موسوعة أصول الفقه

الفرعُ الخامِسُ: تَعارُضُ الأدِلَّةِ


تَعارُضُ الأدِلَّةِ هو التَّقابُلُ بَينَها على سَبيلِ التَّمانُعِ، أو هو اقتِضاءُ الدَّليلِ منها خِلافَ ما يَقتَضيه الآخَرُ في نَظَرِ المُجتَهِدِ لا في نَفسِ الأمرِ؛ لأنَّه لا تَعارُضَ في الحَقيقةِ والواقِعِ بَينَ أدِلَّةِ الشَّرعِ [306] يُنظَر: ((أسباب اختلاف الفقهاء)) للتركي (ص: 265- 266)، ((أسباب اختلاف الفقهاء في الفروع)) للصاعدي (ص: 97). .
والتَّعارُضُ قد يَقَعُ بَينَ الأدِلَّةِ النَّقليَّةِ، كالكِتابِ والسُّنَّةِ والإجماعِ، أو بَينَ الأدِلَّةِ الأخرى، كالقياسِ والمَصلَحةِ المُرسَلةِ، أو بَينَ دَليلٍ نَقليٍّ وآخَرَ عَقليٍّ، وإذا وقَعَ في نَظَرِ المُجتَهِدِ تَعارُضٌ بَينَ أدِلَّةِ الشَّريعةِ وجَبَ دَفعُه؛ لأنَّ الشَّريعةَ في الواقِعِ لا تَعارُضَ بَينَ أدِلَّتِها.
قال الشَّاطِبيُّ: (إنَّ كُلَّ مَن تَحَقَّق بأصولِ الشَّريعةِ فأدلَّتُها عِندَه لا تَكادُ تَتَعارَضُ، كَما أنَّ كُلَّ مَن حَقَّقَ مَناطَ المَسائِلِ فلا يَكادُ يَقِفُ في مُتَشابِهٍ؛ لأنَّ الشَّريعةَ لا تَعارُضَ فيها البَتَّةَ، فالمُتَحَقِّقُ بها مُتَحَقِّقٌ بما في نَفسِ الأمرِ؛ فيَلزَمُ أن لا يَكونَ عِندَه تَعارُضٌ؛ ولِذلك لا تَجِدُ البَتَّةَ دَليلَينِ أجمَعَ المُسلِمونَ على تَعارُضِهما بحَيثُ وجَبَ عليهمُ الوُقوفُ، لكِن لمَّا كان أفرادُ المُجتَهِدينَ غَيرَ مَعصومينَ مِنَ الخَطَأ أمكَنَ التَّعارُضُ بَينَ الأدِلَّةِ عِندَهم) [307] ((الموافقات)) (5/ 341). .
ومِن أمثِلةِ ما يَظهَرُ فيه التَّعارُضُ [308] يُنظَر: ((أسباب اختلاف الفقهاء)) للصاعدي (ص: 100). :
اختِلافُ الفُقَهاءِ فيمَن جاءَ إلى المَسجِدِ وقد صَلَّى رَكعَتي سُنَّةِ الفَجرِ في بَيتِه: هَل يُصَلِّي عِندَ دُخولِ المَسجِدِ أو لا؟ فذَهَبَ الشَّافِعيُّ إلى أنَّه يُصَلِّي [309] يُنظَر: ((المجموع)) للنووي (4/ 164). ، وهيَ رِوايةٌ عن مالِكٍ [310] يُنظَر: ((الاستذكار)) لابن عبد البر (2/ 305)، ((البيان والتحصيل)) لابن رشد (1/ 238). . وذَهَبَ أبو حَنيفةَ إلى أنَّه لا يُصَلِّي [311] يُنظَر: ((البناية شرح الهداية)) للعيني (2/ 66). ، وهيَ رِوايةٌ أخرى عن مالِكٍ [312] يُنظَر: ((الاستذكار)) لابن عبد البر (2/ 305)، ((البيان والتحصيل)) لابن رشد (1/ 238). ، وسَبَبُ الخِلافِ مُعارَضةُ عُمومِ قَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إذا جاءَ أحَدُكُمُ المَسجِدَ فليَركَعْ رَكعَتَينِ قَبلَ أن يَجلِسَ)) [313] أخرجه البخاري (444)، ومسلم (714) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ أبي قتادةَ السُّلَميِّ رَضِيَ اللهُ عنه، بلَفظ: "إذا دَخَلَ أحَدُكُمُ المَسجِدَ ...". لعُمومِ قَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا صَلاةَ بَعدَ الفَجرِ إلَّا رَكعَتي الفَجرِ)) [314] أخرجه عبد الرزاق (4757)، وابن أبي شيبة (7446)، والبيهقي (4501) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رضِيَ اللهُ عنهما، ولفظُ عبدِ الرَّزَّاقِ والبيهقيِّ: ((لا صَلاةَ بَعدَ طُلوعِ الفجرِ إلَّا رَكعَتَيِ الفجرِ)). قال البَيهَقيُّ: في إسنادِه مَن لا يُحتَجُّ به، وذَكَر ابنُ عبدِ البر في ((التمهيد)) (20/101) أنَّ فيه عبدَ الرَّحمنِ بنَ زيادٍ الإفريقيَّ: ليس عِندَ أكثَرِهم بحُجَّةٍ، وذَكَر ابنُ الجَوزيِّ كما في ((تنقيح التحقيق)) لمحمد ابن عبد الهادي (2/378) أنَّ فيه ابنَ أنعَمَ الإفريقيَّ، قال الدَّارَقُطنيُّ: ليس بقَويٍّ. .

انظر أيضا: