موسوعة أصول الفقه

المَبحَثُ الثَّاني عَشَرَ: دَورُ المُؤَسَّساتِ في الاجتِهادِ الجَماعيِّ في النَّوازِلِ


الحاجةُ إلى الاجتِهادِ دائِمةٌ ما دامَت وقائِعُ الحَياةِ تَتَجَدَّدُ، وأحوالُ المُجتَمَعِ تَتَغَيَّرُ، وما دامَت شَريعةُ الإسلامِ صالِحةً لكُلِّ زَمانٍ ومَكانٍ، وحاكِمةً في كُلِّ أمرٍ مِن أمورِ الإنسانِ. وخاصَّةً في هذا العَصرِ؛ نظرًا للتَّغَيُّراتِ الكَبيرةِ التي صاحَبَت حَياةَ النَّاسِ في مُختَلِفِ مَجالاتِها، فالحَوادِثُ الطَّارِئةُ شَيءٌ مُتَجَدِّدٌ، تَقتَضي كُلُّ حادِثةٍ حُكمًا، وهذا يَقتَضي وُجودَ الاجتِهادِ ليَصدُرَ الحُكمُ الشَّرعيُّ [218] يُنظَر: ((الاجتهاد الجماعي ودور المجامع الفقهية في تطبيقه)) لشعبان إسماعيل (ص: 116). .
وقد حَدَثَت في هذا العَصرِ مُؤَسَّساتٌ تَضُمُّ مَجامِعَ وهَيئاتٍ للفتوى أُنشِئَت للاجتِهادِ الجَماعيِّ في النَّوازِلِ، بَعضُها على مُستَوى دَولةٍ واحِدةٍ، مِثلُ هَيئةِ كِبارِ العُلَماءِ في المَملَكةِ العَرَبيَّةِ السُّعوديَّةِ، ومَجلِسِ الفِكرِ الإسلاميِّ في باكِستانَ، ومَجمَعِ الفِقهِ الإسلاميِّ في الهِندِ، وأخرى على مُستَوًى عالَميٍّ، مِثلُ مَجمَعِ الفِقهِ الإسلاميِّ الدَّوليِّ المُنبَثِقِ مِن مُنَظَّمةِ المُؤتَمَرِ الإسلاميِّ، والمَجمَعِ الفِقهيِّ المُنبَثِقِ مِن مُنَظَّمةِ التَّعاوُنِ الإسلاميِّ، والمَجلِسِ الشَّرعيِّ المُنبَثِقِ مِن هَيئةِ المُحاسَبةِ والمُراجَعةِ للمُؤَسَّساتِ الماليَّةِ الإسلاميَّةِ [219] يُنظَر: ((الاجتهاد الجماعي)) لمحمد تقي العثماني -نشرة إلكترونية (ص: 12). .
الحاجةُ إلى مُؤَسَّساتِ الاجتِهادِ الجَماعيِّ في النَّوازِلِ المُعاصِرةِ:
اشتَدَّتِ الحاجةُ في الواقِعِ المُعاصِرِ -بكُلِّ ما يَحمِلُه مِن نَوازِلَ وحَوادِثَ مُستَجَدَّةٍ- إلى الاجتِهادِ الجَماعيِّ؛ وذلك للأسبابِ الآتيةِ:
الأوَّلُ: ظُهورُ العَديدِ مِنَ القَضايا التي صاحَبَتِ النُّموَّ وتَطويرَ الحَياةِ: مِثلُ التَّعامُلِ مَعَ المَصارِفِ، والتَّأمينِ، والشَّرِكاتِ المُساهمةِ، والتَّوريدِ والبَيعِ، والعُقودِ بالاتِّصالاتِ الحَديثةِ، ونَقلِ الأعضاءِ، وغَيرِ ذلك مِنَ المَسائِلِ المُستَحدَثةِ التي تَحتاجُ إلى التَّشاوُرِ واستِخلاصِ آراءِ المُجتَهِدينَ.
الثَّاني: نُشوءُ التَّخَصُّصِ المُنفرِدِ: ففي هذا العَصرِ يَتَخَصَّصُ الباحِثُ في فرعٍ مِن فُروعِ العِلمِ؛ في الفِقهِ والأصولِ والاعتِقادِ واللُّغةِ والفَلَكِ والطِّبِّ وغَيرِ ذلك، فأكثَرُ العُلَماءِ لا يُحيطونَ بكُلِّ العُلومِ والمَعارِفِ، ولا مَخرَجَ لذلك إلَّا بالاجتِهادِ الجَماعيِّ الذي يَجمَعُ شَتاتَ هذه العُلومِ بجَمعِ عَدَدٍ مِنَ التَّخَصُّصاتِ المُختَلِفةِ، بحَيثُ يُكمِلُ بَعضُهم بعضًا.
الثَّالِثُ: ظُهورُ الخِلافاتِ الكَثيرةِ: ومِن أسبابِها اختِلافُ الفتاوى الفرديَّةِ، وهيَ مَعَ أهَمِّيَّةِ مَوقِعِها قد توقِعُ الأمَّةَ في شَرٍّ وفَوضى [220] يُنظَر: ((الاجتهاد الجماعي ودور المجامع الفقهية)) لشعبان إسماعيل (ص: 119- 123). .
الرَّابِعُ: المُكتَشَفاتُ والمُختَرَعاتُ التي انتَشَرَت في هذا العَصرِ: وقد عَمَّت جَوانِبَ الحَياةِ المُتَعَدِّدةَ، ونَشَأ عنها الكَثيرُ مِنَ المُستَجَدَّاتِ والنَّوازِلِ التي لم تَكُنْ مَعهودةً مِن قَبلُ، وتَختَصُّ تلك النَّوازِلُ بأمرَينِ:
1- أنَّها في الغالِبِ ذاتُ بُعدٍ عامٍّ يَمَسُّ المُجتَمَعاتِ والدُّوَلَ.
2- أنَّها تَحفُلُ بكَثيرٍ مِنَ المُلابَساتِ والتَّشَعُّباتِ التي تَخرُجُ بها عن حَيِّزِ الفنِّ الواحِدِ إلى حَيِّزِ الفُنونِ المُتَنَوِّعةِ، الأمرُ الذي يَجعَلُ فهمَها على حَقيقَتِها صَعبًا يَستَدعي إخضاعَها للاجتِهادِ الجَماعيِّ الذي تَتَوافرُ له الرُّؤيةُ الجَماعيَّةُ والخِبرةُ والاختِصاصُ [221] يُنظَر: ((الاجتهاد الجماعي وأهميته في نوازل العصر)) لصالح بن حميد (ص: 22). .
إنَّ الاجتِهادَ الجَماعيَّ -لا سيَّما في ظِلِّ المجامِعِ والهيئاتِ الفِقهيَّةِ القائِمةِ- يُعَدُّ نِتاجًا لتَفاعُلِ جَمعٍ مِنَ العُلَماءِ المُجتَهِدينَ والخُبَراءِ المختَصِّين، وتَكامُلِهم وتَشاوُرِهم، وثَمَرةً لتَقليبِ وِجهاتِ النَّظَرِ المُختَلِفةِ والآراءِ المُتَعَدِّدةِ في القَضيَّةِ مَحَلِّ الاجتِهادِ، وبِهذا فهو أقرَبُ إلى الحَقِّ إن شاءَ اللهُ، وأدعى للقَبولِ والاطمئنانِ بإذنِ اللهِ تعالى، كَما أنَّه يوطِّئُ السَّبيلَ إلى الإجماعِ، ويُقَلِّلُ الخِلافَ بَينَ المُجتَهِدينَ [222] يُنظَر: ((الاجتهاد الجماعي وأهميته في نوازل العصر)) لصالح بن حميد (ص: 21). ويُنظَر أيضًا: ((الاجتهاد الجماعي)) لأحمد الريسوني (ص: 13). .

انظر أيضا: