موسوعة أصول الفقه

المَبحَثُ السَّادِسُ: مَراتِبُ المُجتَهِدينَ


المُجتَهِدونَ ليسوا على رُتبةٍ واحِدةٍ؛ فبَينَ مُجتَهِدٍ وآخَرَ دَرَجاتٌ مُتَفاوِتةٌ في العِلمِ والاجتِهادِ؛ فمِنهمُ المُجتَهِدُ المُطلَقُ، ومِنهم مَن يُطلَقُ عليهمُ اسمُ الاجتِهادِ مُقَيَّدًا، ولِكُلٍّ مِنهم أقسامٌ، على النَّحوِ الآتي [65] خُلاصةُ هذا التَّقسيمِ أنَّه يَؤولُ إلى خَمسةِ أقسامٍ، وهيَ طَريقةُ ابنِ الصَّلاحِ، وابنِ حمدانَ، والنَّوَويِّ، وابنِ تيميَّةَ، والسُّيوطيِّ، وغَيرِهم. قال ابنُ بَدرانَ: (ومِمَّن عَلِمناه جَنَح إلى هذا التَّقسيمِ أبو عَمرِو بنُ الصَّلاحِ، وابنُ حَمدانَ مِن أصحابِنا في كِتابِه أدَبِ المُفتي، وتَلاهما شَيخُ الإسلامِ أحمَدُ ابنُ تيميَّةَ؛ فإنَّه نَقَلَ في مُسَوَّدةِ الأُصولِ كَلامَ ابنِ الصَّلاحِ ولم يَتَعَقَّبْه، وتَتبَّعهمُ العَلَّامةُ الفتوحيُّ في آخِرِ كِتابِه شَرح المُنتَهى الفِقهيِّ). ((المدخل إلى مذهب الإمام أحمد)) (ص: 374). ويُنظَر: ((أدب المفتي والمستفتي)) لابن الصلاح (ص: 86- 99)، ((المجموع)) للنووي (1/ 42)، ((صفة الفتوى)) لابن حمدان (ص: 18- 20)، ((المسودة)) لآل تيمية (ص: 544)، ((الرد على من أخلد إلى الأرض)) للسيوطي (ص: 39- 42). :
1- المُجتَهِدُ المُطلَقُ:
ويَنقَسِمُ إلى قِسمَينِ:
الأوَّلُ: المُجتَهِدُ المُطلَقُ المُستَقِلُّ، وسُمِّي بذلك لأنَّه يَستَقِلُّ بالأدِلَّةِ بغَيرِ تَقليدٍ وتَقَيُّدٍ بمَذهَبِ أحَدٍ [66] يُنظَر: ((المجموع)) للنووي (1/ 42). .
فهو يُطلَقُ على المُجتَهِدِ إذا استَقَلَّ بإدراكِه للأحكامِ الشَّرعيَّةِ مِنَ الأدِلَّةِ الشَّرعيَّةِ العامَّةِ والخاصَّةِ، وأحكامِ الحَوادِثِ منها، مَعَ حِفظِه لأكثَرِ الفِقهِ، ولا يُقَلِّدُ أحَدًا ولا يَتَقَيَّدُ بمَذهَبِ أحَدٍ، وقيل: لا يُشتَرَطُ حِفظُه لفُروعِ الفِقهِ؛ لأنَّه فَرعُ الاجتِهادِ، وقيلَ: يُشتَرَطُ فيمَن يَتَأدَّى بفتواه فَرضُ الكِفايةِ [67] يُنظَر: ((صفة المفتي والمستفتي)) لابن حمدان (ص: 155). .
ومِن أمثِلةِ المُجتَهِدِ المُطلَقِ المُستَقِلِّ: فُقَهاءُ الصَّحابةِ والتَّابِعينَ، والأئِمَّةُ الذينَ جاؤوا بَعدَهم واشتَهَروا بالاجتِهادِ المُطلَقِ، كأبي حَنيفةَ، ومالِكِ بنِ أنَسٍ، والشَّافِعيِّ، وأحمدَ، والأوزاعيِّ، واللَّيثِ بنِ سَعدٍ، والثَّوريِّ، وابنِ جَريرٍ الطَّبَريِّ، وأبي ثَورٍ، وابنِ المُنذِرِ، وغَيرِهم [68] يُنظَر: ((جامع المسائل والقواعد)) لمصيلحي (4/ 21). .
الثَّاني: المُجتَهِدُ المُطلَقُ غَيرُ المُستَقِلِّ: وهو مَن لا يَكونُ مُقَلِّدًا لإمامِه لا في المَذهَبِ ولا في دَليلِه، وإنَّما يُنسَبُ إليه لسُلوكِه طَريقَتَه في الاجتِهادِ، ودَعا إلى مَذهَبِه، وقَرَأ كَثيرًا منه على أهلِه، فوجَدَه صَوابًا وأَولى مِن غَيرِه، وأشَدَّ موافَقةً فيه وفي طَريقَتِه [69] يُنظَر: ((صفة الفتوى)) لابن حمدان (ص: 17). ويُنظَر أيضًا: ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (4/ 468). .
ومِن أمثِلة المُجتَهِدِ المُطلَقِ غَيرِ المُستَقِلِّ: أبو يوسُفَ ومُحَمَّدٌ وزُفَرُ مِنَ الحَنَفيَّةِ، وابنُ القاسِمِ وأشهَبُ مِنَ المالِكيَّةِ، والبُويَطيُّ والزَّعفرانيُّ والمُزَنيُّ مِنَ الشَّافِعيَّةِ [70] يُنظَر: ((جامع المسائل والقواعد)) لمصيلحي (4/ 22). ، وابنُ تيميَّةَ مِنَ الحَنابِلةِ [71] قال المَرداويُّ: (قد ألحَقَ طائِفةٌ مِنَ الأصحابِ المُتَأخِّرينَ بأصحابِ هذا القِسمِ الشَّيخَ تَقيَّ الدِّينِ ابنَ تَيميَّةَ -رَحمةُ اللهِ عليه- وتَصَرُّفاتُه في فتاويه وتَصانيفِه تَدُلُّ على ذلك). ((الإنصاف)) (30/ 384). ويُنظَر: ((المدخل المفصل)) لبكر أبو زيد (1/ 479). .
2- المُجتَهِدُ المُقَيَّدُ:
وهو أقسامٌ:
الأوَّلُ: المُجتَهِدُ في المَذهَبِ
ويُسَمَّى أيضًا مُجتَهِدَ التَّخريجِ؛ لأنَّه مُقَيَّدٌ بمَذهَبِ إمامٍ مُعَيَّنٍ، وعامِلٌ على تَقريرِ أصولِه بالدَّليلِ، ولا يَتَعَدَّى أصولَه وقَواعِدَه، ويُتقِنُها مَعَ فِقهِها وأدِلَّةِ مَسائِلِها، وهو في ذاتِ الوقتِ على مَعرِفةِ القياسِ، وله القُدرةُ على التَّخريجِ والاستِنباطِ على أصولِ إمامِه، وإلحاقِ الفُروعِ بالأصولِ والقَواعِدِ لإمامِه [72] يُنظَر: ((المجموع)) للنووي (1/ 43)، ((صفة الفتوى)) لابن حمدان (ص: 18- 20)، ((المسودة)) لآل تيمية (ص: 544)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (4/ 468)، ((الوجيز)) لمحمد الزحيلي (2/ 295). .
ومِن أمثِلة المُجتَهِدِ في المَذهَبِ: الحَسَنُ بنُ زيادٍ الكَرخيُّ والطَّحاويُّ مِنَ الحَنَفيَّةِ، والأبهَريُّ وابنُ أبي زَيدٍ مِنَ المالِكيَّةِ، وأبو إسحاقَ الشِّيرازيُّ وأبو إسحاقَ المَرْوَزيُّ مِنَ الشَّافِعيَّةِ، وغَيرُهم [73] يُنظَر: ((جامع المسائل والقواعد)) لمصيلحي (4/ 22). .
الثَّاني: مُجتَهِدُ التَّرجيحِ
وهو مَن لا يَبلُغُ رُتبةَ مُجتَهِدِ التَّخريجِ [74] يُنظَر: ((فتاوى الرملي)) (4/ 263)، مقدمة ((نهاية المطلب للجويني)) للديب (المقدمة/ 129). ، لكِنَّه فقيهٌ حافِظٌ لمَذهَبِ إمامِه عارِفٌ بأدِلَّتِه قائِمٌ بتَقريرِها، يُصَوِّرُ ويُحَرِّرُ، ويُقَرِّرُ ويُمَهِّدُ، ويُزَيِّفُ ويُرَجِّحُ، لكِنَّه قَصَّرَ عن أولئك لقُصورِه عنهم في حِفظِ المَذهَبِ، أوِ الارتياضِ في الاستِنباطِ أو مَعرِفةِ الأصولِ [75] يُنظَر: ((المجموع)) للنووي (1/ 44)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (4/ 470)، ((الوجيز)) لمحمد الزحيلي (2/ 295). .
ومِن أمثِلةِ مُجتَهِدِ التَّرجيحِ: القُدُوريُّ، والمَرْغِينانيُّ صاحِبُ "الهدايةِ" مِنَ الحَنَفيَّةِ، والقاضي عَبدُ الوهَّابِ والشَّيخُ خَليلٌ مِنَ المالِكيَّةِ، وأبو الطَّيِّبِ الطَّبَريُّ وأبو حامِدٍ الإسفرايِينيُّ والرَّافِعيُّ والنَّوَويُّ مِنَ الشَّافِعيَّةِ، والقاضي أبو يَعلى وابنُ قُدامةَ مِنَ الحَنابِلةِ، وغَيرُهم كَثيرٌ في كُلِّ مَذهَبٍ، مِمَّن لم يَخلُ مِنهم عَصرٌ [76] يُنظَر: ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (4/ 470)، ((الوجيز)) لمحمد الزحيلي (2/ 295). .
الثَّالِثُ: مُجتَهِدُ الفُتيا
وهو مَن يَقومُ بحِفظِ المَذهَبِ ونَقلِه وفهمِه في الواضِحاتِ والمُشكِلاتِ، ولَكِنْ عِندَه ضَعفٌ في تَقريرِ أدِلَّتِه وتَحريرِ أقيِسَتِه، فهذا يُعتَمَدُ نَقلُه وفتواه به فيما يَحكيه مِن مَسطوراتِ مَذهَبِه مِن نُصوصِ إمامِه وتَفريعِ المُجتَهِدينَ في مَذهَبِه، وما لا يَجِدُه مَنقولًا إن وُجِدَ في المَنقولِ مَعناه، بحَيثُ يُدرَكُ بغَيرِ كَبيرِ فِكرٍ أنَّه لا فَرقَ بَينَهما، وكَذا ما يُعلَمُ اندِراجُه تَحتَ ضابِطٍ مُمَهَّدٍ في المَذهَبِ، وما ليسَ كذلك يَجِبُ إمساكُه عنِ الفتوى فيه [77] يُنظَر: ((المجموع)) للنووي (1/ 44). .
وهذا النَّوعُ أكثَرُ مِن أن يُحصى في كُلِّ مَذهَبٍ وفي كُلِّ عَصرٍ مِمَّن يَتَصَدَّرُ للفتوى والتَّعليمِ، وهمُ المُسَمَّونَ اليَومَ بالعُلَماءِ والفُقَهاءِ والمُختَصِّينَ بالشَّريعةِ، وهمُ القائِمونَ على الاجتِهادِ الجُزئيِّ، وبَيانِ أحكامِ النَّوازِلِ والمُستَجَدَّاتِ، ويَتَولَّونَ الإفتاءَ وبَيانَ الأحكامِ للنَّاسِ [78] يُنظَر: ((جامع المسائل والقواعد)) لمصيلحي (4/ 24). .

انظر أيضا: