موسوعة أصول الفقه

المَسألةُ الثَّالِثةُ: طُرُقُ التَّرجيحِ التي تَرجِعُ إلى أمرٍ خارِجيٍّ


أوَّلًا: أن يَكونَ أحَدُ الدَّليلَينِ موافِقًا لدَليلٍ آخَرَ مِن كِتابٍ أو سُنَّةً أو إجماعٍ أو قياسٍ
وهو المَعروفُ بالتَّرجيحِ بكَثرةِ الأدِلَّةِ، فيُرَجَّحُ على مَعارِضِه الذي ليس كذلك، وهو مَذهَبُ المالِكيَّةِ [764] قال القَرافيُّ: (مَذهَبُنا ومَذهَبُ الشَّافِعيِّ التَّرجيحُ بكَثرةِ الأدِلَّةِ، خِلافَ القَومِ؛ لأنَّ كَثرةَ الأدِلَّةِ توجِبُ مَزيدَ الظَّنِّ بالمَدلولِ، فيَكونُ مِن بابِ القَضاءِ بالرَّاجِحِ). ((شرح تنقيح الفصول)) (ص: 420). ، والشَّافِعيَّةِ [765] قال الشَّافِعيُّ: (الأحاديثُ إذا اختَلَفت لم نَذهَبْ إلى واحِدٍ مِنها دونَ غَيرِه إلَّا بسَبَبٍ يَدُلُّ على أنَّ الذي ذَهَبنا إلَيه أقوى مِنَ الذي تَرَكنا، قال: وما ذلك السَّبَبُ؟ قُلتُ: أن يَكونَ أحَدُ الحَديثَينِ أشبَهَ بكِتابِ اللهِ، فإذا أشبَهَ كِتابَ اللهِ كانت فيه الحُجَّةُ). (الرسالة) (ص: 284). وقال صَفِيُّ الدِّينِ الهِنديُّ: (ذَهَبَ الشَّافِعيُّ ومالِكٌ رَضِيَ اللهُ عنهما إلى أنَّه يَجوزُ التَّرجيحُ بكَثرةِ الأدِلَّةِ، خِلافًا للحَنَفيَّةِ). ((نهاية الوصول)) (8/3656). ويُنظر: ((المحصول)) للرازي (5/401)، ((الإحكام)) للآمدي (4/264)، ((تخريج الفروع على الأصول)) للزنجاني (ص: 376)، ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (4/630). ، والحَنابِلةِ [766] قال أبو يَعلى: (وأمَّا التَّرجيحُ الذي لا يَعودُ إلى الإسنادِ والمَتنِ وإنَّما هو إلى غَيرِهما، فمِن وُجوهٍ: أحَدُها: أن يَكونَ أحَدُهما موافِقًا لظاهرِ القُرآنِ، أو موافِقًا لسُنَّةٍ أخرى؛ فيُقدَّمُ بذلك). ((العدة)) (3/1047،1046). ويُنظر أيضًا: ((الواضح)) لابن عقيل (5/97)، ((المسودة)) لآل تيمية (ص: 311)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/707)، ((الجامع لعلوم الإمام أحمد)) (5/143). ؛ وذلك لأنَّ العَمَلَ به وإن أفضى إلى مُخالَفةِ مُقابِلِه فهو دَليلٌ واحِدٌ، لَكِنَّ العَمَلَ بالآخَرِ يَلزَمُ مِنه مُخالَفةُ دَليلَينِ، والعَمَلُ بما يَلزَمُ مَعَه مُخالَفةُ دَليلٍ أَولى مِمَّا يَلزَمُ مَعَه مُخالَفةُ دَليلَينِ، ولأنَّ الأماراتِ متى كانت أكثَرَ كان الظَّنُّ أقوى، ومَتى كان الظَّنُّ أقوى تعَيَّن العَمَلُ به [767] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (5/401-403)، ((تخريج الفروع على الأصول)) للزنجاني (ص: 376)، ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 420)، ((الفائق)) (2/345)، ((نهاية الوصول)) (8/3657) كلاهما لصفي الدين الهندي، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (4/78). .
ومِثالُه: تَقديمُ خَبَرِ عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها في التَّغليسِ [768] عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يُصَلِّي الصُّبحَ بغَلَسٍ، فيَنصَرِفنَ نِساءُ المُؤمِنينَ لا يُعرَفنَ مِنَ الغَلَسِ -أو لا يَعرِفُ بَعضُهنَّ بَعضًا. أخرجه البخاري (872) واللَّفظُ له، ومسلم (645). على حَديثِ رافِعٍ في الإسفارِ [769] عن رافِعِ بنِ خَديجٍ، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: أسفِروا بالفجرِ؛ فإنَّه أعظَمُ للأجرِ. أخرجه الترمذي (154) واللَّفظُ له، والنسائي (548) مُختَصَرًا. صَحَّحه الترمذي، وابن حبان في ((صحيحه)) (1490)، وابن حزم في ((المحلى)) (3/188)، وابن تيمية في ((الفتاوى الكبرى)) (5/83)، وابن باز في ((مجموع الفتاوى)) (10/392)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (154). ؛ لموافقةِ حَديثِ عائِشةَ قَولَ اللهِ تعالى: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى [البقرة: 238] ، وقَولَه تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [آل عمران: 133] ، فإذا حَلَّ الوقتُ فأَولى المُصَلِّينَ بالمُحافَظةِ المُقدِّمُ للصَّلاةِ [770] يُنظر: ((الرسالة)) للشافعي (ص: 285)، ((العدة)) لأبي يعلى (3/1047،1046)، ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (4/630). .
ومِثلُ قَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا نِكاحَ إلَّا بوَليٍّ)) [771] أخرجه أبو داود (2085)، والترمذي (1101)، وابن ماجه (1881) من حديثِ أبي موسى الأشعَريِّ رَضِيَ اللهُ عنه. صَحَّحه يحيى بن مَعين كما في ((كشاف القناع)) للبهوتي (5/48)، وعلي بن المديني كما في ((الخلافيات)) للبيهقي (3955)، والإمام أحمد كما في ((شرح الزركشي)) (9/5)، وابن حبان في ((صحيحه)) (4077). مُرَجَّحٌ على خَبَرِ: ((الثَّيِّبُ أحَقُّ بنَفسِها)) [772] أخرجه مسلم (1421) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما. ، بحَديثِ عائِشةَ عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أيُّما امرَأةٍ نَكَحَت بغَيرِ إذنِ وَليِّها فنِكاحُها باطِلٌ)) [773] أخرجه أبو داود (2083)، والترمذي (1102) واللَّفظُ له، وابن ماجه (1879) من حديثِ عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها. صَحَّحه ابنُ معين والإمام أحمد كما في ((المقرر على أبواب المحرر)) ليوسف بن ماجد (2/112)، وابن حبان في ((صحيحه)) (4074)، والحاكم على شرط الشيخين في ((المستدرك)) (2706). ؛ لأنَّ ظاهرَ القُرآنِ والسُّنَّةِ حُجَّةٌ في أنفُسِهما، فأَولى أن يُرجَّحَ بهما الخَبَرُ [774] يُنظر: ((الواضح)) لابن عقيل (5/98)، ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (4/630). .
وقيلَ: لا تَرجيحَ بكَثرةِ الأدِلَّةِ، وهو مَذهَبُ الحَنَفيَّةِ [775] يُنظر: ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (4/79). ، وبه قال أبو حَنيفةَ، وأبو يوسُفَ [776] قال ابنُ عبدِ الشَّكورِ: (لا تَرجيحَ بكَثرةِ الأدِلَّةِ والرُّواةِ ما لم تَبلُغْ حَدَّ الشُّهرةِ عِند أبي حَنيفةَ وأبي يوسُفَ، خِلافًا للأكثَرِ). ((مسلم الثبوت)) (2/165). ويُنظر: ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (4/79)، ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (3/33). .
ثانيًا: التَّرجيحُ بالعَمَلِ بالخَبَرِ
إذا تَعارَضَ حَديثانِ إلَّا أنَّ أحَدَهما عَمِلَ به الصَّحابةُ أوِ الأئِمَّةُ المُجتَهِدونَ فإنَّه يُرَجَّحُ على مَعارِضِه مِمَّا لم يُعمَلْ به [777] يُنظر: ((المستصفى)) للغزالي (ص: 377)، ((الواضح)) لابن عقيل (5/101،100)، ((الإحكام)) للآمدي (4/264)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/709،708)، ((رفع الحاجب)) (4/631)، ((الإبهاج)) (7/ 2828) كلاهما لابن السبكي. ، وهو اختيارُ الشَّافِعيِّ [778] قال إمامُ الحَرَمَينِ: (إذا تَعارَضَ خَبَرانِ صحيحانِ، وعَمِلَ بأحَدِهما أئِمَّةٌ مِنَ الصَّحابةِ، فقد رَأى الشَّافِعيُّ تَرجيحَ ذلك الخَبَرِ على الخَبَرِ الذي عارَضَه، ولم يَصِحَّ العَمَلُ به). يُنظر: ((البرهان)) (2/191). ، واختارَه أحمَدُ فيما عَمِلَ به أحَدُ الخُلَفاءِ الأربَعةِ [779] قال أبو يَعلى: (أن يَكونَ أحَدُهما عَمِل به الأئِمَّةُ الأربَعةُ، كما قدَّمنا رِوايةَ مَن رَوى في تَكبيراتِ العيدَينِ سَبعًا وخَمسًا على رِوايةِ مَن رَوى أربَعًا، كَأربَعِ الجَنائِزِ؛ لأنَّه عَمِلَ به أبو بَكرٍ وعُمَرُ وعُثمانُ وعَليٌّ رَضِيَ اللهُ عنهم، وقد نَصَّ أحمَدُ رَحِمَه اللهُ على هذا في مَواضِعَ). ((العدة)) (3/1050). ويُنظر: ((روضة الناظر)) لابن قدامة (2/397). ، ومِمَّنِ اختارَه: الشِّيرازيُّ [780] يُنظر: ((اللمع)) (ص: 85). ، وأبو المُظَفَّرِ السَّمعانيُّ [781] يُنظر: ((قواطع الأدلة)) (1/407). ، والأسمَنديُّ [782] يُنظر: ((بذل النظر)) (ص: 489). ، وأبو بَكرٍ الهَمدانيُّ [783] يُنظر: ((الاعتبار في الناسخ والمنسوخ)) (ص: 17). ؛ وذلك لأنَّ هذه الأمورَ مِمَّا تَغلِبُ على الظَّنِّ قوَّتُه في الدَّلالةِ [784] يُنظر: ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/408)، ((الإحكام)) للآمدي (4/264)، ((المحصول)) لابن العربي (ص: 150)، ((شرح العضد على مختصر المنتهى)) (3/668)، ((البحر المحيط)) للزركشي (8/206)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (8/3740). ، ولأنَّ عَمَلَهم به يَدُلُّ على أنَّه آخِرُ الأمرَينِ وأَولاهما [785] يُنظر: ((اللمع)) للشيرازي (ص: 85). .
ومِن ذلك: تَقديمُ الشَّافِعيِّ حَديثَ: ((مَن تَوضَّأ يَومَ الجُمعةِ فبِها ونِعمَت، ومَنِ اغتَسَلَ فالغُسلُ أفضَلُ)) [786] أخرجه أبو داود (354) باختلافٍ يسيرٍ، والترمذي (497)، والنسائي (1380) واللَّفظُ لهما من حديثِ سَمُرةَ بنِ جُندُبٍ رَضِيَ اللهُ عنه. صَحَّحه ابنُ خُزَيمة في ((الصحيح)) (3/238)، وابن المُلَقِّنِ على شرط البخاري في ((خلاصة البدر المنير)) (1/218)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (497). ، على قَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((غُسلُ الجُمُعةِ واجِبٌ)) [787] أخرجه البخاري (879)، ومسلم (846) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُ البخاريِّ: ((غُسلُ يَومِ الجُمُعةِ واجِبٌ على كُلِّ مُحتَلِمٍ)). ؛ وذلك لعَدَمِ عَمَلِ عُثمانَ رَضِيَ اللهُ عنه به، وعَدَمِ إنكارِ عُمَرَ عليه بَعدَ تَذكيرِه له [788] قال الشَّافِعيُّ: (لمَّا حَفِظَ عُمَرُ عن رَسولِ اللهِ أنَّه كان يَأمُرُ بالغُسلِ، وعَلِمَ أنَّ عُثمانَ قد عَلِمَ مِن أمرِ رَسولِ اللهِ بالغُسلِ، ثُمَّ ذَكَرَ عُمَرُ لعُثمانَ أمرَ النَّبيِّ بالغُسلِ، وعَلِم عُثمانُ ذلك، فلَو ذَهَبَ مُتَوهِّمٌ أنَّ عُثمانَ نَسيَ فقد ذَكَّرَه عُمَرُ قَبلَ الصَّلاةِ بنِسيانِه، فلمَّا لم يَترُكْ عُثمانُ الصَّلاةَ للغُسلِ، ولمَّا لم يَأمُرْه عُمَرُ بالخُروجِ للغُسلِ- دَلَّ ذلك على أنَّهما قد عَلِما أنَّ أمرَ رَسولِ اللهِ بالغُسلِ على الِاختيارِ لا على أن لا يُجزِئَ غَيرُه؛ لأنَّ عُمَرَ لم يَكُنْ ليَدَعَ أمْرَه بالغُسلِ ولا عُثمانَ؛ إذ عَلِمنا أنَّه ذاكِرٌ لتَركِ الغُسلِ وأمرِ النَّبيِّ بالغُسلِ، إلَّا والغُسلُ كما وصَفنا على الِاختيارِ). ((الرسالة)) (ص: 304). ويُنظر: ((التعارض والترجيح)) للبرزنجي (2/232،231). .
وقيلَ: لا تَرجيحَ بعَمَلِ بَعضِ الأمَّةِ أو بَعضِ الأئِمَّةِ بموجِبِ أحَدِ الخَبَرَينِ؛ إذ لا يَجِبُ تَقليدُهم، فالمَعمولُ به وغَيرُ المَعمولِ به واحِدٌ، وهو اختيارُ ابنِ حَزمٍ [789] يُنظر: ((الإحكام)) (2/40). ، والغَزاليِّ [790] يُنظر: ((المستصفى)) (ص: 378). .

انظر أيضا: