المَبحَثُ التَّاسِعُ: نَقضُ الاجتِهادِ وتَجديدُه
نَقضُ الاجتِهادِ هو إبطالُه وإفسادُه بَعدَ أن وُجِدَ
[142] يُنظَر: ((نقض الاجتهاد)) للعنقري (ص: 35) عن حاشية تحقيق ((شرح تنقيح الفصول للقرافي)) لناصر الغامدي (3/ 172)، ((نقض الاجتهاد وتغييره)) لمحب قيس علي (ص: 293). .
ولِنَقضِ الاجتِهادِ حالاتٌ، هيَ
[143] قال الجُوَينيُّ: (إذا ظَهَرَ لِلحاكِمِ أنَّه خالَف الإجماعَ بالاجتِهادِ، نَقض الحُكمَ على نَفسِه، وكذلك إذا بانَ له أنَّه خالَف النَّصَّ أوِ القياسَ الجَليَّ). ((الجمع والفرق)) (1/ 324). وقال القَرافيُّ: (إذا حَكَمَ على خِلافِ الإجماعِ يُنقَضُ قَضاؤُه، أو خِلافِ النَّصِّ السَّالِمِ عنِ المَعارِضِ، أوِ القياسِ الجَليِّ السَّالِمِ عنِ المَعارِضِ، أو قاعِدةٍ مِنَ القَواعِدِ السَّالِمةِ عنِ المَعارِضِ). ((الفروق)) (4/ 40). ويُنظَر أيضًا: ((الإحكام)) لابن حزم (4/ 209)، ((الإحكام)) للآمدي (4/ 203). :
أوَّلًا: نَقضُ الاجتِهادِ بالنَّصِّ1- النَّصُّ القَطعيُّ مِنَ القُرآنِ والسُّنَّةِ:يُنقَضُ الاجتِهادُ إذا خالَف نَصًّا قَطعيًّا، والمُرادُ بالنَّصِّ القَطعيِّ هنا ما كان قَطعيَّ الثُّبوتِ والدَّلالةِ
[144] يُنظَر: ((نقض الاجتهاد وتغييره)) لمحب قيس علي (ص: 294). . ومِمَّن حَكى الاتِّفاقَ على ذلك: ابنُ أميرِ الحاجِّ
[145] قال: (وما دَليلُه قَطعيٌّ "صحيحٌ"، فخَرَجَ غَيرُه، ثُمَّ يَظهَرُ أنَّ الوَجهَ إسقاطُ "إذا لَم يُخالِفْ ما ذُكِرَ"، أي: الكِتابَ، والسُّنَّةَ، والإجماعَ، والقياسَ؛ لأنَّه لا يَكونُ صحيحًا مَعَ مُخالَفتِه لِقَطعيٍّ منها، ويُنقَضُ إذا خالَف قَطعيًّا منها اتِّفاقًا). ((التقرير والتحبير)) (3/ 335). ويُنظَر: ((تيسير التحرير)) لأمير بادشاه (4/ 234). .
مِثالُ مُخالَفةِ النَّصِّ القَطعيِّ مِنَ القُرآنِ: ما لو حَكَم المُجتَهِدُ بأنَّ بَعضَ الورَثةِ المَذكورينَ في القُرآنِ لا يَرِثُ
[146] يُنظَر: ((نثر الورود)) لمحمد الأمين الشنقيطي (2/ 659). .
ومِثالُ مُخالَفةِ السُّنَّةِ المُتَواتِرةِ: إذا حَكَمَ أحَدُهم بصِحَّةِ نِكاحِ المَرأةِ على عَمَّتِها أوِ المَرأةِ على خالَتِها؛ فقد جاءَ في الحَديثِ المُتَواتِرِ
[147] يُنظَر: ((أحكام القرآن)) للجصاص (3/ 79)، ((نظم المتناثر)) للكتاني (ص: 148). قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((لا يُجمَعُ بَينَ المَرأةِ وعَمَّتِها، ولا بَينَ المَرأةِ وخالتِها)) [148] أخرجه البخاري (5109)، ومسلم (1408) من حديثِ أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
2- النَّصُّ إذا كان خَبَرَ آحادٍ:يُنقَضُ الاجتِهادُ بالسُّنَّةِ الأُحاديَّةِ. وقد نَصَّ عليه أحمَدُ
[149] يُنظَر: ((شرح الزركشي على مختصر الخرقي)) (7/ 261). ، وهو مَذهَبُ بَعضِ الحَنابِلةِ
[150] يُنظَر: ((شرح الزركشي على مختصر الخرقي)) (7/ 261)، ((المدخل إلى مذهب الإمام أحمد)) لابن بدران (ص: 384). ، ومِنهمُ ابنُ النَّجَّارِ
[151] يُنظَر: ((شرح الكوكب المنير)) (4/ 505). ، وبَعضِ الشَّافِعيَّةِ، ومِنهمُ النَّوَويُّ
[152] يُنظَر: ((المجموع)) (1/ 187). .
ومِثالُ مُخالَفةِ السُّنَّةِ الآحادِ: الحُكمُ بقَتلِ مُسلِمٍ بكافِرٍ
[153] يُنظَر: ((شرح المنتهى)) لابن النجار (11/ 252). ، وفي الحَديثِ قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((ولا يُقتَلُ مُسلِمٌ بكافِرٍ)) [154] أخرجه البخاري (111) من حديثِ عَليِّ بنِ أبي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُه: عن أبي جُحَيفةَ، قال: (قُلتُ لِعَليِّ بنِ أبي طالِبٍ: هَل عِندَكُم كِتابٌ؟ قال: لا، إلَّا كِتابُ اللهِ، أو فَهمٌ أُعطيَه رَجُلٌ مُسلِمٌ، أو ما في هذه الصَّحيفةِ. قال: قُلتُ: فما في هذه الصَّحيفةِ؟ قال: العَقلُ، وفَكاكُ الأسيرِ، ولا يُقتَلُ مُسلِمٌ بكافِرٍ). .
فهو حُكمٌ لم يُصادِفْ شَرطَه، فوجَبَ نَقضُه؛ لأنَّ شَرطَ الحُكمِ بالاجتِهادِ عَدَمُ النَّصِّ، ولأنَّه إذا تَرَكَ الكِتابَ والسُّنَّةَ فقد فرَّطَ
[155] يُنظَر: ((الذخر الحرير)) للبعلي (ص: 821). .
وقيلَ: لا يُنقَضُ الاجتِهادُ بالسُّنَّةِ الأُحاديَّةِ. وهو مَذهَبُ بَعضِ الحَنَفيَّةِ
[156] يُنظَر: ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (1/ 254). ، وبَعضِ الحَنابِلةِ
[157] يُنظَر: ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (4/ 505)، ((المدخل إلى مذهب الإمام أحمد)) لابن بدران (ص: 384). .
ثانيًا: نَقضُ الاجتِهادِ بالإجماعِيُنقَضُ الاجتِهادُ إذا كان مخالفًا الإجماعَ. وحَكى ابنُ تيميَّةَ اتِّفاقَ الأئِمَّةِ الأربَعةِ على ذلك
[158] قال ابنُ تَيميَّةَ: (إنَّ الأئِمَّةَ الأربَعةَ مُتَّفِقونَ على أنَّه إنَّما يُنقَضُ حُكمُ الحاكِم إذا خالَف كِتابًا أو سُنَّةً أو إجماعًا، أو مَعنى ذلك). ((مجموع الفتاوى)) (27/ 303). ويُنظَر: ((الوجيز)) لمحمد الزحيلي (2/ 343). .
مِثالُ مُخالَفةِ الإجماعِ: ما لو حَكَمَ بأنَّ الأخَ يَحجُبُ الجَدَّ في الميراثِ
[159] يُنظَر: ((نثر الورود)) لمحمد الأمين الشنقيطي (2/ 659). .
وقيلَ: لا يُنقَضُ ولَو خالَف إجماعًا. وهو اختيارُ بَعضِ المالِكيَّةِ، كابنِ عبدِ الحَكَمِ
[160] يُنظَر: ((نثر الورود)) لمحمد الأمين الشنقيطي (2/ 660). .
ثالِثًا: نَقضُ الاجتِهادِ بالقياسِيُنقَضُ الاجتِهادُ إذا خالَف قياسًا جليًّا لا خَفيًّا: وهو ما تَكونُ العِلَّةُ فيه صَريحةً في الأصلِ، أو تَكونُ في الفَرعِ أشَدَّ منها في الأصلِ، كالضَّربِ والتَّأفيفِ، بقياسِ الضَّربِ على التَّأفيفِ للوالِدَينِ في قَولِ اللهِ تعالى:
فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [الإسراء: 23] ، بجامِعِ الإيذاءِ، أو تَكونُ العِلَّةُ مُساويةً تَمامًا، ولا فَرقَ نهائيًّا بَينَ الأصلِ والفَرعِ، كالمَرأةِ قياسًا على الرَّجُلِ في الكَفَّارةِ وغَيرِها
[161] يُنظَر: ((حاشيتا قليوبي وعميرة)) (4/ 305). ويُنظَر أيضًا: ((الإحكام)) الآمدي (4/ 203). .
ومِثالُه أيضًا: قَبولُ شَهادةِ النَّصرانيِّ؛ فإنَّ الحُكمَ بشَهادَتِه يُنقَضُ؛ لأنَّ الفاسِقَ لا تُقبَلُ شَهادَتُه، والكافِرُ أشَدُّ منه فُسوقًا وأبعَدُ عنِ المَناصِبِ الشَّرعيَّةِ في مُقتَضى القياسِ، فيُنقَضُ الحُكمُ لذلك
[162] يُنظَر: ((الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام)) للقرافي (ص: 141). .
وهو مَذهَبُ بَعضِ الحَنَفيَّةِ، ومِنهم: ابنُ نُجَيمٍ
[163] يُنظَر: ((البحر الرائق)) لابن نجيم (3/ 294). ؛ والشَّافِعيَّةِ، ومِنهمُ الجُوَينيُّ
[164] يُنظَر: ((الجمع والفرق)) (1/ 324). ، والآمِديُّ
[165] يُنظَر: ((الإحكام)) (4/ 203). ، وابنُ السُّبكيِّ
[166] ((رفع الحاجب)) (4/ 561). ؛ والمالِكيَّةِ، ومِنهمُ القَرافيُّ
[167] يُنظَر: ((شرح تنقيح الفصول)) (ص: 441)، ((الفروق)) (4/ 40). والعَلَويُّ الشِّنقيطيُّ
[168] يُنظَر: ((نشر البنود)) (2/ 349). .
وقيلَ: لا يُنقَضُ الاجتِهادُ بمُخالَفةِ القياسِ، ولَو كان جليًّا. وهو الصَّحيحُ مِن مَذهَبِ الحَنابِلةِ
[169] يُنظَر: ((شرح الكوكب المنير)) (3/ 505). ويُنظَر أيضًا: ((الإحكام)) للآمدي (4/ 203)، ((شرح الزركشي على مختصر الخرقي)) (7/ 261). .
رابِعًا: نَقضُ الاجتِهادِ بمُخالَفتِه القَواعِدَ الشَّرعيَّةَنَصَّ المالِكيَّةُ على النَّقضِ بـمخالَفةِ القَواعِدِ الشَّرعيَّةِ السَّالِمةِ عنِ المُعارِضِ
[170] يُنظَر: ((أنوار البروق)) للقرافي (1/132). ويُنظَر أيضًا: ((التحبير)) للمرداوي (8/3974)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (4/506)، ((الوجيز)) لمحمد الزحيلي (2/342). .
ومِثالُ مُخالَفةِ القَواعِدِ: ما لو حَكَمَ بتَقريرِ النِّكاحِ في المَسألةِ المَعروفةِ بالسُّرَيجيَّةِ -المَنسوبةِ إلى ابنِ سُرَيجٍ الشَّافِعيِّ- وهيَ: أنَّ مَن قال لزَوجَتِه: إن طَلَّقتُكِ فأنتِ طالِقٌ قَبلَه ثَلاثًا، ثُمَّ طَلَّقَها، فلا يَلزَمُه شَيءٌ؛ لأنَّه لو وقَعَ لوقَعَ مشروطُه، وهو تَقديمُ الثَّلاثِ، ولَو وقَع مشروطُه لمَنَعَ وُقوعَه؛ لأنَّ الثَّلاثَ تَمنَعُ ما بَعدَها.
ووجهُ مُخالفةِ هذا الاجتِهادِ للقَواعِدِ أنَّه يُؤَدِّي إلى وُجودِ المَشروطِ في وقتٍ يَنعَدِمُ فيه الشَّرطُ، والقاعِدةُ: أنَّ المَشروطَ لا يوجَدُ إلَّا عِندَ وُجودِ الشَّرطِ
[171] يُنظَر: ((نثر الورود)) لمحمد الأمين الشنقيطي (2/659). .
خامِسًا: نَقضُ حُكمِ الحاكِمِ في المَسائِلِ الاجتِهاديَّةِ لا يُنقَضُ حُكمُ حاكِمٍ في المَسائِلِ الاجتِهاديَّةِ، وهو مَذهَبُ الأئِمَّةِ الأربَعةِ
[172] يُنظَر: ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (4/503). ، ومِمَّنِ اختارَه: أبو مُحَمَّدٍ الجُوَينيُّ
[173] يُنظَر: ((الجمع والفرق)) (2/23). ، والغَزاليُّ
[174] يُنظَر: ((المستصفى)) (ص: 367). ، وابنُ مُفلِحٍ
[175] يُنظَر: ((أصول الفقه)) (4/1510). ، والزَّركَشيُّ
[176] يُنظَر: ((البحر المحيط)) (8/312). ، وحُكيَ الاتِّفاقُ على ذلك، ومِمَّن حَكاه الخَطيبُ البَغداديُّ
[177] قال: (وأمَّا حُكمُ الحاكِمِ فإنَّ المُسلِمينَ أجمَعوا على أنَّه لا يُنقَضُ إذا لَم يَكُنْ مُخالِفًا لِنَصٍّ، أو إجماعٍ، أو قياسٍ مَعلومٍ). ((الفقيه والمتفقه)) (2/ 126). ، والآمِديُّ
[178] قال: (اتَّفَقوا على أنَّ حُكمَ الحاكِمِ لا يَجوزُ نَقضُه في المَسائِلِ الاجتِهاديَّةِ لمَصلَحةِ الحُكمِ). ((الإحكام)) (4/203). ، وابنُ الحاجِبِ
[179] قال: (لا يُنقَضُ الحُكمُ في الاجتهاديَّاتِ منه ولا مِن غَيرِه باتِّفاقٍ). ((مختصر ابن الحاجب)) مع ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (4/561). .
الأدِلَّةُ:1- عَمَلُ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم
[180] يُنظَر: ((أصول الفقه)) لابن مفلح (4/1510). .
قال المَرداويُّ: (إنَّ أبا بَكرٍ حَكَمَ في مَسائِلَ باجتِهادِه، وخالَفَه عُمَرُ فلَم يَنقُضْ أحكامَه، وعليٌّ خالَف عُمَرَ في اجتِهادِه فلَم يَنقُضْ أحكامَه، وخالَفهما عليٌّ فلم يَنقُضْ أحكامَهما؛ فإنَّ أبا بَكرٍ سَوَّى بَينَ النَّاسِ في العَطاءِ فأعطى العَبيدَ، وخالفَه عُمَرُ، ففاضَلَ بَينَ النَّاسِ، وخالَفَهما عليٌّ فسَوَّى بَينَ النَّاسِ وحَرَم العَبيدَ، ولم يَنقُضْ أحَدٌ مِنهم ما فعَلَه مَن قَبلَه)
[181] ((التحبير)) (8/ 3972). .
2- أنَّه لو جازَ نَقضُ حُكمِه إمَّا بتَغَيُّرِ اجتِهادِه، أو بحُكمِ حاكِمٍ آخَرَ، لأمكَنَ نَقضُ الحُكمِ بالنَّقضِ، ونَقضُ النَّقضِ إلى غَيرِ النِّهايةِ. ويَلزَمُ مِن ذلك اضطِرابُ الأحكامِ وعَدَمُ الوُثوقِ بحُكمِ الحاكِمِ، وهو خِلافُ المَصلَحةِ التي نُصِبَ الحاكِمُ لها
[182] يُنظَر: ((الإحكام)) للآمدي (4/203)، ((البحر المحيط)) للزركشي (8/312). .
3- أنَّه قد يَتَرَتَّبُ على النَّقضِ هنا فَسادٌ؛ لأنَّه يَكونُ ذَريعةً إلى تَسليطِ الحُكَّامِ بَعضِهم على بَعضٍ، فلا يَشاءُ حاكِمٌ يَكونُ في قَلبِه مِن حاكِمٍ شَيءٌ إلَّا وتَعَقَّب حُكمَه بنَقضٍ، فلا يَستَقِرُّ حُكمٌ، ولا يَصِحُّ لأحَدٍ مِلكٌ، وفي ذلك فسادٌ عَظيمٌ
[183] يُنظَر: ((العدة)) لأبي يعلى (5/ 1571). .
وقيلَ: يُنقَضُ جَميعُ ما بانَ له خَطَؤُه. وهو مَنسوبٌ إلى داودَ، وأبي ثَورٍ
[184] يُنظَر: ((المغني)) لابن قدامة (14/ 34)، ((التحبير)) للمرداوي (8/ 3974)، ((أصول الفقه)) لابن مفلح (4/ 1510)، ((المعاني البديعة)) للريمي (2/ 465). .