موسوعة أصول الفقه

الفرعُ الثَّالِثُ: نَسخُ الفِعلِ قَبلَ دُخولِ وَقتِه


اختَلَف الأصوليُّونَ فيما إذا أُمِرَ المُكَلَّفُ بالعِبادةِ مُطلَقًا ثُمَّ نُسِخَ الأمرُ قَبلَ مُضيِّ وقتِ التَّمَكُّنِ مِنَ الفِعلِ، والرَّاجِحُ أنَّه يَجوزُ النَّسخُ قَبلَ دُخولِ وقتِ الفِعلِ. وهو مَنقولٌ عن مالِكٍ [214] يُنظر: ((إحكام الفصول)) (1/410). ، وظاهِرُ كَلامِ أحمَدَ [215] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (3/807)، ((الواضح)) لابن عقيل (4/303)، ((أصول الفقه)) لابن مفلح (3/1124). ، وهو مَذهَبُ جُمهورِ الأصوليِّينَ [216] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (5/226)، ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (3/49)، ((تيسير التحرير)) لأمير بادشاه (3/187). ، مِنهمُ الخَطيبُ البَغداديُّ [217] يُنظر: ((الفقيه والمتفقه)) (1/332). ، والباجيُّ [218] يُنظر: ((إحكام الفصول)) (1/410)، ((الإشارة)) (ص: 265). ، والشِّيرازيُّ [219] يُنظر: ((التبصرة)) (ص: 260)، ((اللمع)) (ص: 56). ، والسَّمعانيُّ [220] يُنظر: ((قواطع الأدلة)) (1/431). .
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: الوُقوعُ، ومِن ذلك:
1- قَولُ اللهِ تعالى في قِصَّةِ إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات: 102] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
 أنَّه أُمِرَ بذَبحِه في المَنامِ، وكانت رُؤيا الأنبياءِ عليهمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ وَحيًا يَجِبُ العَمَلُ به؛ ولِهذا قال إسماعيلُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ، ففيه دَليلٌ على أنَّ إبراهيمَ كان مَأمورًا بذَبحِه، ثُمَّ نَسَخَه اللهُ تعالى قَبلَ أن يَفعَلَه وفَداه بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصَّافَّات: 107] ، والفِداءُ بالذَّبحِ نَسخٌ لِما كان شَرَعَه مِنَ الذَّبحِ قَبلَ وقتِ الذَّبحِ، وهذا يَدُلُّ على جَوازِ نَسخِ الحُكمِ قَبلَ وقتِه؛ حَيثُ تَضَمَّنَت هذه الآيةُ تَجويزَ ذلك على اللهِ سُبحانَه، وإذا كان في شَريعةٍ مِن شَرائِعِه فيَجوزُ في شَريعَتِنا؛ لأنَّ نَبيَّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد أُمِرَ باتِّباعِ أبيه إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، والِاقتِداءِ به، وشَرعُ مَن سَبقَه شَرعٌ له ما لم يَثبُتْ نَسخُه، فلا فَرقَ بَينَ جَوازِ ذلك في شَرعِ إبراهيمَ وشَرعِ كُلِّ نَبيٍّ [221] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (3/809)، ((إحكام الفصول)) للباجي (1/411)، ((التبصرة)) للشيرازي (ص: 260)، ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/432)، ((الواضح)) لابن عقيل (4/304). .
2- أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صالَحَ قُرَيشًا عامَ الحُدَيبيَةِ، وكان فيما شَرَطوه في الصُّلحِ أن يَرُدَّ عليهم مَن جاءَ مِنَ المُسلِمينَ فيهم، رَجُلًا كان أوِ امرَأةً [222] عن مَروانَ والمِسوَرِ بنِ مَخرَمةَ رِضى اللهِ عنهما يُخبِرانِ عن أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: لَمَّا كاتَبَ سُهَيلُ بنُ عَمرٍو يَومَئِذٍ كان فيما اشتَرَطَ سُهَيلُ بنُ عَمرٍو على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أنَّه لا يَأتيكَ مِنَّا أحَدٌ وإن كان على دينِكَ إلَّا رَدَدتَه إلَينا، وخَلَّيتَ بَينَنا وبَينَه، فكَرِهَ المُؤمِنونَ ذلك وامتَعَضوا مِنه، وأبى سُهَيلٌ إلَّا ذلك، فكاتَبَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على ذلك، فرَدَّ يَومَئِذٍ أبا جَندَلٍ إلى أبيه سُهَيلِ بنِ عَمرٍو، ولم يَأتِه أحَدٌ مِنَ الرِّجالِ إلَّا رَدَّه في تلك المُدَّةِ وإن كان مُسلِمًا، وجاءَتِ المُؤمِناتُ مُهاجِراتٍ، وكانت أمُّ كُلثومٍ بنتُ عُقبةَ بنِ أبي مُعَيطٍ مِمَّن خَرَجَ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَومَئِذٍ، وهيَ عاتِقٌ، فجاءَ أهلُها يَسألونَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يَرجِعَها إلَيهم، فلم يَرجِعْها إلَيهم، لما أنزَلَ اللهُ فيهنَّ: إِذَا جَاءَكُمُ المُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ [الممتحنة: 10] إلى قَولِه: وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ [الممتحنة: 10] . أخرجه البخاري (2711، 2712). ، ثُمَّ نَسَخَ اللهُ سُبحانَه وتعالى ذلك في النِّساءِ بقَولِه: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ [الممتحنة: 10] [223] يُنظر: ((التلخيص)) لإمام الحرمين (2/524)، ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/433)، ((التمهيد)) للكلوذاني (2/360). .
ثانيًا: أنَّه إذا جازَ أن يَأمُرَ الإنسانَ بفِعلِ العِبادةِ، مَعَ عِلمِه بأنَّه قد يَموتُ أو يَعجِزُ عنه قَبلَ أن يَدخُلَ وقتُها، ولم يَقبُحْ، جازَ أن يَأمُرَ بفِعلِها ثُمَّ يُسقِطَ ذلك عنه قَبلَ فِعلِها [224] يُنظر: ((التبصرة)) (ص: 261). .
ثالِثًا: أنَّ الدَّليلَ لمَّا قامَ على حُسنِ النَّسخِ على الجُملةِ فلا فَرقَ بَينَ أن يُنسَخَ قَبلَ وقتِ الفِعلِ، أو بَعدَ وقتِ الفِعلِ؛ لأنَّه يَجوزُ أن يَكونَ المُرادُ بالأمرِ هو اعتِقادَ الوُجوبِ، والعَزمَ على الفِعلِ إذا حَضَرَ وقتُه، ويَكونُ اللهُ تعالى قدِ ابتَلى عِبادَه بهذا القَدرِ، وهو ابتِلاءٌ صحيحٌ؛ لأنَّ الإيمانَ رَأسُ الطَّاعاتِ، فيَجوزُ ابتِلاءُ اللهِ تعالى عِبادَه بقَبولِ هذه العِبادةِ إيمانًا [225] يُنظر: ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/433). .
وقيلَ: لا يَجوزُ النَّسخُ قَبلَ دُخولِ وَقتِ الفِعلِ. وهو قَولُ بَعضِ الحَنَفيَّةِ [226] يُنظر: ((الفصول)) للجصاص (2/233)، ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (3/49)، ((تيسير التحرير)) لأمير بادشاه (3/187). ، وبَعضِ الشَّافِعيَّةِ [227] يُنظر: ((اللمع)) للشيرازي (ص: 56)، ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/431)، ((البحر المحيط)) للزركشي (5/227). ، وبَعضِ الحَنابِلةِ [228] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (3/808)، ((أصول الفقه)) لابن مفلح (3/1124)، ((شرح مختصر أصول الفقه)) للجراعي (3/145). .

انظر أيضا: