ، والسَّرَخسيُّ
[177] يُنظر: ((الفصول)) للجصاص (2/209)، ((أصول السرخسي)) (2/60)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (3/165)، ((فواتح الرحموت)) للَّكنوي (2/80). ، ووَجهٌ عِندَ الشَّافِعيَّةِ
[178] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (5/217). .
وتَظهَرُ ثَمَرةُ المَسألةِ في قَلعِ شُبُهاتِ اليَهودِ في ادِّعائِهم تَأبيدَ بَعضِ الأحكامِ التَّوراتيَّةِ التي يَدَّعونَ أنَّها مُقَيَّدةٌ بالدَّوامِ
[179] يُنظر: ((فواتح الرحموت)) للَّكنوي (2/81). .
ويَرى السَّمَرقَنديُّ أنَّه لا خِلافَ في الحَقيقةِ، فقال: (ذَكَرَ بَعضُ أهلِ الأصولِ في هذا الفَصلِ خِلافًا:
فقال بَعضُهم: لا يَجوزُ النَّسخُ في المُؤَبَّدِ. وقال عامَّةُ أهلِ الأصولِ بأنَّه يَجوزُ.
ولَكِن لا خِلافَ في الحَقيقةِ عِندَ التَّأمُّلِ؛ لأنَّ مَن قال بالجَوازِ اعتِمادُه على أنَّ (الأبَد) اسمٌ لجَميعِ العُمُرِ، فمَتى جاءَ النَّسخُ تَبَيَّنَ أنَّ (الأبَد) ذُكِرَ وأريدَ به بَعضُ ما يَتَناولُه اسمُ الأبَدِ، كقَولِه تعالى:
فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التوبة: 5] يَتَناولُ جَميعَ المُشرِكينَ، فمَتى خُصَّ مِنه أهلُ الذِّمَّةِ كان المُرادُ مِنَ اللَّفظِ العامِّ بَعضَه، ولا فَرقَ إلَّا أنَّ هذا تَخصيصُ بَعضِ الأعيانِ، وذلك تَخصيصُ بَعضِ الأزمانِ.
والفريقُ الأوَّلُ يَقولونَ بالتَّخصيصِ، ولَكِنَّ مُرادَهم بهذا أنَّ الأبَدَ مَتى كان مَنصوصًا، وهو مُرادُ اللهِ تعالى، لا يَجوزُ نَسخُه؛ لِما أنَّه يُؤَدِّي إلى البَداءِ، ولأنَّ النَّسخَ غَيرُ التَّخصيصِ؛ فإنَّ النَّصَّ المُطلَقَ، وإن كان ظاهِرُه الدَّوامَ، لا بموجِبِ الصِّيغةِ، ولَكِن بدَليلٍ آخَرَ، والنَّصُّ المُؤَبَّدُ مُتَناوِلٌ لجَميعِ الأزمانِ مِن حَيثُ اللَّفظُ. فإذا جاءَ النَّاسِخُ في المُطلَقِ انتَهي الحُكمُ الثَّابِتُ في الماضي للحالِ، وتَبَيَّنَ أنَّ المُستَقبَلَ ما كان ثابِتًا، وإذا جاءَ التَّخصيصُ في الزَّمانِ المُؤَبَّدِ بَقيَ الحُكمُ فيما وراءَ المَخصوصِ ثابِتًا، وفي المُستَقبَلِ تَبَيَّنَ أنَّه غَيرُ مُرادٍ، فأنَّى يَتَشابَهانِ؟)
[180] ((ميزان الأصول)) (ص: 709). .