موسوعة أصول الفقه

المَطلبُ الثَّاني: حُجِّيَّةُ القُرآنِ


القُرآنُ الكَريمُ: هو مَصدَرُ التَّشريعِ الأوَّلُ، وأصلُ الأُصولِ، وهو حُجَّةٌ مِن كُلِّ وَجهٍ؛ لتوقُّفِ حُجِّيَّةِ غَيرِه مِن الأُصولِ عليه لثُبوتِها به، فيَجِبُ الأخذُ به والامتِثالُ لِما فيه، وكُلُّ تَعاليمِ الإسلامِ يَجِبُ أن تَرجِعَ في أُصولِها إلى القُرآنِ: العَقائِدُ والمَفاهيمُ والقِيَمُ، والعِباداتُ والشَّعائِرُ، والأخلاقُ والآدابُ، والقَوانينُ والشَّرائِعُ.
قال الشَّاطِبيُّ: (الكِتابُ قد تَقَرَّر أنَّه كُلِّيَّةُ الشَّريعةِ، وعُمدةُ المِلَّةِ، ويَنبوعُ الحِكمةِ، وآيةُ الرِّسالةِ، ونورُ الأبصارِ والبَصائِرِ، وأنَّه لا طَريقَ إلى اللهِ سِواه، ولا نَجاةَ بغَيرِه، ولا تَمَسُّكَ بشَيءٍ يُخالفُه، وهذا كُلُّه لا يَحتاجُ إلى تَقريرٍ واستِدلالٍ عليه؛ لأنَّه مَعلومٌ مِن دينِ الأُمَّةِ) [41] ((الموافقات)) (4/ 144). .
وقد اتَّفقَت الأُمَّةُ على حُجِّيَّةِ القُرآنِ الكَريمِ، وجاءَت الأدِلَّةُ على ذلك قَطعيَّةً، ولا أحَدَ مِن المُسلمينَ يُنكِرُ ذلك، ومَن أنكَرَه فقد كَفرَ بما أُنزِل على مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [42] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (1/ 160)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (11/ 339)، ((التحبير)) للمرداوي (3/ 1229)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (2/ 5)، ((الاجتهاد في مناط الحكم)) للزبيدي (ص: 348). ، ومِمَّن نَقَل الإجماعَ: ابنُ حَزمٍ [43] قال: (لا خِلافَ بَينَ أحَدٍ مِن الفِرَقِ المُنتَميةِ إلى المُسلِمينَ مِن أهلِ السُّنَّةِ والمُعتَزِلةِ والخَوارِجِ والمُرجِئةِ والزَّيديَّةِ في وُجوبِ الأخذِ بما في القُرآنِ). ((الإحكام)) (1/ 96). ، والآمِديُّ [44] قال: (اتَّفَقوا على أنَّ ما نُقِل إلينا مِن القُرآنِ نَقلًا مُتَواتِرًا، وعَلِمنا أنَّه مِن القُرآنِ؛ أنَّه حُجَّةٌ). ((الإحكام)) (1/ 160). ، وابنُ تيميَّةَ [45] قال: (أمَّا طُرُقُ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ التي نَتَكَلَّمُ عليها في أُصولِ الفِقهِ فهيَ بإجماعِ المُسلِمينَ: الكِتابُ، لم يَختَلِفْ أحَدٌ مِن الأئِمَّةِ في ذلك). ((مجموع الفتاوى)) (11/ 339). وقال مُحَمَّد الأمين الشِّنقيطيُّ: (لا خِلافَ بَينَ العُلَماءِ في قِراءةِ السَّبعةِ: نافِعٍ المَدَنيِّ، وابنِ كَثيرٍ المَكِّيِّ، وابنِ عامِرٍ الشَّاميِّ، وأبي عَمرٍو البَصريِّ، وعاصِمٍ وحَمزةَ والكِسائيِّ الكوفيِّينَ، وكذلك على الصَّحيحِ قِراءةُ الثَّلاثةِ: أبي جَعفَرٍ، وخَلَفٍ، ويَعقوبَ). ((مذكرة أصول الفقه)) (ص: 80). بَل حُكيَ الإجماعُ على جَوازِ القِراءةِ بهذه الثَّلاثةِ أيضًا. يُنظر: ((تفسير البغوي)) (1/ 55)، ((البحر المحيط)) للزركشي (2/ 220). .
ومِن أدِلَّةِ حُجِّيَّةِ القُرآنِ:
1- أنَّ القُرآنَ الكَريمَ نَزَل مِن عِندِ اللهِ تعالى، ونُقِل إلى المُسلمينَ عن اللهِ بطَريقٍ قَطعيٍّ لا رَيبَ في صِحَّتِه؛ فهو مَقطوعٌ به بظُهورِ المُعجِزاتِ الدَّالَّةِ على أنَّه مِن عِندِ اللهِ على لسانِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ونَقلِ الخَلَفِ عن السَّلَفِ [46] يُنظر: ((اللمع)) للشيرازي (1/ 317)، ((علم أصول الفقه)) لخلاف (ص: 24). .
2- دَلالةُ التَّحَدِّي: فإنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ قد تَحَدَّى الخَلقَ أن يَأتوا بمِثلِ هذا القُرآنِ فلم يَستَطيعوا الإتيانَ به، قال تعالى: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ [الطور: 34]، وقال تعالى: قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [يونس: 38] .
ومَعَ وُجودِ الدَّواعي المُقتَضيةِ لقَبولِهم التَّحَدِّيَ، ومُحاولةِ الإتيانِ بمِثلِ هذا الكِتابِ، وانتِفاءِ المَوانِعِ، إلَّا أنَّهم -وهم أصحابُ اللُّغةِ والفصاحةِ- لم يَفعَلوا؛ لعَجزِهم عن ذلك؛ مِمَّا يَدُلُّ قَطعًا على أنَّ هذا الكِتابَ ليسَ مِن كَلامِ البَشَرِ [47] يُنظر: ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (1/ 76)، ((البرهان)) للزركشي (2/ 97)، ((القطع والظن)) للشثري (1/ 152). .
3- الإعجازُ: فإنَّ القُرآنَ مَعَ إيجازِه احتَوى على المَعاني الكَثيرةِ، وقد أخبَرَ عن وُقوعِ حَوادِثَ سابقةٍ لنُزولِه لا يَعلمُها إلَّا اللهُ، وحَوادِثَ لا يَعلمُها إلَّا القَليلُ مِن البَشَرِ، فكانت أخبارُه موافِقةً لِما وقَعَ، كما أخبَرَ بوُقوعِ حَوادِثَ لاحِقةٍ فوقَعَت بَعدَ إخبارِه، كما قَرَّرَ سُنَنًا كَونيَّةً كَشف البَحثُ العِلميُّ صِحَّتَها، ومَعَ أنَّ القُرآنَ مِن جِنسِ كَلامِ العَرَبِ إلَّا أنَّه احتَوى على فصاحةٍ عاليةٍ وبَلاغةٍ رَفيعةٍ خارِقةٍ للعادةِ، مَعَ تَناسُبِ آياتِه وسُوَرِه وارتِباطِها ببَعضِها، وصَنيعِه في القُلوبِ وتَأثيرِه في النُّفوسِ عِندَ سَماعِه أو تِلاوتِه، مَعَ حِفظِ آياتِه مِن التَّبديلِ والتَّغييرِ، وصَونِ كَلِماتِه مِن النَّقلِ والتَّحويرِ رَغمَ مُرورِ السَّنَواتِ العَديدةِ؛ مِمَّا يَدُلُّ قَطعًا على أنَّه ليسَ مِن كَلامِ البَشَرِ، وإنَّما هو مِن كَلامِ رَبِّ العِزَّةِ والجَلالِ [48] يُنظر: ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (1/ 72- 75)، ((القطع والظن)) للشثري (1/ 152- 153). ويُنظر في وجوه إعجاز القرآن: ((التلويح)) للتفتازاني (1/ 11)، ((علم أصول الفقه)) لخلاف (ص: 29)، ((الوجيز)) لمحمد الزحيلي (1/ 156). .

انظر أيضا: