موسوعة أصول الفقه

الفرعُ الثَّاني: النَّسخُ في الوعدِ والوعيدِ


لا يَدخُلُ النَّسخُ في الوَعدِ؛ لأنَّه وإن كان نَسخُه لا يُفضي إلى كَذِبٍ، لَكِن لا يَقَعُ الخُلفُ فيه، بخِلافِ الوعيدِ؛ لأنَّ الخُلفَ في الإنعامِ نَقصٌ قادِحٌ في كَرَمِ الكَريمِ، فكَيف بأكرَمِ الأكرَمينَ؟ فالخُلفُ فيه مُحالٌ على اللهِ تعالى مِن هذه الحَيثيَّةِ [153] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (5/248)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (4/1833)، ((إرشاد الفحول)) للشوكاني (2/63). .
قال ابنُ السُّبكيِّ: (نَسخُ الوَعدِ لا يُفضي إلى الكَذِبِ؛ لأنَّه إنشاءٌ، ولَكِنَّه لا يَقَعُ؛ لأنَّه إخلافٌ في الإنعامِ، وهو على الرَّبِّ تعالى مُستَحيلٌ) [154] ((رفع الحاجب)) (4/79). .
وأمَّا الوعيدُ فنَسخُه جائِزٌ؛ لأنَّه لا يُفضي إلى كَذِبٍ، ولا يُعَدُّ ذلك خُلفًا، بَل يُعَدُّ عَفوًا وكَرَمًا [155] يُنظر: ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/424)، ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (4/79)، ((البحر المحيط)) للزركشي (5/248)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (4/1833). .
قال السَّمعانيُّ: (فإن قال قائِلٌ: ما قَولُكُم في الأخبارِ الوارِدةِ في الوعيدِ لمُرتَكِبي الكَبائِرِ؟ قُلنا: يَجوزُ العَفوُ عنها. قالوا: فهذا نَسخٌ. قُلنا: هذا ليس بنَسخٍ، إنَّما هو مِن بابِ التَّكَرُّمِ والعُدولِ عنِ المُتَوعَّدِ بالفَضلِ، وقد يَتَكَلَّمُ المُتَكَلِّمُ بالوعيدِ وهو لا يُريدُ إمضاءَه، ولا يُعَدُّ ذلك خُلفًا، بَل يُعَدُّ عَفوًا وكَرَمًا) [156] ((قواطع الأدلة)) (1/424). .
ووُقوعُ العَفوِ عنِ المُذنِبينَ مَعَ آيةِ الوعيدِ إنَّما جاءَ مِن تَرتيبِ الخِطابِ بَعضِه على بَعضٍ؛ فإنَّ اللَّهَ تعالى قال: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ [النساء: 93] ، وقال تعالى: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَه يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا [النساء: 14] ، وقال تعالى: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ [الأنفال: 16] إلى أمثالِ هذا.
وقال تعالى: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ [الرعد: 6] ، وقال في مَوضِعٍ آخَرَ: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء: 48] وأمثالَ ذلك، فكانتِ الآياتُ المُتَقدِّمةُ مُرَتَّبةً على هذا، كَأنَّ المَشيئةَ فيها مُضمَرةٌ [157] يُنظر: ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/424). .
ومِن أمثِلةِ ذلك: ما جاءَ عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه لَمَّا نَزَل قَولَ اللهِ تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [البقرة: 284] عَظُم ذلك، فأمَرَهمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يَقولوا: سَمِعنا وأطَعنا، فلَمَّا ذَلَّت بها ألسِنَتُهم نَسَخَها اللهُ بقَولِه: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة: 286] [158] أخرجه مسلم (125) ولَفظَه: عن أبي هرَيرةَ قال: لمَّا نَزَلَت على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة: 284] ، قال: فاشتَدَّ ذلك على أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأتَوا رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ثُمَّ بَرَكوا على الرُّكَبِ، فقالوا: أيْ رَسولَ اللهِ، كُلِّفْنا مِنَ الأعمالِ ما نُطيقُ: الصَّلاةَ، والصِّيامَ، والجِهادَ، والصَّدَقةَ، وقد أُنزِلَت عليك هذه الآيةُ ولا نُطيقُها! قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أتُريدونَ أن تَقولوا كما قال أهلُ الكِتابَينِ مِن قَبلِكُم: سَمِعْنا وعَصَينا؟! بَل قولوا: سَمِعْنا وأطَعْنا، غُفرانَك رَبَّنا وإليك المَصيرُ)) قالوا: سَمِعْنا وأطَعْنا، غُفرانَك رَبَّنا وإليك المَصيرُ! فلَمَّا اقتَرَأها القَومُ ذَلَّت بها ألسِنَتُهم، فأنزَلَ اللهُ في إثرِها: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ إلى قوله: وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة 285] فلَمَّا فعَلوا ذلك نَسخَها اللهُ تعالى، فأنزَلَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا قال: نَعَم، رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا قال: نَعَم رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ قال: نَعَم وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة 286] قال: نَعَم. .
قال البَيهَقيُّ: (وهذا النَّسخُ بمَعنى التَّخصيصِ أوِ التَّبيينِ؛ فإنَّ الآيةَ الأولى ورَدَت مَورِد العُمومِ، فورَدَتِ الآيةُ التي بَعدَها فبَيَّنَت أنَّ ما يَخفى مِمَّا لا يُؤاخَذُ به، وهو حَديثُ النَّفسِ الذي لا يَستَطيعُ العَبدُ دَفعَه عن قَلبِه، وهذا لا يَكونُ مِنه كَسبٌ في حُدوثِه وبَقائِه. وكَثيرٌ مِنَ المُتَقدِّمينَ كانوا يُطلِقونَ عليه اسمَ النَّسخِ على الِاتِّساعِ، بمَعنى أنَّه لَولا الآيةُ الأخرى لَكانتِ الآيةُ الأولى تَدُلُّ على مُؤاخَذَتِه بجَميعِ ذلك.
ويُحتَمَلُ أن يَكونَ هذا خَبَرًا مُضَمَّنًا بالفِعلِ لحُكمٍ، وكَأنَّه حَكَمَ بمُؤاخَذةِ عِبادِه بجَميعِ ذلك وتَعَبَّدَهم به، ولَه أن يتعَبَّدَهم بما شاءَ، فلَمَّا قابَلوه بالسَّمعِ والطَّاعةِ خَفَّف عنهم، ووضَعَ عنهم حَديثَ النَّفسِ، فيَكونُ قَولُه: يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ خَبَرًا مُضَمَّنًا بحُكمٍ، أي: حَكَمَ بمُحاسَبَتِكُم به، وهذا كقَولِه عَزَّ وجَلَّ: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [الأنفال: 65]) [159] ((شعب الإيمان)) (1/510). .
وقيلَ: يَدخُلُ النَّسخُ في كُلٍّ مِنَ الوعدِ والوعيدِ. وهو ظاهرُ كَلامِ ابنِ القَطَّانِ [160] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (5/248). .
وقيلَ غَيرُ ذلك [161] يُنظر: ((المعتمد)) لأبي الحسين البصري (1/388). .

انظر أيضا: