موسوعة أصول الفقه

الفرعُ السَّابِعُ: يُراعي أن يَكونَ العالِمُ مِن أهلِ بَلَدِه


والمُرادُ بذلك أن يَكونَ مُقيمًا فيه إقامةً تُمَكِّنُه مِن مَعرِفةِ أحوالِ النَّاسِ وأعرافِهم والكَثيرِ مِن أمورِ دُنياهم.
فمَعَ هذا التَّطَوُّرِ السَّريعِ في وسائِلِ الاتِّصالِ والمَعلوماتِ أضحى النَّاسُ في شَتَّى أرجاءِ العالَمِ الإسلاميِّ يَسمَعونَ فتاوى مِنَ المَشرِقِ والمَغرِبِ مِمَّا قد تَكونُ الأحكامُ فيه مَبنيَّةً على عُرفِ مُجتَمَعٍ، أو أحوالٍ وظُروفٍ مُعَيَّنةٍ مُعتَبَرةٍ شَرعًا أثَّرت في الفتوى، مِمَّا هو ليسَ متوافرًا في مُجتَمَعٍ آخَرَ؛ فمُجتَمَعٌ مُحافِظٌ غَيرُ مُجتَمَعٍ تَكثُرُ فيه المُحرَّماتُ، ومُجتَمَعٌ عِبارةٌ عن أقَلِّيَّاتٍ إسلاميَّةٍ في دَولةٍ كافِرةٍ غَيرُ مُجتَمَعٍ إسلاميٍّ في دَولةٍ مُسلِمةٍ، ومُجتَمَعٌ مختَلطٌ بالعَدوِّ في حَربٍ وسِلمٍ وتَربِطُه مَعَه عَلائِقُ اقتِصاديَّةٌ وخِدميَّةٌ مُشتَرَكةٌ، غَيرُ مُجتَمَعٍ بَعيدٍ عنِ العَدوِّ آمِنٍ في أرضِه، وتَختَلِفُ الفتاوى في تلك المُجتَمَعاتِ بَعضِها عن بَعضٍ، وكُلُّ ذلك راجِعٌ إلى تَحقيقِ المَناطِ، فيَختَلِفُ باختِلافِ الأماكِنِ كَما يَختَلِفُ باختِلافِ الأحوالِ والأزمانِ والأشخاصِ.
وإذا استَفتى غَيرَه مِمَّن ليسَ مِن أهلِ بَلَدِه فيَنبَغي أن يَكونَ المُفتي عالِمًا بأعرافِ بلادِ المُستَفتي.
قال القَرافيُّ: (لو خَرَجنا نَحنُ مِن ذلك البَلَدِ إلى بَلَدٍ آخَرَ، عَوائِدُهم على خِلافِ عادةِ البَلَدِ الذي كُنَّا فيه: أفتَيناهم بعادةِ بَلَدِهم، ولم نَعتَبِرْ عادةَ البَلَدِ الذي كُنَّا فيه. وكذلك إذا قدِمَ علينا أحَدٌ مِن بَلَدٍ عادتُه مُضادَّةٌ للبَلَدِ الذي نَحنُ فيه لم نُفتِه إلَّا بعادةِ بَلَدِه دونَ عادةِ بَلَدِنا) [666] ((الإحكام)) (ص: 219). .
ثُمَّ نَقَلَ القَرافيُّ الإجماعَ على ذلك، فقال: (يَنبَغي للمُفتي إذا ورَدَ عليه مُستَفتٍ لا يَعلَمُ أنَّه مِن أهلِ البَلَدِ الذي منه المُفتي ومَوضِعَ الفُتيا: أن لا يُفتيَه بما عادَتُه يُفتي به حتَّى يَسألَه عن بَلَدِه، وهَل حَدَثَ لهم عُرفٌ في ذلك البَلَدِ في هذا اللَّفظِ اللُّغَويِّ أم لا؟ وإن كان اللَّفظُ عُرفيًّا فهَل عُرْفُ ذلك البَلَدِ موافِقٌ لهذا البَلَدِ في عُرفِه أم لا؟
وهذا أمرٌ مُتَعَيِّنٌ واجِبٌ لا يَختَلِفُ فيه العُلَماءُ، وأنَّ العادَتَينِ مَتى كانتا في بَلدَتَينِ ليسَتا سَواءً أنَّ حُكمَهما ليسَ سَواءً، إنَّما اختَلَف العُلَماءُ في العُرفِ واللُّغةِ هَل يُقدَّمُ العُرفُ على اللُّغةِ أم لا؟ والصَّحيحُ تَقديمُه؛ لأنَّه ناسِخٌ، والنَّاسِخُ مُقدَّمٌ على المَنسوخِ إجماعًا، فكذلك هاهنا) [667] ((الإحكام)) (ص: 232). .
ومِن هنا ذَكرَ ابنُ القَيِّمِ تَحذيرًا للمُفتي أن يُفتيَ بعادَتِه هو دونَ مَعرِفةِ عادةِ بَلَدِ المُستَفتي، فقال: (لا يَجوزُ له أن يُفتيَ في الأقاريرِ والأيمانِ والوصايا وغَيرِها مِمَّا يَتَعَلَّقُ باللَّفظِ بما اعتادَه هو مِن فَهمِ تلك الألفاظِ، دونَ أن يَعرِفَ عُرفَ أهلِها والمُتَكَلِّمينَ بها، فيَحمِلُها على ما اعتادوه وعَرَفوه، وإن كان مُخالِفًا لحَقائِقِها الأصليَّةِ. فمَتى لم يَفعَلْ ذلك ضَلَّ وأضَلَّ... وهذا بابٌ عَظيمٌ يَقَعُ فيه المُفتي الجاهلُ، فيَغُرُّ النَّاسَ، ويَكذِبُ على اللهِ ورَسولِه، ويُغَيِّرُ دينَه، ويُحَرِّمُ ما لم يُحَرِّمْه اللهُ، ويوجِبُ ما لم يوجِبْه اللهُ. واللهُ المُستَعانُ) [668] ((إعلام الموقعين)) (5/ 123 - 125). .

انظر أيضا: