المَطلَبُ الثَّاني والعِشرونَ: أنواعُ المَنسوخِ
قَسَّمَ الأصوليُّونَ النَّسخَ إلى عِدَّةِ أقسامٍ
[520] يُنظر: ((الفوائد السنية)) للبرماوي (4/1800). ويُنظر أيضًا: ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/426)، ((البحر المحيط)) للزركشي (5/252)، ((التحبير)) للمرداوي (6/3035)، ((إرشاد الفحول)) للشوكاني (2/63). .
أوَّلًا: نَسخُ الحُكمِ والتِّلاوةِالجُمهورُ على جَوازِ نَسخِ الحُكمِ والتِّلاوةِ مَعًا
[521] يُنظر: ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (2/528)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (4/493). ، مِنهمُ الجَصَّاصُ
[522] يُنظر: ((الفصول)) (2/255). ، وابنُ قُدامةَ
[523] يُنظر: ((روضة الناظر)) (1/230). ، والهِنديُّ
[524] يُنظر: ((نهاية الوصول)) (6/2307)، ((الفائق)) (2/71). ، ونَقل الآمِديُّ اتِّفاقَ العُلَماءِ عليه
[525] قال: (اتَّفقَ العُلَماءُ على جَوازِ نَسخِ التِّلاوة دونَ الحُكمِ، وبِالعَكسِ، ونَسخِهما مَعًا، خِلافًا لطائِفةٍ شاذَّةٍ مِنَ المُعتَزِلةِ). ((الإحكام)) (3/141). .
الأدِلَّةُ:1- أنَّ التِّلاوةَ والحُكمَ عِبادَتانِ مُتَبايِنَتانِ، أي: حُكمانِ مُتَبايِنانِ، فجازَ رَفعُ أحَدِهما وبَقاءُ الآخَرِ، وجاز رَفعُهما مَعًا؛ إذ ليس في ذلك كُلِّه ما يُحيلُه كَسائِرِ الأحكامِ
[526] يُنظر: ((التمهيد)) للكلوذاني (2/368)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (2/273)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (4/493). .
2- الوُقوعُ
[527] يُنظر: ((بديع النظام)) لابن الساعاتي (2/530)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (6/2308)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (5/1681). ، كما سَيَأتي في الأمثِلةِ التَّاليةِ.
أمثِلةُ نَسخِ الحُكمِ والتِّلاوةِ:1- نَسخُ كُتُبِ اللَّهِ تعالى القديمةِ التي ذَكَرَها في كِتابِه في قَولِه تعالى:
إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى [الأعلى: 18-19] ، ولا نَعرِفُ اليَومَ مِنها شَيئًا
[528] يُنظر: ((الفصول)) للجصاص (2/253)، ((تقويم الأدلة)) للدبوسي (ص: 231). .
2- قَولُ أمِّ المُؤمِنينَ عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها: (كان فيما أنزَلَ اللهُ تعالى: "عَشرُ رَضَعاتٍ يُحَرِّمنَ"، ثُمَّ نُسِخنَ بخَمسٍ)
[529] عن عائِشةَ أنَّها قالت: كان فيما أُنزِلَ مِنَ القُرآنِ: عَشرُ رَضَعاتٍ مَعلوماتٍ يُحَرِّمنَ، ثُمَّ نُسِخنَ بخَمسٍ مَعلوماتٍ، فتوُفِّيَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهنَّ فيما يُقرَأُ مِنَ القُرآنِ. أخرجه مسلم (1452). ، وليس في المُصحَفِ عَشرُ رَضَعاتٍ مُحَرِّماتٍ، ولا حُكمُها، فهما مَنسوخانِ، وهذا نَسخٌ لتِلاوتِه وحُكمِه؛ فلم يَبقَ لهذا اللَّفظِ حُكمُ القُرآنِ، لا في الِاستِدلالِ ولا في غَيرِه
[530] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (3/141)، ((شرح المعالم)) لابن التلمساني (2/51)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (3/557). .
وقيلَ: لا يَجوزُ نَسخُ الحُكمِ والتِّلاوةِ، وهو قَولُ طائِفةٍ شاذَّةٍ مِنَ المُعتَزِلةِ
[531] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (3/141)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (6/2307)، ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (2/528). .
ثانيًا: نَسخُ الحُكمِ دونَ التِّلاوةِيَجوزُ نَسخُ الحُكمِ دونَ التِّلاوةِ، وهو مَذهَبُ جُمهورِ الفُقَهاءِ
[532] يُنظر: ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (3/189)، ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (2/528). ، مِنهمُ القاضي أبو يَعلى
[533] يُنظر: ((العدة)) (3/780). ، والغَزاليُّ
[534] ((المنخول)) (ص: 392). ، وابنُ التِّلِمسانيِّ
[535] يُنظر: ((شرح المعالم)) (2/51). . ونَقَلَ الآمِديُّ اتِّفاقَ العُلَماءِ عليه
[536] قال: (اتَّفقَ العُلَماءُ على جَوازِ نَسخِ التِّلاوةِ دونَ الحُكمِ، وبِالعَكسِ، ونَسخِهما مَعًا، خِلافًا لطائِفةٍ شاذَّةٍ مِنَ المُعتَزِلةِ). ((الإحكام)) (3/141). .
والفائِدةُ في بَقاءِ التِّلاوةِ دونَ الحُكمِ: ما يَحصُلُ مِنَ العِلمِ بأنَّ اللَّهَ تعالى أزالَ مِثلَ هذا الحُكمِ؛ رَحمةً مِنه على عِبادِه
[537] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (3/322)، ((شرح تنقيح الفصول) للقرافي (ص: 309). .
الأدِلَّةُ:1- أنَّ الحُكمَ والتِّلاوةَ عِبادَتانِ مُنفصِلَتانِ، وكُلُّ ما كان كذلك فإنَّه يَجوزُ نَسخُهما مَعًا، ونَسخُ إحداهما دونَ الأخرى
[538] يُنظر: ((التمهيد)) للكلوذاني (2/368)، ((المحصول)) للرازي (3/322)، ((شرح تنقيح الفصول) للقرافي (ص: 309). .
2- الوُقوعُ
[539] يُنظر: ((بذل النظر)) للأسمندي (ص: 330)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (5/1681). ، كما سَيَأتي في الأمثِلةِ الآتيةِ.
أمثِلةُ نَسخِ الحُكمِ دونَ التِّلاوةِ:1- نَسخُ الِاعتِدادِ بالحَولِ الكامِلِ بالِاعتِدادِ بأربَعةِ أشهُرٍ وعَشرٍ في حَقِّ المُتَوفَّى عنها زَوجُها، مَعَ بَقاءِ لَفظِ المَنسوخِ في القُرآنِ؛ قال اللهُ تعالى:
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ [البقرة: 240] ، نُسِخ بقَولِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ:
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة: 234] [540] يُنظر: ((العدة)) (3/780)، ((بذل النظر)) للأسمندي (ص: 330)، ((المحصول)) للرازي (3/322)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (4/492). .
2- نَسخُ إمساكِ الزَّواني في البُيوتِ، والإيذاءِ باللِّسانِ، كما في قَولِ اللهِ تعالى:
وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا * وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا [النساء: 15-16] ؛ فإنَّه كان حَدًّا، ثُمَّ صارَ مَنسوخًا، وبَقيَتِ التِّلاوةُ
[541] يُنظر: ((ميزان الأصول)) لعلاء الدين السمرقندي (ص: 721)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (3/189). .
قال الشَّافِعيُّ: (نَسَخَ اللهُ الحَبسَ والأذى في كِتابِه، فقال:
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور: 2] )
[542] ((الرسالة)) (ص: 129). .
وقيلَ: لا يَجوزُ نَسخُ الحُكمِ دونَ التِّلاوةِ؛ لأنَّ المَقصودَ الأصليَّ مِن إنزالِ القُرآنِ هو الحُكمُ الذي تعَلَّق به، فإذا انتَسَخَ الحُكمُ فلا فائِدةَ في بَقاءِ التِّلاوةِ
[543] يُنظر: ((ميزان الأصول)) لعلاء الدين السمرقندي (ص: 722)، ((روضة الناظر)) لابن قدامة (1/230)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (4/1800). ، وهو قَولُ طائِفةٍ شاذَّةٍ مِنَ المُعتَزِلةِ
[544] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (3/141)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (3/189). .
قال البِرْماويُّ: (وهو قادِحٌ في دَعوى بَعضِهمُ الإجماعَ على الجَوازِ)
[545] ((الفوائد السنية)) (4/1800). .
ثالِثًا: نَسخُ التِّلاوةِ دونَ الحُكمِيَجوزُ نَسخُ التِّلاوةِ دونَ الحُكمِ، وهو قَولُ عامَّةِ الفُقَهاءِ
[546] يُنظر: ((ميزان الأصول)) لعلاء الدين السمرقندي (ص: 722)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (3/189). ، ونَقَل الآمِديُّ اتِّفاقَ العُلَماءِ عليه
[547] قال: (اتَّفقَ العُلَماءُ على جَوازِ نَسخ التِّلاوةِ دونَ الحُكمِ، وبِالعَكسِ، ونَسخِهما مَعًا، خِلافًا لطائِفةٍ شاذَّةٍ مِنَ المُعتَزِلةِ). ((الإحكام)) (3/141). .
وذلك لأنَّ التِّلاوةَ حُكمٌ زائِدٌ غَيرُ العَمَلِ بموجِبِ النَّصِّ؛ وذلك لأنَّ الأحكامَ مَرَّةً تَثبُتُ بوَحيٍ مَتلوٍّ كالقُرآنِ، ومَرَّةً بوَحيٍ غَيرِ مَتلوٍّ مِمَّا أوحى اللهُ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا قُرآنًا، فكان وُجوبُ التِّلاوةِ للقُرآنِ حُكمًا زائِدًا مَخصوصًا به للتَّشريفِ والإظهارِ مِن حَيثُ إنَّه مُعجِزٌ تامُّ البَقاءِ
[548] يُنظر: ((تقويم النظر)) للدبوسي (ص: 232). . فالحُكمُ والتِّلاوةُ عِبادَتانِ مُنفصِلَتانِ، وكُلُّ ما كان كذلك فإنَّه يَجوزُ نَسخُهما مَعًا، ونَسخُ إحداهما دونَ الأخرى
[549] يُنظر: ((التمهيد)) للكلوذاني (2/368)، ((المحصول)) للرازي (3/322)، ((شرح تنقيح الفصول) للقرافي (ص: 309). .
أمثِلةُ نَسخِ التِّلاوةِ دونَ الحُكمِ:1- أنَّ الرَّجمَ كان مَشروعًا بكِتابِ اللهِ تعالى، ثُمَّ نُسِخَت تِلاوتُه، وبَقيَ حُكمُه
[550] يُنظر: ((ميزان الأصول)) لعلاء الدين السمرقندي (ص: 721)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (3/190)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (5/1682). ؛ فقد جاءَ عن عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنه أنَّه قال:
((قد خَشِيتُ أن يَطولَ بالنَّاسِ زَمانٌ حتَّى يَقولَ قائِلٌ: ما أجِدُ الرَّجمَ في كِتابِ اللهِ، فيَضِلُّوا بتَركِ فريضةٍ مِن فرائِضِ اللهِ، ألَا وإنَّ الرَّجمَ حَقٌّ، إذا أُحصِنَ الرَّجُلُ وقامَتِ البَيِّنةُ، أو كان حَملٌ أوِ اعتِرافٌ، وقد قَرَأتُها: "الشَّيخُ والشَّيخةُ إذا زَنَيا فارجُموهما البَتَّةَ"، رَجَم رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ورَجَمنا بَعدَه)) [551] أخرجه البخاري (6829)، ومسلم (1691) باختلافٍ يسيرٍ، ولفظُ مُسلِمٍ: عن عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ يَقولُ: قال عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ وهو جالِسٌ على مِنبَرِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّ اللَّهَ قد بَعَثَ مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالحَقِّ، وأنزَلَ عليه الكِتابَ، فكان مِمَّا أُنزِلَ عليه آيةُ الرَّجمِ، قَرَأناها ووعَيناها وعَقَلناها، فرَجَمَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ورَجَمنا بَعدَه، فأخشى إن طالَ بالنَّاسِ زَمانٌ أن يَقولَ قائِلٌ: ما نَجِدُ الرَّجمَ في كِتابِ اللهِ، فيَضِلُّوا بتَركِ فريضةٍ أنزَلَها اللهُ، وإنَّ الرَّجمَ في كِتابِ اللهِ حَقٌّ على مَن زَنى إذا أُحصِنَ مِنَ الرِّجالِ والنِّساءِ، إذا قامَتِ البَيِّنةُ، أو كان الحَبَلُ، أوِ الِاعتِرافُ. .
2- قَولُ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنه: (إنَّا كُنَّا نَقرَأُ فيما نَقرَأُ مِن كِتابِ اللهِ: أن لا تَرغَبوا عن آبائِكُم؛ فإنَّه كُفرٌ بكُم أن تَرغَبوا عن آبائِكُم، أو إنَّ كُفرًا بكُم أن تَرغَبوا عن آبائِكُم)
[552] أخرجه البخاري (6830). ؛ فقد نَصَّ على أنَّه كان مِنَ القُرآنِ
[553] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (3/324)، ((شرح تنقيح الفصول) للقرافي (ص: 309). .
وقيلَ: لا يَجوزُ نَسخُ التِّلاوةِ دونَ الحُكمِ؛ لأنَّ المَقصودَ الأصليَّ مِن إنزالِ القُرآنِ هو الحُكمُ الذي تَعَلَّقَ به، فإذا انتَسَخَتِ التِّلاوةُ -والحُكمُ ثَبَتَ بها- فلا يَبقى بدونِها
[554] يُنظر: ((ميزان الأصول)) لعلاء الدين السمرقندي (ص: 722)، ((بذل النظر)) للأسمندي (ص: 331). . وهو قَولُ طائِفةٍ شاذَّةٍ مِنَ المُعتَزِلةِ
[555] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (3/141)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (3/189). .