موسوعة أصول الفقه

الفَرعُ الأوَّلُ: الإنكارُ في المَسائِلِ التي لا يَسوغُ فيها الخِلافُ    


المَسائِلُ التي لا يَسوغُ فيها الخِلافُ يُنكَرُ على مَن خالَف فيها، وذلك (كأصولِ الدِّياناتِ مِنَ التَّوحيدِ وصِفاتِ الباري عَزَّ اسمُه، وهى تَكونُ على وَجهٍ واحِدٍ لا يَجوزُ فيها الاختِلافُ، وكذلك في فُروعِ الدِّياناتِ التي يُعلَمُ وُجوبُها بدَليلٍ مَقطوعٍ به، مِثلُ الصَّلاةِ والزَّكاةِ والصَّومِ والحَجِّ، وكذلك المَناهي الثَّابِتةُ بدَليلٍ مَقطوعٍ به، فلا يَجوزُ اختِلافُ القَولِ في شَيءٍ مِن ذلك) [243] ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (2/ 326). .
فوُجودُ الاختِلافِ في مِثلِ هذه المَسائِلِ لا يُؤَثِّرُ في هذا الحُكمِ؛ لأنَّه اختِلافٌ لا عِبرةَ به [244] يُنظَر: ((مراعاة الخلاف)) لصالح سندي (ص: 281). .
قال الشَّافِعيُّ: (كُلُّ ما أقامَ اللهُ به الحُجَّةَ في كِتابِه أو على لسانِ نَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم منصوصًا بيِّنًا لم يَحِلَّ الاختِلافُ فيه لمَن عَلِمَه) [245] ((الرسالة)) (ص: 560). .
وقال النَّوويُّ: (لم يَزَلِ الخِلافُ بَينَ الصَّحابةِ والتَّابِعينَ في الفُروعِ، ولا يُنكِرُ أحَدٌ على غَيرِه مجتَهِدًا فيه، وإنَّما يُنكِرونَ ما خالَف نَصًّا، أو إجماعًا، أو قياسًا جَليًّا) [246] ((روضة الطالبين)) (10/ 220). .
وقال ابنُ تَيميَّةَ: (مَن خالَف الكِتابَ المُستَبينَ والسُّنَّةَ المُستَفيضةَ، أو ما أجمَعَ عليه سَلَفُ الأمَّةِ خِلافًا لا يُعذَرُ فيه؛ فهذا يُعامَلُ بما يُعامَلُ به أهلُ البِدَعِ) [247] ((مجموع الفتاوى)) (24/ 172). .
وقال أيضًا: (قَولُهم: مَسائِلُ الخِلافِ لا إنكارَ فيها، ليسَ بصحيحٍ؛ فإنَّ الإنكارَ إمَّا أن يَتَوجَّهَ إلى القَولِ بالحُكمِ، أوِ العَمَلِ، أمَّا الأوَّلُ فإذا كان القَولُ يُخالِفُ سُنَّةً أو إجماعًا قديمًا وجَبَ إنكارُه وِفاقًا، وإن لم يَكُنْ كذلك فإنَّه يُنكَرُ، بمَعنى بَيانِ ضَعفِه عِندَ مَن يَقولُ: المُصيبُ واحِدٌ، وهم عامَّةُ السَّلَفِ والفُقَهاءِ، وأمَّا العَمَلُ فإذا كان على خِلافِ سُنَّةٍ أو إجماعٍ وجَبَ إنكارُه أيضًا بحَسَبِ دَرَجاتِ الإنكارِ) [248] ((الفتاوى الكبرى)) (6/ 96). .
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِنَ القُرآنِ الكَريمِ
عُمومُ قَولِ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء: 59] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ ذلك أمرٌ مِنَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ بأنَّ كُلَّ شَيءٍ تَنازَعَ فيه النَّاسُ مِن أصولِ الدِّينِ وفُروعِه أن يَرُدُّوه إلى الكِتابِ والسُّنَّةِ، كما في قَولِ اللهِ تعالى: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ، فما حَكَمَ به الكِتابُ والسُّنَّةُ وشَهِدا له بالصِّحَّةِ، فهذا الحَقُّ، وماذا بَعدَ الحَقِّ إلَّا الضَّلالُ، وإذا كان ما خالَف الكِتابَ والسُّنَّةَ ضلالًا، فهذا مُنكَرٌ، فيَدخُلُ في عُموم المُنكَرِ الذي يَجِبُ إنكارُه [249] يُنظَر: ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (2/ 345)، ((الإنكار في مسائل الخلاف)) لسلطان السبيعي (ص: 143). .
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ:
عُمومُ قَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن رَأى مِنكُم مُنكَرًا فليُغَيِّرْه بيَدِه...)) [250] أخرجه مسلم (49) من حديثِ أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه. .
ثالِثًا: الإجماعُ
ومِمَّن نَقَلَه: ابنُ تَيميَّةَ [251] قال: (فإذا كان القَولُ يُخالِفُ سُنَّةً أو إجماعًا قديمًا وجَبَ إنكارُه وِفاقًا). ((الفتاوى الكُبرى)) (6/ 96). ويُنظَر: ((روضة الطالبين)) للنووي (10/ 220)، ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (4/ 232). .

انظر أيضا: