موسوعة أصول الفقه

المَسألةُ الثَّالِثةُ: إذا بَلَغَ المُستَفتيَ رُجوعُ المُفتي عن فَتواه


اختَلَف الأصوليُّونَ في هذه المَسألةِ على أقوالٍ:
فذَهَبَ بَعضُ الأصوليِّينَ إلى أنَّ المُفتيَ إذا أفتى بشَيءٍ ثُمَّ رَجَعَ عنه، فإن عَلِم المُستَفتي برُجوعِه ولم يَكُنْ عَمِلَ بالأوَّلِ، لم يَجُزِ العَمَلُ به، وكَذا إن نَكَحَ بفتواه واستَمَرَّ على نِكاحٍ بفتواه، ثُمَّ رَجَعَ، لزِمَه مُفارَقتُها، كَما لو تغَيَّر اجتِهادُ مَن قَلَّدَه في القِبلةِ في أثناءِ صَلاتِه.
وإن كان قد عَمِلَ بالفتوى الأُولى قَبلَ رُجوعِ المُفتي عنها، فإن خالَف دَليلًا قاطِعًا لزِمَ المُستَفتيَ نَقضُ عَمَلِه ذلك، وإن كان في مَحَلِّ اجتِهادٍ لم يَلزَمْه نَقضُه؛ لأنَّ الاجتِهادَ لا يُنقَضُ بالاجتِهادِ.
ومِمَّنِ اختارَه: أبو القاسِمِ الصَّيمَريُّ [695] نسبه إليه النووي. يُنظَر: ((المجموع)) (1/ 45). ، والخَطيبُ البَغداديُّ [696] يُنظَر: ((الفقيه والمتفقه)) (2/ 423). ، وابنُ الصَّلاحِ [697] يُنظَر: ((أدب المفتي والمستفتي) (ص: 109). ، والنَّوَويُّ [698] يُنظَر: ((المجموع)) (1/ 45)، ((آداب الفتوى والمفتي والمستفتي)) (ص: 35). وقال بَعدَ نِسبَتِه إلى الصَّيمريِّ والخَطيبِ وابنِ الصَّلاحِ: (ولا أعلَمُ خِلافَه) [699] ((المجموع)) (1/ 45)، ((آداب الفتوى والمفتي والمستفتي)) (ص: 35). ، وذَهَبَ إليه ابنُ حمدانَ [700] يُنظَر: ((صفة الفتوى)) (ص: 30). .
وذَهَبَ بَعضُ الأصوليِّينَ إلى أنَّه لا يَحرُمُ عليه القَولُ الأوَّلُ بمُجَرَّدِ رُجوعِ المُفتي، بَل يَتَوقَّفُ حتَّى يَسألَ غَيرَه؛ فإن أفتاه بموافقةِ الأوَّلِ استَمَرَّ على العَمَلِ به، وإن أفتاه بموافَقةِ الثَّاني، ولم يُفتِه أحَدٌ بخِلافِه، حَرُمَ عليه العَمَلُ بالأوَّلِ، وإن لم يَكُنْ في البَلَدِ إلَّا مُفتٍ واحِدٌ سَألَه عن رُجوعِه عَمَّا أفتاه به، فإن رَجَعَ إلى اختيارِ خِلافِه مَعَ تَسويغِه لم يَحرُمْ عليه، وإن رَجَعَ لخَطَأٍ بان له، وأنَّ ما أفتاه به لم يَكُنْ صَوابًا، حَرُمَ عليه العَمَلُ بالأوَّلِ، هذا إذا كان رُجوعُه لمُخالَفةِ دَليلٍ شَرعيٍّ [701] قال ابنُ الصَّلاحِ: (إذا كان المُفتي إنَّما يُفتي على مَذهَبِ إمامٍ مُعَيَّنٍ، فإذا رَجَعَ لِكَونِه بانَ لَه قَطعًا أنَّه خالَف في فتواه نَصَّ مَذهَبِ إمامِه فإنَّه يَجِبُ نَقضُه وإن كان ذلك في مَحَلِّ الاجتِهادِ؛ لأنَّ نَصَّ مَذهَبِ إمامِه في حَقِّه كنَصِّ الشَّارِعِ في حَقِّ المُفتي المُجتَهِدِ المُستَقِلِّ). ((أدب المفتي والمستفتي)) (ص: 109). وقال ابنُ القَيِّمِ: (فإن كان رُجوعُه لمُجَرَّدِ ما بانَ له أنَّ ما أفتى به خِلافُ مَذهَبِه لَم يَحرُمْ على المُستَفتي ما أفتاه به أوَّلًا). ((إعلام الموقعين)) (5/ 115). ، إلَّا أن تَكونَ المَسألةُ إجماعيَّةً، ومِمَّنِ اختارَ هذا القَولَ: ابنُ القَيِّمِ [702] يُنظَر: ((إعلام الموقعين)) (5/ 114). .

انظر أيضا: