موسوعة أصول الفقه

المَطلَبُ الثَّاني: حُكمُ تَناقُضِ قَولِ المُجتَهِدِ في الحادِثةِ الواحِدةِ في حالَتَينِ


إذا نُقِلَ عنِ المُجتَهِدِ في المَسألةِ الواحِدةِ قَولانِ مُختَلِفانِ في حالَينِ مُختَلِفينِ، ويُعرَفُ المُتَقدِّمُ مِنهما مِنَ المُتَأخِّرِ؛ ففي هذه الحالةِ يُنسَبُ القَولُ المُتَأخِّرُ إليه [190] يُنظَر: ((تحرير المقال)) لعياض السلمي (ص: 74). ، وهو قَولُ عامَّةِ العُلَماءِ [191] يُنظَر: ((التقرير والتحبير)) لابن أمير حاج (3/ 333). ويُنظَر أيضًا: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 418)، ((الإحكام)) للآمدي (4/201)، ((المختصر)) لابن اللحام (ص: 165)، ((غاية السول)) لابن المبرد (ص: 151). .
وأمَّا القَولُ المُتَقدِّمُ للمُجتَهِدِ فيُعَدُّ قَولًا مَرجوحًا لدَيه، وقد رَجَعَ عنه. ومِمَّن نَصَّ على ذلك ابنُ الهُمامِ [192] يُنظَر: ((التحرير)) (ص: 542). ، وابنُ الحاجِبِ [193] يُنظَر: ((مختصر ابن الحاجب) (2/1227)، ((شرح العضد على مختصر ابن الحاجب)) (3/ 610). ، والقَرافيُّ [194] يُنظَر: ((شرح تنقيح الفصول)) (ص: 418). ، والرَّازيُّ [195] يُنظَر: ((المحصول)) (5/ 391). ، والآمِديُّ [196] يُنظَر: ((الإحكام)) (4/ 201). ، وابنُ قُدامةَ [197] يُنظَر: ((روضة الناظر)) (2/ 378). ، والمَرداويُّ، وحَكاه عن أكثَرِ الحَنابِلةِ [198] يُنظَر: ((الإنصاف)) (30/ 368). .
وذلك للآتي:
1- أنَّ القَولَ إذا رَجَعَ عنه المُجتَهِدُ، وتَبَرَّأ منه وصَرَّحَ ببُطلانِه، لا يَصحُّ نِسبتُه إليه، وإذا عَرَفنا المُتَأخِّرَ مِنَ القَولَينِ كان الأوَّلُ مَرجوعًا عنه؛ لأنَّ النَّصَّ على خِلافِه كالنَّصِّ على بُطلانِه؛ لأنَّه لا يُمكِنُ أن يَكونَ القَولانِ صحيحَينِ في نَظَرِه، ولا يُمكِنُ أن يَكونَ ما اختارَه أخيرًا هو الفاسِدَ؛ لأنَّه لا يَجوزُ تَركُ الصَّحيحِ إلى الفاسِدِ، فلَم يَبقَ إلَّا أن يَكونَ الفاسِدُ في نَظَرِه هو الأوَّلَ [199] يُنظَر: ((روضة الناظر)) (2/ 378). .
2- قياسُ أقوالِ المُجتَهِدِ على نُصوصِ الشَّارِعِ، فكما أنَّ النَّصَّينِ مِن كَلامِ الشَّارِعِ إذا تَعارَضا، وعُرِفَ المُتَأخِّرُ، كان ناسخًا للمُتَقدِّمِ، فكذلك في أقوالِ المُجتَهِدِ يَكونُ المُتَأخِّرُ منها ناسِخًا للمُتَقدِّمِ [200] يُنظَر: ((الإحكام)) للآمدي (4/ 201)، ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 419)، ((تحرير المقال)) لعياض السلمي (ص: 75). .
ومِن أمثِلةِ رُجوعِ المُجتَهِدِ عن قَولِه:
أنَّ مالِكًا كان يَرى أنَّ أكثَرَ النِّفاسِ سِتُّونَ يَومًا، ثُمَّ تَراجَعَ عن ذلك. قال ابنُ القاسِمِ: (وقد كان حَدَّ لنا قَبلَ اليَومِ في النُّفَساءِ سِتِّينَ يَومًا، ثُمَّ رَجَعَ عن ذلك آخِرَ ما لقيناه، فقال: أكرَهُ أن أحُدَّ فيه حَدًّا، ولَكِن يُسألُ عن ذلك أهلُ المَعرِفةِ، فتُحمَلُ على ذلك) [201] يُنظَر: ((المدونة)) لسحنون (1/154). .
وكان الشَّافِعيُّ يَرى عَدَمَ جَوازِ بَيعِ الجِلدِ المَدبوغِ، ثُمَّ لمَّا قَدِم مِصرَ رَجَعَ عن قَولِه الأوَّلِ، وأجازَ بَيعَه [202] يُنظَر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (13/300). .
وإذا ثَبَتَ أنَّ المُجتَهِدَ قد رَجَعَ عن قَولِه الأوَّلِ فلا يَصِحُّ أن يُحكى إلَّا مَقرونًا بحِكايةِ الرُّجوعِ، وبَيانِ أنَّه قَولٌ هَجَره القائِلُ، وانتَقَلَ عنه إلى غَيرِه [203] يُنظَر: ((الأساس في أصول الفقه)) لمحمود عبد الرحمن (2/91)، ((قوادح الاستدلال بالإجماع)) للشثري (ص: 245). .
وعَلَّلَ الشَّاطبيُّ ذلك بأنَّ اختِلافَ الأقوالِ بالنِّسبةِ إلى الإمامِ الواحِدِ، بناءً على تَغَيُّرِ الاجتِهادِ والرُّجوعِ عَمَّا أفتى به إلى خِلافِه، لا يَصِحُّ أن يُعتَدَّ به خلافًا في المَسألةِ؛ لأنَّ رُجوعَ الإمامِ عنِ القَولِ الأوَّلِ إلى القَولِ الثَّاني اطِّراحٌ منه للأوَّلِ ونَسخٌ له بالثَّاني. ثُمَّ قال: (فلا يَنبَغي أن يُحكى مِثلُ هذا في مَسائِلِ الخِلافِ) [204] ((الموافقات)) (5/213). .
وقيلَ: يَصِحُّ أن يُنسَبَ إليه القَولانِ معًا، وهو قَولُ بَعضِ الحَنابِلةِ [205] يُنظَر: ((الإنصاف)) للمرداوي (30/ 369). ويُنظَر أيضًا: ((المحصول)) للرازي (5/ 391)، ((تحرير المقال)) لعياض السلمي (ص: 75). .

انظر أيضا: