موسوعة أصول الفقه

المَطلَبُ الأوَّلُ: حُكمُ تَضادِّ قَولِ المُجتَهِدِ في الحادِثةِ الواحِدةِ في وَقتٍ واحِدٍ


لا يَجوزُ للمُجتَهِدِ أن يَقولَ في الحادِثةِ الواحِدةِ وفي وقتٍ واحِدٍ قَولَينِ مُتَضادَّينِ، كالتَّحريمِ والإباحةِ، وهو مَذهَبُ عامَّةِ العُلَماءِ [185] قال الكَلوذانيُّ: (لا يَجوزُ لِلمُجتَهِدِ أن يَقولَ في الحادِثةِ قَولَينِ مُتَضادَّينِ في وقتٍ واحِدٍ، وهو قَولُ عامَّةِ العُلَماءِ). ((التمهيد)) (4/ 357). وقال ابنُ مُفلِحٍ: (لَيسَ لِمُجتَهِدٍ أن يَقولَ في شَيءٍ واحِدٍ في وقتٍ واحِدٍ قَولَينِ مُتَضادَّينِ عِندَنا وعِندَ عامَّةِ العُلَماءِ). ((أصول الفقه)) (4/ 1505). ويُنظَر: ((تحرير المقال فيما تصح نسبته للمجتهد من الأقوال)) لعياض السلمي (ص: 72). .
الأدِلَّةُ:
1- أنَّ الصَّحابةَ رَضِيَ اللهُ عنهم تَكَلَّموا في الفِقهِ، وفرَّعوا مَسائِلَ، ولم يُحْكَ عن واحِدٍ مِنهم في المَسألةِ قَولانِ مُتَضادَّانِ، مَعَ كَثرةِ الآثارِ المَرويَّةِ عنهم، وهذا يَدُلُّ على عَدَمِ جَوازِه، فمَن أحدَثَ هذا فقد خالَف الإجماعَ [186] يُنظَر: ((التمهيد)) للكلوذاني (4/ 359)، ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (5/ 2368). .
2- أنَّ قَولَ المُجتَهِدِ في مَسألةٍ واحِدةٍ قَولَينِ مُتَضادَّينِ في وقتٍ واحِدٍ لا يَخلو مِن ثَلاثِ حالاتٍ: إمَّا أن يَكونا صحيحَينِ، وإمَّا أن يَكونا فاسِدَينِ، وإمَّا أن يَكونَ أحَدُ القَولَينِ صحيحًا، والقَولُ الآخَرُ فاسدًا.
أمَّا الحالةُ الأولى -وهيَ كَونُهما صحيحَينِ- فلا تَصِحُّ؛ لأنَّ الشَّيءَ لا يَجوزُ أن يَكونَ حلالًا حَرامًا، ولا نَفيًا ولا إثباتًا؛ حَيثُ إنَّهما ضِدَّانِ، ولا يُمكِنُ اجتِماعُ الضِّدَّينِ.
أمَّا الحالةُ الثَّانيةُ -وهيَ كَونُهما فاسِدَينِ- فلا تَصِحُّ أيضًا؛ لأنَّ القَولَينِ إذا كانا فاسِدَينِ فإنَّ القَولَ بهما يَكونُ حَرامًا.
أمَّا الحالةُ الثَّالِثةُ -وهيَ كَونُ أحَدِهما صحيحًا، والآخَرُ فاسِدًا- فلا تَصِحُّ أيضًا؛ لأنَّه لا يَخلو إمَّا أن يَكونَ عالِمًا بفسادِ القَولِ الفاسِدِ، وإمَّا أن يَكونَ غَيرَ عالِمٍ بذلك.
أمَّا الأوَّلُ -وهو كَونُ المُجتَهِدِ عالِمًا بفَسادِ الفاسِدِ- فهذا لا يَصِحُّ ولا يُمكِنُ؛ لأنَّه يَبعُدُ أن يَقولَ مُجتَهِدٌ بقَولٍ فاسِدٍ يَحرُمُ على الأمَّةِ العَمَلُ به، فهذا تَلبيسٌ وتَدليسٌ لا يَقولُه مُجتَهِدٌ مِن مُجتَهِدي أمَّةِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
وأمَّا الثَّاني -وهو كَونُه غَيرَ عالِمٍ بفَسادِ الفاسِدِ- فهذا قدِ اشتَبَهَ عليه الفاسِدُ مِن غَيرِ الفاسِدِ، ومِثلُ هذا لا يَكونُ مجتهدًا في المَسألةِ؛ حَيثُ لم يَعلَمْ بحُكمِ تلك المَسألةِ، فلا يُقبَلُ منه شَيءٌ، فخَرَجَ بهذا عنِ المُجتَهِدينَ. وإذا ثَبَتَ بُطلانُ الحالاتِ الثَّلاثِ فإنَّه يَبطُلُ قَولُ المُجتَهِدِ في حادِثةٍ واحِدةٍ بقَولَينِ في وقتٍ واحِدٍ [187] يُنظَر: ((التمهيد)) للكلوذاني (4/ 359)، ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (5/ 2368- 2370). .
وقيلَ: يَجوزُ أن يَقولَ المُجتَهِدُ في المَسألةِ الواحِدةِ قَولَينِ مُتَضادَّينِ في وقتٍ واحِدٍ. وقد نُسِبَ هذا القَولُ إلى الشَّافِعيِّ [188] يُنظَر: ((المسودة)) لآل تيمية (ص: 450). . وفي نِسبَتِه إليه نَظَرٌ [189] نِسبةُ هذا القَولِ إلى الشَّافِعيِّ لا تَخلو مِن نَظَرٍ؛ إذ لم يُصَرِّحْ بجَوازِ قَولِ المُجتَهِدِ في مَسألةٍ واحِدةٍ بقَولَينِ مُختَلِفَينِ، وإنَّما قال في بَعضِ المَسائِلِ: إنَّ فيها قَولَينِ، وهذه العِبارةُ مُحتَمَلةٌ. يُنظَر: ((التمذهب)) للرويتع (3/ 1140). .

انظر أيضا: