موسوعة أصول الفقه

الفَرعُ الثَّاني: تعريفُ الحُكمِ الوَضعيِّ اصطِلاحًا


الحُكمُ الوضعيُّ، ويُسَمَّى أيضًا بخِطابِ الوَضعِ والإخبارِ [855] يُنظر: ((روضة الناظر)) لابن قدامة (1/175)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (1/411)، ((البحر المحيط)) للزركشي (1/169). ومَعنى تَسميَتِه بذلك: أنَّ الشَّرعَ -بوضعِ الأسبابِ والشُّروطِ والمَوانِعِ وغيرِها- أخبَرنا بوُجودِ أحكامِه أوِ انتِفائِها عِندَ وُجودِ تلك الأُمورِ أوِ انتِفائِها، فكأنَّه قال مَثَلًا: إذا وُجِدَ النِّصابُ الذي هو سَبَبُ وُجوبِ الزَّكاةِ، والحَولُ الذي هو شَرطُه، فاعلَموا أنِّي أوجَبتُ عليكُم أداءَ الزَّكاةِ، وإن وُجِدَ الدَّينُ الذي هو مانِعٌ مِن وُجوبِها، أوِ انتَفى السَّومُ الذي هو شَرطٌ لوُجوبِها في السَّائِمةِ؛ فاعلَموا أنِّي لَم أُوجِبْ عليكم الزَّكاةَ، وكذا الكلامُ في القِصاصِ، والسَّرِقةِ، والزِّنا، وكثيرٍ مِنَ الأحكامِ، بالنَّظَرِ إلى وُجودِ أسبابِها وشُروطِها وانتِفاءِ مَوانِعِها وعَكسِ ذلك. يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (1/412)، ((نزهة الخاطر)) لابن بدران (1/130). .
وهو: خِطابُ اللهِ المُتَعَلِّقُ بجَعلِ الشَّيءِ سَبَبًا لشيءٍ آخَرَ، أو شَرطًا لَه، أو مانِعًا مِنه، أو عَزيمةً أو رُخصةً، أو صَحيحًا، أو فاسِدًا [856] يُنظر: ((الموافقات)) للشاطبي (1/297). ويُنظر أيضًا: ((الإحكام)) للآمدي (1/96)، ((مختصر التحرير)) لابن النجار (1/342)، ((الشامل)) لعبدالكريم النملة (1/278). .
وقيلَ هو: ما استُفيدَ بواسِطةِ نَصبِ الشَّارِعِ علمًا مُعَرِّفًا لحُكمِه [857] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (1/411)، ((المختصر)) لابن اللحام (ص:65)، ((التحبير)) للمرداوي (3/1047). .
شَرحُ التَّعريفِ المُختارِ وبيانُ مُحتَرَزاتِه:
- جُملةُ "خِطابُ اللَّهِ": جِنسٌ يَشمَلُ جَميعَ أنواعِ الخِطاباتِ، وبإضافتِها إلى اللهِ عَزَّ وجَلَّ أُخرِجَ خِطابُ غيرِ اللهِ، ودَخل في خِطابِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ السُّنَّةُ والإجماعُ والقياسُ وغَيرُها مِنَ الأدِلَّةِ المُعتَبرةِ؛ لأنَّها ثابتةٌ بخِطابِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، وهو الذي دَلَّ على اعتِبارِها.
- جُملةُ "المُتَعَلِّقُ بجَعلِ الشَّيءِ سَبَبًا...": أي: المُرتَبطُ بجَعلِ الشَّيءِ عَلامةً على شيءٍ آخَرَ، والشَّارِعُ الحَكيمُ هو الذي جَعَلَ هذا الشَّيءَ عَلامةً على حُكمٍ ما، وهذه العَلاماتُ أنواعٌ؛ فمِن ذلك -مَثَلًا- العَزيمةُ والرُّخصةُ؛ فقَد جَعَلَ الشَّارِعُ عَدَمَ العُذرِ عَلامةً على ثُبوتِ الأحكامِ في حَقِّ المُكلَّفِ، ووُجودَ العُذرِ عَلامةً على التَّرَخُّصِ بثُبوتِ أحكامٍ أُخرى على خِلافِ الدَّليلِ؛ مُراعاةً لعُذرِه [858] يُنظر: ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (2/669-674)، ((البحر المحيط)) للزركشي (2/5، 6)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (1/248-250)، ((الشرح الكبير لمختصر الأصول)) للمنياوي (ص:126). .
أمثِلةٌ:
1- مِنَ القُرآنِ الكريمِ:
الخِطابُ الوارِدُ بجَعلِ الدُّلوكِ سَبَبًا لوُجوبِ الصَّلاةِ المَدلولِ عليه بقَولِ اللهِ تعالى: أَقِمِ الصَّلَاةِ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ [الإسراء: 78] ، فالشَّارِعُ جَعَلَ الدُّلوكَ سَبَبًا لوُجوبِ الصَّلاةِ [859] يُنظر: ((أصول السرخسي)) للسرخسي (1/22)، ((الإحكام)) للآمدي (1/127). قال السَّمعانيُّ: (اختَلَفوا في الدُّلوكِ: قال ابنُ مَسعودٍ: هو الغُروبُ، وقال ابنُ عَبَّاسٍ: هو الزَّوالُ، وقد حُكيَ عنهما كِلا القَولينِ، وكذلك اختَلَف التَّابِعونَ في هذا. وأصلُ الدُّلوكِ مِنَ المَيلِ، والشَّمسُ تَميلُ إذا زالَت أو غَرَبَت... وأَولى القَولينِ أن يُحمَلَ على الزَّوالِ؛ لكثرةِ القائِلينَ به؛ فإنَّ أكثَرَ التَّابعينَ حَمَلوه عليه، ولأنَّا إذا حَمَلناه عليه تَناولَتِ الآيةُ جَميعَ الصَّلَواتِ الخَمسِ؛ فإنَّ قَولَه: لِدُلُوكِ الشَّمْسِ يَتَناولُ الظُّهرَ والعَصرَ، وقَولَه: إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ يَتَناولُ المَغرِبَ والعِشاءَ). ((تفسير السمعاني)) (3/267). .
ومِن أمثِلةِ العَزيمةِ قَولُه تعالى: حَرُمَت عليكُمُ الميِّتة؛ فتَحريمُ المَيتةِ عَزيمةٌ [860] يُنظر: ((الشامل)) لعبدالكريم النملة (1/319). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:
الخِطابُ الوارِدُ بجَعلِ الحيضِ مانِعًا مِنَ الصَّلاةِ، كما في حَديثِ عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: جاءَت فاطِمةُ بنتُ أبي حُبَيشٍ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقالت: يا رَسولَ اللهِ، إنِّي امرَأةٌ أُستَحاضَ فلا أطهُرُ، أفأدَعُ الصَّلاةَ؟ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا، إنَّما ذلكِ عِرقٌ وليس بحَيضٍ، فإذا أقبَلَت حَيضَتُك فدَعي الصَّلاةَ، وإذا أدبَرَت فاغسِلي عنكِ الدَّمَ ثُمَّ صَلِّي)) [861] أخرجه البخاري (228) واللفظ له، ومسلم (333). ؛ فدلَّ الحديثُ على أنَّ الحيضَ مانعٌ من الصَّلاةِ [862] يُنظر: ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (344)، ((مبادئ الأصول)) لابن باديس (1/20). .
وكذا الخِطابُ الوارِدُ بجَعلِ الطَّهارةِ مِنَ الحَدَثِ شَرطًا في صِحَّةِ الصَّلاةِ؛ فعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا تُقبَلُ صَلاةُ مَن أحدَثَ حَتَّى يَتَوضَّأ)) [863] أخرجه البخاري (135) واللفظ له، ومسلم (225). .
 وعنِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: إنِّي سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((لا تُقبَلُ صَلاةٌ بغَيرِ طُهورٍ)) [864] أخرجه مسلم (224). .

انظر أيضا: