موسوعة أصول الفقه

المَطلَبُ الحادي والعِشرونَ: هل نَسخُ جُزءٍ مِنَ العِبادةِ أو شَرطِها نَسخٌ لها بالكامِلِ؟


اتَّفقَ الأصوليُّونَ على أنَّ نَسخَ ما لا تَتَوقَّفُ العِبادةُ عليه يَكونُ نَسخًا له دونَ باقي العِبادةِ، كما لو قال: أوجَبتُ عليك الصَّلاةَ والزَّكاةَ، ثُمَّ قال: نَسختُ الزَّكاةَ. كما اتَّفقوا على أنَّ نَسخَ جُزءٍ مِنَ العِبادةِ، كَرَكعةٍ مِن رَكَعاتِها، أو شَرطٍ، كالطَّهارةِ أوِ استِقبالِ القِبلةِ: يَكونُ نَسخًا لذلك الجُزءِ أوِ الشَّرطِ [498] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (3/373)، ((الإحكام)) للآمدي (3/178)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (6/2407)، ((البحر المحيط)) للزركشي (5/315)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (4/555). قال الشَّوكانيُّ: (لا خِلافَ في أنَّ النُّقصانَ مِنَ العِبادةِ نَسخٌ لِما أُسقِطَ مِنها؛ لأنَّه كان واجِبًا في جُملةِ العِبادةِ، ثُمَّ أزيلَ وجوبُه. ولا خِلافَ أيضًا في أنَّ ما لا يَتَوقَّفُ عليه صِحَّةُ العِبادةِ لا يَكونُ نَسخُه نَسخًا لها). ((إرشاد الفحول)) (2/83). .
واختَلَفوا في نَسخِ ما تَتَوقَّفُ عليه صِحَّةُ العِبادةِ، سَواءٌ كان جُزءًا لها، كالشَّطرِ، أو خارِجًا كالشَّرطِ: هَل يَكونُ نَسخًا لأصلِ العِبادةِ [499] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (5/315)، ((إرشاد الفحول)) للشوكاني (2/83). ؟
والرَّاجِحُ: أنَّ ذلك ليس نَسخًا لأصلِ العِبادةِ مُطلَقًا، سَواءٌ كان المَنسوخُ جُزءًا مِن مَفهومِ العِبادةِ، كالرَّكعةِ مِن صَلاةِ الظُّهرِ مَثَلًا، أم شَرطًا خارِجًا عن مَفهومِ الصَّلاةِ، كالوُضوءِ. وإنَّما هو بمَثابةِ تَخصيصِ العامِّ. وهو مَذهَبُ بَعضِ الحَنَفيَّةِ [500] يُنظر: ((بذل النظر)) للأسمندي (ص: 361)، ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (3/77)، ((تيسير التحرير)) لأمير بادشاه (3/220)، ((فواتح الرحموت)) للكنوي (2/113). ، وجُمهورِ الشَّافِعيَّةِ [501] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (5/315)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (4/1855). ، والحَنابِلةِ [502] يُنظر: ((المسودة)) لآل تيمية (ص: 212)، ((أصول الفقه)) لابن مفلح (3/1185)، ((شرح مختصر أصول الفقه)) للجراعي (3/180)، ((التحبير)) للمرداوي (6/3105)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (3/584). ، وقال الأصفهانيُّ: (إنَّه الحَقُّ)، وصَحَّحه الزَّركَشيُّ [503] يُنظر: ((البحر المحيط)) (5/315). .
قال إمامُ الحَرَمَينِ: (وما صارَ إليه الجُمهورُ مِنَ المُتَكَلِّمينَ والفُقَهاءِ: أنَّ ذلك لا يَكونُ نَسخًا لها) [504] ((التلخيص)) (2/535). .
وعلى ذلك: إذا كانتِ الصَّلاةُ أربَعَ رَكَعاتٍ، فكُلُّ رَكعَتَينِ مِنها واجِبةٌ، فنَسخُ أحَدِ الواجِبَينِ لا يوجِبُ نَسخَ الواجِبِ الآخَرِ. وكذلك إذا كانتِ الصَّلاةُ واجِبةً، والطَّهارةُ شَرطٌ فيها، فنَسخُ اشتِراطِ الطَّهارةِ لا يَكونُ موجِبًا لنَسخِ وُجوبِ الصَّلاةِ، بَلِ الوُجوبُ باقٍ بحالِه، فلا نَسخَ [505] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (3/178). .
الأدِلَّةُ:
1- أنَّ النَّسخَ لا يَتَناولُ صورةَ الفِعلِ، ولا هو نَسخٌ لوُجوبِ الرَّكَعاتِ، ولا لكَونِها شَرعيَّةً مُجزِئةً؛ لأنَّ ذلك باقٍ لم يَرتَفِعْ؛ فإنَّ الباقيَ مِنَ الجُملةِ على ما كان عليه لم يَزُلْ، فلم يَجُزْ أن يُحكَمَ بنَسخِه، كما لو أمَرَ بصَومٍ وصَلاةٍ، ثُمَّ نَسَخَ أحَدَهما؛ فإنَّه لا يَكونُ نَسخًا للثَّاني [506] يُنظر: ((المعتمد)) لأبي الحسين البصري (1/415)، ((اللمع)) للشيرازي (ص: 62)، ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/449). ، ولَو كان نَسخًا للعِبادةِ لافتَقَرَت في وُجوبِها إلى دَليلٍ آخَرَ غَيرِ الدَّليلِ الأوَّلِ، وهذا باطِلٌ بالِاتِّفاقِ [507] يُنظر: ((شرح مختصر أصول الفقه)) للجراعي (3/180)، ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (3/77)، ((إرشاد الفحول)) للشوكاني (2/84). .
2- القياسُ على التَّخصيصِ؛ فإنَّ النَّسخَ جارٍ مَجرى التَّخصيصِ في بابِ كَونِ كُلِّ واحِدٍ مِنهما رافِعًا لبَعضِ ما تَناولَه اللَّفظُ، وكان تَخصيصُ بَعضِ ما تَضمَّنه العُمومُ لا يوجِبُ سُقوطَ جَميعِه، فكذلك نَسخُ بَعضِه لا يوجِبُ نَسخَ جَميعِه، ولَو كان نَسخُ بَعضِها نَسخًا للجَميعِ لَكان تَخصيصُ بَعضِها تَخصيصًا للجَميعِ، فلَمَّا بَطَلَ أن يُقالَ هذا في التَّخصيصِ بَطَل أن يُقالَ مِثلُه في النَّسخِ [508] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (3/838)، ((التبصرة)) للشيرازي (ص: 281). .
قال الرَّازيُّ: (نَسخُ أحَدِ الجُزأينِ لا يَقتَضي نَسخَ الجُزءِ الآخَرِ؛ وذلك لأنَّ الدَّليلَ المُقتَضيَ للكُلِّ كان مُتَناوِلًا للجُزأينِ، فخُروجُ أحَدِ الجُزأينِ لا يَقتَضي خُروجَ الجُزءِ الآخَرِ، كسائِرِ أدِلَّةِ التَّخصيصِ) [509] ((المحصول)) (3/374). .
3- أنَّ النَّسخَ: هو الرَّفعُ والإزالةُ، وذلك إنَّما يَتَناولُ الشَّرطَ والجُزءَ خاصَّةً، فأمَّا ما سِوى ذلك فهو باقٍ بحالِه، والصَّلاةُ كانت تُفعَلُ إلى بَيتِ المَقدِسِ كما تُفعَلُ الآنَ إلى الكَعبةِ، وتَغَيَّرَتِ القِبلةُ، فكان ذلك نَسخًا للقِبلةِ دونَ الصَّلاةِ؛ فإنَّ اللَّهَ تعالى لمَّا نَسَخَ التَّوجُّهَ إلى بَيتِ المَقدِسِ لم يوجِبْ ذلك نَسخَ أوصافِ الصَّلاةِ، فوجَبَ أن يَكونَ على ما كان عليه، فكذلك إذا نَسَخَ مِنها رَكعةً فما بَقيَ مِنَ الرَّكَعاتِ بحالِها لم يَزُلْ، فلم توصَفْ بالنَّسخِ [510] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (3/838)، ((شرح مختصر أصول الفقه)) للجراعي (3/181). .
وقيلَ: نُقصانُ العِبادةِ يَكونُ نَسخًا لأصلِها مُطلَقًا، سَواءٌ كان نَسخًا لرُكنٍ أو شَرطٍ. وهو مَذهَبُ بَعضِ الحَنَفيَّةِ [511] يُنظر: ((فواتح الرحموت)) للكنوي (2/113). ، كالسَّرَخسيِّ [512] يُنظر: ((أصول السرخسي)) (2/70). ، والبَزْدَويِّ [513] يُنظر: ((أصول البزدوي)) (ص: 506). ، وبَعضِ المالِكيَّةِ، كابنِ رُشدٍ [514] يُنظر: ((الضروري في أصول الفقه)) (ص: 84). .
وقيلَ بالتَّفريقِ بَينَ الجُزءِ والشَّرطِ؛ فالعِبادةُ إن نَقَصَ مِنها رُكنٌ كَرَكعةٍ، أو شَرطٌ مُتَّصِلٌ بها كالقِبلةِ، فهو نَسخٌ لأصلِها، وإن نَقصَ مِنها شَرطٌ مُنفصِلٌ، كالوُضوءِ، فلَيسَ نَسخًا لأصلِها. واختارَه القاضي عَبدُ الجَبَّارِ [515] يُنظر: ((المعتمد)) لأبي الحسين البصري (1/415). ، والغَزاليُّ [516] يُنظر: ((المستصفى)) (ص: 93)؛ حَيثُ قال: (وكَشفُ الغِطاءِ عِندَنا أن نَقولَ: إذا أوجَبَ أربَعَ رَكَعاتٍ ثُمَّ اقتَصَرَ على رَكعَتَينِ، فقد نَسَخَ أصلَ العِبادةِ؛ لأنَّ حَقيقةَ النَّسخِ الرَّفعُ والتَّبديلُ، ولقد كان حُكمُ الأربَعِ الوُجوبَ، فنُسِخَ وُجوبُها بالكُلِّيَّةِ، والرَّكعَتانِ عِبادةٌ أخرى لا أنَّها بَعضٌ مِنَ الأربَعةِ؛ إذ لو كانت بَعضًا لكان مَن صَلَّى الصُّبحَ أربَعًا فقد أتى بالواجِبِ وزيادةٍ، كما لو صَلَّى بتسليمتَينِ، وكما لو وجَبَ عليه دِرهَمٌ فتَصَدَّق بدِرهَمَينِ... وأمَّا إذا أُسقِطَتِ الطَّهارةُ فقد نُسِخَ وُجوبُ الطَّهارةِ، وبَقيَتِ الصَّلاةُ واجِبةً). ، وصَحَّحه القُرطُبيُّ [517] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (5/315). .
وقيلَ: إنَّ المَنسوخَ إن كان مِمَّا لا تُجزِئُ العِبادةُ قَبلَ النَّسخِ إلَّا به فنَسخُه نَسخٌ لأصلِها، سَواءٌ في ذلك الجُزءُ والشَّرطُ، وإن كان مِمَّا تُجزِئُ العِبادةُ قَبلَ النَّسخِ مَعَ عَدَمِه، كالوُقوفِ عن يَمينِ الإمامِ وسَترِ الرَّأسِ، فلَيسَ بنَسخٍ لأصلِها. واختارَه القاضي الباقِلَّانيُّ [518] يُنظر: ((التلخيص)) لإمام الحرمين (2/536). ، وصَحَّحه الباجيُّ [519] يُنظر: ((إحكام الفصول)) (1/416). .

انظر أيضا: