موسوعة أصول الفقه

الفرعُ الثَّاني: النَّسخُ بَعدَ عِلمِ بَعضِ المُكَلَّفينَ بوُجوبِه


اختَلَف الأصوليُّونَ فيما إذا ورَدَ النَّسخُ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولم يُبَلِّغِ الأمَّةَ، هَل يَتَحَقَّقُ بذلك النَّسخُ في حَقِّهم أو لا [199] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (3/168). ؟
وصورةُ هذه المَسألةِ بالأمرِ بالصَّلاةِ في لَيلةِ الإسراءِ والمِعراجِ [200] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (5/225). . قال ابنُ بَرهانَ: (إنَّ النَّسخَ ما كان إلَّا بَعدَ العِلمِ؛ فإنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أحَدُ المُكَلَّفينَ، وقد عَلِمَ، ولَكِنَّه كان قَبلَ عِلمِ جَميعِ الأمَّةِ. وعِلمُ الجَميعِ لا يُشتَرَطُ؛ فإنَّ التَّكليفَ استَقَرَّ بعِلمِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) [201] ((الوصول إلى الأصول)) (2/66). .
وقدِ اختَلَف الأصوليُّونَ في ثُبوتِ النَّسخِ في هذه المَسألةِ، والرَّاجِحُ: أنَّه لا يَثبُتُ النَّسخُ في حَقِّ الأمَّةِ قَبلَ أن يَتَّصِلَ ذلك بهم. وهو مَذهَبُ الحَنَفيَّةِ [202] يُنظر: ((الفصول)) للجصاص (2/72)، ((تقويم الأدلة)) للدبوسي (ص: 431). ، وبَعضِ الشَّافِعيَّةِ [203] يُنظر: ((التبصرة)) للشيرازي (ص: 282)، ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/459)، ((الإحكام)) للآمدي (3/168). ، وهو ظاهِرُ مَذهَبِ الحَنابِلةِ [204] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (3/823)، ((التمهيد)) للكلوذاني (2/395)، ((الواضح)) لابن عقيل (4/284). ، وبِه قال ابنُ حَزمٍ [205] يُنظر: ((الإحكام)) (4/118). .
قال القاضي عِياضٌ: (حَقيقةُ الخِطابِ بالتَّكليفِ إنَّما يَتَعَلَّقُ بالبَلاغِ عِندَ المُحَقِّقينَ مِن أئِمَّتِنا؛ فإنَّ النَّسخَ إذا ورَدَ فمَن لم يَبلُغْه باقٍ على المُخاطَبةِ بالعِبارةِ الأولى، وليس في حَقِّه نَسخٌ حتَّى يَبلُغَه) [206] ((إكمال المعلم)) (2/446). .
الأدِلَّةُ:
1- أنَّ النَّسخَ له لَوازِمُ، وهيَ ارتِفاعُ حُكمِ الخِطابِ السَّابِقِ، وامتِناعُ الخُروجِ بالفِعلِ الواجِبِ أوَّلًا عنِ العُهدةِ، ولُزومُ الإتيانِ بالفِعلِ الواجِبِ النَّاسِخِ، والإثمُ بتَركِه والثَّوابُ على فِعلِه. وهذه اللَّوازِمُ مُنتَفيةٌ، ويَلزَمُ مِنِ انتِفاءِ اللَّازِمِ انتِفاءُ المَلزومِ، أمَّا أنَّ الحُكمَ السَّابِقَ لم يَرتَفِعْ فلأنَّ المُكَلَّفَ مُخاطَبٌ بالمَنسوخِ، ويُثابُ على فِعلِه، ويَخرُجُ به عنِ العُهدةِ، ويَأثَمُ بتَركِه له قَبلَ بُلوغِ النَّسخِ إليه بالإجماعِ؛ ولِهذا لو تَرَكَه كان عاصيًا، فلا يَجوزُ أن يَكونَ مُخاطَبًا بالنَّاسِخِ؛ لأنَّه يُفضي إلى أن يُخاطَبَ بالشَّيءِ وضِدِّه في حالةٍ واحِدةٍ [207] يُنظر: ((التمهيد)) للكلوذاني (2/397)، ((الإحكام)) للآمدي (3/168). .
ولِذلك فإنَّ أهلَ قُباءٍ صَلَّوا إلى بَيتِ المَقدِسِ، فلَمَّا بَلَغَهم نَسخُ التَّوجُّهِ إلى بَيتِ المَقدِسِ بالتَّوجُّهِ إلى الكَعبةِ استَداروا في الصَّلاةِ [208] عن ابنِ عُمَرَ، قال: بينا النَّاسُ بقُباءٍ في صَلاةِ الصُّبحِ إذ جاءَهم آتٍ، فقال: إنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد أنزِلَ عليه اللَّيلةَ قُرآنٌ، وقد أُمِرَ أن يَستَقبِلَ الكَعبةَ، فاستَقبِلوها، وكانت وُجوهُهم إلى الشَّأمِ، فاستَداروا إلى الكَعبةِ. أخرجه البخاري (4491) واللَّفظُ له، ومسلم (526). ، والنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم اعتَدَّ لهم بالرَّكَعاتِ التي أتَوا بها بَعدَ نُزولِ النَّسخِ قَبلَ عِلمِهم بالنَّسخِ، ولم يُنكِرْ عليهم، فكان اعتِدادُه لهم بالرَّكَعاتِ التي صَلَّوها إلى بَيتِ المَقدِسِ دَلالةً على أنَّ حُكمَ القِبلةِ كان ثابِتًا غَيرَ مَنسوخٍ قَبلَ عِلمِهم؛ إذ لو كان حُكمُ النَّسخِ يَلزَمُهم لَوجَبَ أن يَبتَدِئوا في الصَّلاةِ؛ لأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَلِمَ بالنَّسخِ قَبلَ صَلاتِهم [209] يُنظر: ((التبصرة)) للشيرازي (ص: 283)، ((التمهيد)) للكلوذاني (2/395) ((الواضح)) لابن عقيل (4/284)، ((الإحكام)) للآمدي (3/168). .
2- أنَّه إذا ثَبَتَ النَّسخُ في حَقِّنا قَبلَ عِلمِنا لَثَبَتَ في حَقِّ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَبلَ أن يَنزِلَ إليه جِبريلُ عليه السَّلامُ بالنَّسخِ؛ لأنَّ كَونَ النَّاسِخِ مَعَ جِبريلَ عليه السَّلامُ في حَقِّ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كَكَونِ النَّاسِخِ مَعَ الرَّسولِ في حَقِّنا، ولا فَرقَ بَينَهما [210] يُنظر: ((التمهيد)) للكلوذاني (2/396). .
3- أنَّ مَن لم يَبلُغْه النَّسخُ لم يَعلَمْ بالخِطابِ، فلا يَلزَمُه حُكمُ الخِطابِ؛ لأنَّه لم يَثبُتِ الخِطابُ في حَقِّه، كالصَّبيِّ والمَجنونِ والنَّائِمِ [211] يُنظر: ((التمهيد)) للكلوذاني (2/396)، ((الواضح)) لابن عقيل (4/285). .
وقيلَ: إذا نَزَلَ النَّسخُ على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ولم يَبلُغْنا، ثَبَتَ النَّسخُ في حَقِّه وفي حَقِّ الأمَّةِ، وهو قَولُ بَعضِ الشَّافِعيَّةِ [212] يُنظر: ((التبصرة)) للشيرازي (ص: 282)، ((الإحكام)) للآمدي (3/168)، ((البحر المحيط)) للزركشي (5/226). .
وقيلَ بالتَّفصيلِ بَينَ الأحكامِ التَّكليفيَّةِ وخِطابِ الوَضعِ، فيُمنَعُ في الأوَّلِ، ويَجوزُ في الثَّاني؛ لأنَّه يَلتَحِقُ بالغافِلِ ونَحوِه. وقد حَكاه بَعضُ المُتَأخِّرينَ [213] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (5/226). .

انظر أيضا: