موسوعة أصول الفقه

المَبحَثُ الثَّالِثُ: شُروطُ الاجتِهادِ


تَنقَسِمُ شُروطُ الاجتِهادِ إلى نَوعَينِ: شُروطٌ عامَّةٌ، وشُروطٌ تَأهيليَّةٌ، وتَفصيلُ هذه الشُّروطِ على النَّحوِ الآتي:
أوَّلًا: الشُّروطُ العامَّةُ للاجتِهادِ
1- التَّكليفُ [11] يُنظَر: ((تقريب الوصول)) لابن جزي (ص: 195)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (5/2220). .
2- العَدالةُ [12] يُنظَر: ((تقريب الوصول)) لابن جزي (ص: 195)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (5/2220). قال ابنُ قُدامةَ: (فأمَّا العَدالةُ فلَيسَت شَرطًا لِكَونِه مُجتَهِدًا... لَكِنَّها شَرطٌ لِجَوازِ الاعتِمادِ على قَولِه، فمَن ليس عَدلًا لا تُقبَلُ فُتياه). ((روضة الناظر)) (2/334). .
3- جَودةُ الحِفظِ وحُسنُ الإدراكِ [13] يُنظَر: ((تقريب الوصول)) لابن جزي (ص: 195)، ذَكَر القَرافيُّ مَن يَتَعَيَّنُ للاجتِهادِ، فقال: (مَن جادَ حِفظُه؛ وحَسُنَ إدراكُه). ((الذخيرة)) (1/ 144). . أي: قوَّةُ الحِفظِ مَعَ قوَّةِ الفَهمِ [14] يُنظَر: ((رفع النقاب)) للشوشاوي (6/ 99). .
ثانيًا: الشُّروطُ التَّأهيليَّةُ للاجتِهادِ
والمُرادُ بها المَعرِفةُ بما يَتَوقَّفُ عليه الاجتِهادُ مِنَ العُلومِ، وهيَ:
1- العِلمُ بكِتابِ اللهِ تعالى:
لا سيَّما آياتُ الأحكامِ، ومَعرِفةُ النَّاسِخِ والمَنسوخِ منه، وغَيرُ ذلك مِن عُلومِه [15] يُنظَر: ((تقريب الوصول)) لابن جزي (ص: 195)، ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (5/ 2322)، ((الوجيز)) لمحمد الزحيلي (2/ 287). ؛ وذلك لأنَّ كِتابَ اللهِ هو الأصلُ، ولا بُدَّ مِن مَعرِفتِه [16] يُنظَر: ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (7/ 2898)، ((البحر المحيط)) للزركشي (8/ 229). .
قال الغَزاليُّ: (لا يُشتَرَطُ مَعرِفةُ جَميعِ الكِتابِ، بَل ما تَتَعَلَّقُ به الأحكامُ منه، وهو مِقدارُ خَمسِمِائةِ آيةٍ... لا يُشتَرَطُ حِفظُها عن ظَهرِ قَلبِه، بَل أن يَكونَ عالِمًا بمَواضِعِها، بحَيثُ يَطلُبُ فيها الآيةَ المُحتاجَ إليها في وقتِ الحاجةِ) [17] ((المستصفى)) (ص: 342- 343). ويُنظَر أيضًا: ((المحصول)) للرازي (6/ 23)، ((روضة الناظر)) لابن قدامة (2/ 334). .
وقال الطُّوفيُّ: (الصَّحيحُ أنَّ هذا التَّقديرَ غَيرُ مُعتَبَرٍ، وأنَّ مِقدارَ أدِلَّةِ الأحكامِ في ذلك غَيرُ مُنحَصِرٍ؛ فإنَّ أحكامَ الشَّرعِ كَما تُستَنبَطُ مِنَ الأوامِرِ والنَّواهي كذلك تُستَنبَطُ مِنَ الأقاصيصِ والمَواعِظِ ونَحوِها، فقَلَّ أن يوجَدَ في القُرآنِ آيةٌ إلَّا ويُستَنبَطُ منها شَيءٌ مِنَ الأحكامِ... وكأنَّ هؤلاء الذينَ حَصَروها في خَمسِمِائةِ آيةٍ إنَّما نَظَروا إلى ما قُصِدَ منه بَيانُ الأحكامِ دونَ ما استُفيدَت منه، ولم يُقصَدْ به بَيانُها) [18] ((شرح مختصر الروضة)) (3/ 577- 578). وقال السَّمعانيُّ: (فإذا كان عالِمًا بأحكامِ القُرآنِ هَل يُشتَرَطُ أن يَكونَ حافِظًا لِتِلاوتِه: فذَهَبَ كَثيرٌ مِن أهلِ العِلمِ إلى أنَّه يَلزَمُ أن يَكونَ حافِظًا لِلقُرآنِ؛ لأنَّ الحافِظَ أضبَطُ لِمَعانيه مِنَ النَّاظِرِ فيه. وقال آخَرونَ: لا يَلزَمُه حِفظُ تِلاوتِه، ويَجوزُ أن يَقتَصِرَ على مُطالَعَتِه والنَّظَرِ فيه، كما في السُّنَنِ. وقال آخَرُ: ويَجِبُ عليه أن يحفَظَ ما اختَصَّ بالأحكامِ، ولا يَلزَمُه أن يَحفظَ منه القِصَصَ والأمثالَ والزَّواجِرَ). ((قواطع الأدلة)) (2/ 304). .
2- مَعرِفةُ حَديثِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وآثارِ أصحابِه رَضِيَ اللهُ عنهم [19] يُنظَر: ((تقريب الوصول)) لابن جزي (ص: 195- 196). :
ولا يُشتَرَطُ فيها الحِفظُ ولا مَعرِفةُ ما لا يَتَعَلَّقُ بالأحكامِ [20] يُنظَر: ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (7/ 2898). ويُنظَر أيضًا: ((المستصفى)) للغزالي (ص: 343). .
قال الزَّركَشيُّ: (المُختارُ أنَّه لا يُشتَرَطُ الإحاطةُ بجَميعِ السُّنَنِ، وإلَّا لانسَدَّ بابُ الاجتِهادِ، وقدِ اجتَهَدَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عنه وغَيرُه مِنَ الصَّحابةِ في مَسائِلَ كَثيرةٍ، ولم يَستَحضِروا فيها النُّصوصَ حتَّى رُوِيَت لهم، فرَجَعوا إليها. قال أبو بَكرٍ الرَّازيُّ: ولا يُشتَرَطُ استِحضارُه جَميعَ ما ورَدَ في ذلك البابِ؛ إذ لا تُمكِنُ الإحاطةُ به، ولو تُصُوِّرَ لَمَا حَضَرَ ذِهنَه عِندَ الاجتِهادِ جَميعُ ما رُوِيَ فيه) [21] ((البحر المحيط)) (8/ 231). .
3- مَعرِفةُ الإجماعِ:
فيَعرِفُ مَواقِعَ الإجماعِ حتَّى لا يُفتيَ بخِلافِه، ولا يَلزَمُه حِفظُ جَميعِه، بَل كُلُّ مَسألةٍ يُفتي فيها يَنبَغي أن يَعلَمَ أنَّ فتواه ليسَت مُخالِفةً للإجماعِ الثَّابِتِ فيها [22] يُنظَر: ((البحر المحيط)) للزركشي (8/ 232). ويُنظَر أيضًا: ((المستصفى)) للغزالي (ص: 343)، ((المحصول)) للرازي (6/ 24)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (7/ 2899). .
4- مَعرِفةُ القياسِ:
فيَعرِفُه بشُروطِه وأركانِه؛ فإنَّه مَناطُ الاجتِهادِ، وأصلُ الرَّأيِ، ومنه يَتَشَعَّبُ الفِقهُ، ويحتاجُ إليه في بَعضِ المَسائِلِ، فمَن لا يَعرِفُ ذلك لا يُمكِنُه الاستِنباطُ في تلك المَواضِعِ [23] يُنظَر: ((البحر المحيط)) للزركشي (8/ 233). ويُنظَر أيضًا: ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (7/ 2899). .
5- المَعرِفةُ بالفِقهِ وحِفظُ مَذاهبِ العُلَماءِ في الأحكامِ الشَّرعيَّةِ [24] يُنظَر: ((تقريب الوصول)) لابن جزي (ص: 195- 196). :
6- المَعرِفةُ بما يَحتاجُ إليه مِن عُلومِ اللُّغةِ العَرَبيَّةِ:
ليَفهَمَ بذلك القُرآنَ والحَديثَ؛ إذ هما بلِسانِ العَرَبِ [25] يُنظَر: ((تقريب الوصول)) لابن جزي (ص: 196). ، فيَعرِفُ القَدرَ الذي يَفهَمُ به خِطابَهم وعادَتَهم في الاستِعمالِ إلى حَدٍّ يُمَيِّزُ به بَينَ صَريحِ الكَلامِ وظاهِرِه، ومُجمَلِه ومُبَيَّنِه، وعامِّه وخاصِّه، وحَقيقَتِه ومَجازِه.
قال أبو إسحاقَ: (يَكفيه مِنَ اللُّغةِ أن يَعرِفَ غالِبَ المُستَعمَلِ، ولا يُشتَرَطُ التَّبَحُّرُ، ومِنَ النَّحوِ: الذي يَصِحُّ به التَّمييزُ في ظاهرِ الكَلامِ، كالفاعِلِ والمَفعولِ، والخافِضِ والرَّافِعِ، وما تَتَّفِقُ عليه المَعاني في الجَمعِ والعَطفِ والخِطابِ والكِناياتِ، والوَصلِ والفَصلِ) [26] يُنظَر: ((البحر المحيط)) للزركشي (8/ 233- 234). .
7- المَعرِفةُ بأصولِ الفِقهِ:
فإنَّه الآلةُ التي يُتَوصَّلُ بها للاجتِهادِ [27] يُنظَر: ((تقريب الوصول)) لابن جزي (ص: 196)، ((المحصول)) للرازي (6/ 25). .
ومِن ذلك مَعرِفةُ الأدِلَّةِ الشَّرعيَّةِ، وكَيفيَّةِ الاستِدلالِ بها [28] يُنظَر: ((التمهيد)) للكلوذاني (4/ 390). . ويَعرِفُ أيضًا وُجوهَ النَّصِّ في العُمومِ والخُصوصِ، والمُفسَّرِ، والمُجمَلِ والمُبَيَّنِ، والمُقَيَّدِ والمُطلَقِ؛ فإن قَصَّرَ فيها لم يَجُزْ له أن يَجتَهِدَ [29] يُنظَر: ((البحر المحيط)) للزركشي (8/ 235). . ولا يَلزَمُه مِن ذلك إلَّا القَدرُ الذي يَتَعَلَّقُ بالكِتابِ والسُّنَّةِ، ويُدرِكُ به مَقاصِدَ الخِطابِ ودَلالةَ الألفاظِ، بحَيثُ تُصبِحُ لدَيه مَلَكةٌ وقُدرةٌ على استِنباطِ الأحكامِ مِن أدِلَّتِها [30] يُنظَر: ((معالم أصول الفقه)) للجيزاني (ص: 473). .

انظر أيضا: