موسوعة أصول الفقه

المَطلَبُ الثَّاني: تَأنِّي المُفتي وفَهمُ سُؤالِ المُستَفتي قَبلَ الجَوابِ واستِفساره


التَّأنِّي والتَّثَبُّتُ مِنَ الخِصالِ المَحمودةِ والصِّفاتِ الحَسَنةِ؛ فقد قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للأشَجِّ؛ أشَجِّ عَبدِ القَيسِ، مُثنيًا عليه: ((إنَّ فيك خَصلَتَينِ يُحِبُّهما اللهُ: الحِلمُ، والأناةُ)) [600] أخرجه مسلم (17) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما. .
وإذا فقَدَ المُفتي صِفةَ التَّأنِّي، وتَلَبَّس بالعَجَلةِ في الفتوى والتَّسَرُّعِ في إجابةِ السَّائِلينَ، أوقَعَه ذلك في خَلَلٍ كَبيرٍ وتَساهُلٍ عَظيمٍ، وقد حَذَّرَ العُلَماءُ مِن تَسَرُّعِ مَن تصَدَّر للفتوى إلى الإفتاءِ.
وفي رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أُسوةٌ حَسَنةٌ في إجابةِ السَّائِلينَ؛ فقد عَقَد البخاريُّ في صحيحِه تَرجَمةً بعُنوانِ: (بابُ ما كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُسألُ مِمَّا لم يَنزِلْ عليه الوحيُ، فيَقولُ لا أدري، أو لم يُجِبْ حتَّى يَنزِلَ عليه الوحيُ، ولم يَقُلْ برَأيٍ أو قياسٍ) [601] ((صحيح البخاري)) (9/100). .
ونَقَلَ ابنُ الصَّلاحِ عن عُلَماءِ السَّلَفِ مِنَ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم ومَن بَعدَهم أنَّه (كان أحَدُهم لا تَمنَعُه شُهرَتُه بالأمانةِ، واضطِلاعُه بمَعرِفة المُعضِلاتِ في اعتِقادِ مَن يَسألُه مِنَ العامَّةِ، مِن أن يَدفَعَ بالجَوابِ، أو يَقولَ: لا أدري، أو يُؤَخِّرَ الجَوابَ إلى حينِ يَدري) [602] ((أدب المفتي والمستفتي)) (ص: 74). .
وقال ابنُ الصَّلاحِ: (إذا كان المُستَفتي بَعيدَ الفَهمِ فيَنبَغي للمُفتي أن يَكونَ رَفيقًا به صَبورًا عليه، حَسَنَ التَّأنِّي في التَّفهُّمِ منه والتَّفهيمِ له، حَسَنَ الإقبالِ عليه، لا سيَّما إذا كان ضَعيفَ الحالِ، مُحتَسِبًا أجرَ ذلك؛ فإنَّه جَزيلٌ) [603] ((أدب المفتي والمستفتي)) (ص: 135). .
وقال ابنُ القَيِّمِ: (كان السَّلَفُ مِنَ الصَّحابةِ والتَّابِعينَ يَكرَهونَ التَّسَرُّعَ في الفتوى، ويَوَدُّ أحَدُهم أن يَكفيَه إيَّاها غَيرُه، فإذا رَأى أنَّها قد تَعَيَّنَت عليه بَذَل اجتِهادَه في مَعرِفةِ حُكمِها مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ، أو قَولِ الخُلَفاءِ الرَّاشِدينَ، ثُمَّ أفتى) [604] ((إعلام الموقعين)) (1/ 70). .
فعن عَبدِ الرَّحمنِ بنِ أبي ليلى، قال: (أدرَكتُ عِشرينَ ومِئةً مِنَ الأنصارِ مِن أصحابِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ما مِنهم من أحَدٍ يُحَدِّثُ بحَديثٍ إلَّا ودَّ أنَّ أخاه كَفاه إيَّاه، ولا يُستَفتى عن شَيءٍ إلَّا وَدَّ أنَّ أخاه كَفاه الفتوى) [605] يُنظَر: ((المدخل إلى السنن الكبرى)) للبيهقي (2/ 859). .
ومِن صُوَرِ تَأنِّي المُفتي: (أن لا يَأخُذَ بظاهرِ لفظِ المُستَفتي العامِّيِّ حتَّى يَتَبَيَّنَ مَقصودَه؛ فإنَّ العامَّةَ رُبَّما عَبَّروا بالألفاظِ الصَّريحةِ عن غَيرِ مَدلولِ ذلك اللَّفظِ، ومَتى كان حالُ المُستَفتي لا تَصلُحُ له تلك العِبارةُ ولا ذلك المَعنى، فذلك ريبةٌ يَنبَغي للمُفتي الكَشفُ عن حَقيقةِ الحالِ كَيف هو، ولا يَعتَمِدُ على لفظِ الفُتيا أو لفظِ المُستَفتي، فإذا تَحَقَّقَ الواقِعَ في نَفسِ الأمرِ ما هو، أفتاه، وإلَّا فلا يُفتيه مَعَ الرِّيبةِ، وكذلك إذا كان اللَّفظُ ما مِثلُه يُسأَلُ عنه يَنبَغي أن يَستَكشِفَ ولا يُفتيَ بناءً على ذلك اللَّفظِ؛ فإنَّ وراءَه في الغالِبِ مَرمًى هو المَقصودُ، ولو صَرَّح به امتَنَعَتِ الفُتيا) [606] ((الإحكام)) (ص: 236). .
وقد رُويَ أنَّ أيُّوبَ السَّختيانيَّ كان إذا سَألَه السَّائِلُ قال له: أعِدْ، فإن أعادَ السُّؤالَ كما سَألَه عنه أوَّلًا أجابَه، وإلَّا لم يُجِبْه.
قال ابنُ القَيِّمِ: (وهذا مِن فَهمِه وفِطنَتِه رَحِمَه اللهُ، وفي ذلك فوائِدُ عَديدةٌ:
منها: أنَّ المَسألةَ تَزدادُ وُضوحًا وبَيانًا بتَفهُّمِ السُّؤالِ.
ومنها: أنَّ السَّائِلَ لعَلَّه أهمَلَ فيها أمرًا يَتَغَيَّرُ به الحُكمُ، فإذا أعادَها رُبَّما بَيَّنَه له.
ومنها: أنَّ المَسؤولَ قد يَكونُ ذاهلًا عِندَ السُّؤالِ أوَّلًا، ثُمَّ يَحضُرُ ذِهنُه بَعدَ ذلك.
ومنها: أنَّه رُبَّما بانَ له تَعنُّتُ السَّائِلِ وأنَّه وضَعَ المَسألةَ، فإذا غَيَّرَ السُّؤالَ وزادَ فيه ونَقَصَ فرُبَّما ظَهَرَ له أنَّ المَسألةَ لا حَقيقةَ لها، وأنَّها مِنَ الأُغلوطاتِ أو غَيرِ الواقِعاتِ التي لا يَجِبُ الجَوابُ عنها؛ فإنَّ الجَوابَ بالظَّنِّ إنَّما يَجوزُ عِندَ الضَّرورةِ، فإذا وقَعَتِ المَسألةُ صارَت حالَ ضَرورةٍ، فيَكونُ التَّوفيقُ إلى الصَّوابِ أقرَبَ) [607] ((إعلام الموقعين)) (3/11). .
ومِن أمثِلةِ تَأنِّي المُفتي: قَولُ مالِكٍ: (رُبَّما ورَدَت عليَّ المَسألةُ تَمنَعُني مِنَ الطَّعامِ والشَّرابِ والنَّومِ! فقيلَ له: يا أبا عَبدِ اللَّهِ، واللهِ ما كَلامُك عِندَ النَّاسِ إلَّا نَقرٌ في حَجَرٍ! ما تَقولُ شَيئًا إلَّا تَلَقَّوه مِنك. قال: فمَن أحَقُّ أن يَكونَ هكذا إلَّا مَن كان هكذا؟).
وقال أيضًا: (رُبَّما ورَدَت عليَّ المَسألةُ فأفكِّرُ فيها لياليَ).
وكان إذا سُئِلَ عنِ المَسألةِ قال للسَّائِلِ: (انصَرِفْ حتَّى أنظُرَ فيها. فيَنصَرِفُ ويُرَدِّدُ فيها، فقيلَ له في ذلك فبَكى وقال: (إنِّي أخافُ أن يَكونَ لي مِنَ المَسائِلِ يَومٌ، وأيُّ يَومٍ؟!) [608] يُنظَر: ((الموافقات)) للشاطبي (5/ 323). .
قال الشَّاطِبيُّ: (فرُبَّما سُئِلَ عن خَمسينَ مَسألةً فلا يُجيبُ منها في واحِدةٍ! وكان يَقولُ: مَن أحَبَّ أن يُجيبَ عن مَسألةٍ فليَعرِضْ نَفسَه قَبلَ أن يُجيبَ على الجَنَّةِ والنَّارِ، وكَيف يَكونُ خَلاصُه في الآخِرةِ، ثُمَّ يُجيبُ!) [609] ((الموافقات)) (5/ 324). .
ومِمَّا يَتَعَلَّقُ بالتَّأنِّي أيضًا استِماعُ المُفتي لسُؤالِ المُستَفتي، والصَّبرُ عليه؛ فيَنبَغي للمُفتي أن لا يُجيبَ إلَّا بَعدَ حُصولِ الطُّمَأنينةِ على صِحَّةِ الجَوابِ، ولا يُجيبَ إن كان في قَلبِه شُبهةٌ ولَو يَسيرةً، ولا يَتَأثَّرَ في ذلك بإلحاحِ المُستَفتي على التَّعجيلِ في الجَوابِ [610] يُنظَر: ((الفتوى)) للدخيل (ص: 354). .

انظر أيضا: