موسوعة أصول الفقه

المَطلبُ الخامِسُ: أسبابُ نُزولِ آياتِ القُرآنِ وعَلاقَتُها بالاحتِجاجِ بالقُرآنِ


سَبَبُ النُّزولِ: هو ما نَزَلت الآيةُ أو الآياتُ مُتَحَدِّثةً عنه أو مُبَيِّنةً لحُكمِه أيَّامَ وُقوعِه. والمَعنى: أنَّه حادِثةٌ وقَعَت في زَمَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أو سُؤالٌ وُجِّه إليه، فنَزَلت الآيةُ أو الآياتُ مِن اللهِ تعالى ببَيانِ ما يَتَّصِلُ بتلك الحادِثةِ، أو بجَوابِ هذا السُّؤالِ [62] ((مناهل العرفان)) للزرقاني (1/ 106). .
وإنَّ مَعرِفةَ أسبابِ نُزولِ القُرآنِ [63] يُنظر: ((البرهان)) للزركشي (1/22)، ((الإتقان)) للسيوطي (1/107). مِن الأُمورِ المُهمَّةِ في الاحتِجاجِ بالقُرآنِ، ومِمَّا يُبَيِّنُ أهَمِّيَّتَها في هذا الجانِبِ:
1- أنَّ مَعرِفةَ أسبابِ النُّزولِ يُنتَفعُ بها في مَعرِفةِ الحُكمِ الشَّرعيِّ سَواءٌ في جِنسِه أو صِفتِه ومَحَلِّه [64] يُنظر: ((المسودة)) لآل تيمية (ص: 131). .
قال ابنُ تَيميَّةَ: (الآيةُ التي لها سَبَبٌ مُعَيَّنٌ إن كانت أمرًا ونَهيًا فهيَ مُتَناوِلةٌ لذلك الشَّخصِ ولغَيرِه مِمَّن كان بمَنزِلتِه، وإن كانت خَبرًا بمَدحٍ أو ذَمٍّ فهيَ مُتَناوِلةٌ لذلك الشَّخصِ وغَيرِه مِمَّن كان بمَنزِلتِه أيضًا. ومَعرِفةُ سَبَبِ النُّزولِ يُعينُ على فهمِ الآيةِ، فإنَّ العِلمَ بالسَّبَبِ يورِثُ العِلمَ بالمُسَبَّبِ) [65] ((مجموع الفتاوى)) (13/339). ويُنظر أيضًا: ((المسودة)) لآل تيمية (ص: 231)، ((التحبير)) للمرداوي (8/3875)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (4/363). .
وقال الشَّاطِبيُّ: (مَعرِفةُ أسبابِ التَّنزيلِ لازِمةٌ لمَن أرادَ عِلمَ القُرآنِ)، ومِمَّا يَدُلُّ على ذلك (أنَّ عِلمَ المَعاني والبَيانِ الذي يُعرَفُ به إعجازُ نَظمِ القُرآنِ فَضلًا عن مَعرِفةِ مَقاصِدِ كَلامِ العَرَبِ؛ إنَّما مَدارُه على مَعرِفةِ مُقتَضَياتِ الأحوالِ: حالِ الخِطابِ مِن جِهةِ نَفسِ الخِطابِ، أو المُخاطِبِ، أو المُخاطَبِ، أو الجَميعِ؛ إذ الكَلامُ الواحِدُ يَختَلفُ فهمُه بحَسَبِ حالَينِ، وبحَسَبِ مُخاطَبينِ، وبحَسَبِ غَيرِ ذلك؛ كالاستِفهامِ: لفظُه واحِدٌ ويَدخُلُه مَعانٍ أُخَرُ مِن تَقريرٍ وتَوبيخٍ وغَيرِ ذلك، وكالأمرِ: يَدخُلُه مَعنى الإباحةِ والتَّهديدِ والتَّعجيزِ وأشباهِها، ولا يَدُلُّ على مَعناها المُرادِ إلَّا الأُمورُ الخارِجةُ، وعُمدَتُها مُقتَضَياتُ الأحوالِ، وليسَ كُلُّ حالٍ يُنقَلُ ولا كُلُّ قَرينةٍ تَقتَرِنُ بنَفسِ الكَلامِ المَنقولِ، وإذا فاتَ نَقلُ بَعضِ القَرائِنِ الدَّالَّةِ فاتَ فَهمُ الكَلامِ جُملةً، أو فَهمُ شَيءٍ مِنه، ومَعرِفةُ الأسبابِ رافِعةٌ لكُلِّ مُشكِلٍ في هذا النَّمَطِ؛ فهيَ مِن المُهمَّاتِ في فَهمِ الكِتابِ بلا بُدٍّ، ومَعنى مَعرِفةِ السَّبَبِ هو مَعنى مَعرِفةِ مُقتَضى الحالِ) [66] ((الموافقات)) (4/146). .
2- نَقلُ السَّبَبِ يُبَيِّنُ تاريخَ نُزولِ الآيةِ ليُعرَفَ المُتَقدِّمُ عليه والمُتَأخِّرُ عنه مِن النُّصوصِ الأُخرى، فيُعرَفُ النَّاسِخُ مِن المَنسوخِ [67] يُنظر: ((أصول الفقه)) لعياض السلمي (ص: 360). .
3- فَهمُ النُّصوصِ التي ورَدَت في التَّدَرُّجِ في التَّشريعِ، مِثلُ الآياتِ الوارِدةِ في تَحريمِ الخَمرِ والرِّبا؛ إذ النَّاظِرُ فيها مِن غَيرِ مَعرِفةٍ بأسبابِ نُزولِها قد يَتَوهَّمُ فيها شَيئًا مِن التَّضارُبِ؛ فمِنها ما يَنُصُّ على الحُرمةِ قَطعًا، ومِنها ما يَقتَصِرُ على مُجَرَّدِ التَّنفيرِ، مِمَّا يُفهَمُ مِنه مُجَرَّدُ الكَراهةِ. وإدراكُ أسبابِ النُّزولِ يُبَيِّنُ كَيفيَّةَ تَرتيبِها، ومَا هِي الطَّريقُ المنَاسِبةُ للتعامُلِ مَعَها [68] يُنظر: ((طرق الكشف عن مقاصد الشارع)) لنعمان جغيم (ص: 107). .
4- أنَّ الجَهلَ بأسبابِ النُّزولِ قد يوقِعُ في الشُّبَهِ والإشكالاتِ، وقد يورِدُ النُّصوصَ الظَّاهرةَ مَورِدَ الإجمالِ حتَّى يَقَعَ الاختِلافُ، وذلك مَظِنَّةُ وُقوعِ النِّزاعِ [69] يُنظر: ((الموافقات)) للشاطبي (4/ 146). .
ومِن الأمثِلةِ التي تُبَيِّنُ أهَمِّيَّةَ ذلك: ما ذَكَرَه ابنُ أبي مُلَيكةَ: أنَّ حُمَيدَ بنَ عبدِ الرَّحمَنِ بنِ عَوفٍ أخبَرَه أنَّ مَروانَ قال: اذهَبْ يا رافِعُ (لبَوَّابِه) إلى ابنِ عبَّاسٍ، فقُلْ: لئِن كان كُلُّ امرِئٍ مِنَّا فَرِحَ بما أتى وأحَبَّ أن يُحمَدَ بما لم يَفعَلْ مُعَذَّبًا لنُعَذَّبَنَّ أجمَعونَ! فقال ابنُ عبَّاسٍ: ما لكم ولهذه الآيةِ؟! إنَّما أُنزِلَت هذه الآيةُ في أهلِ الكِتابِ، ثُمَّ تَلا ابنُ عبَّاسٍ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ هذه الآيةَ [آل عمران: 187] ، وتَلا ابنُ عبَّاسٍ: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا [آل عمران: 188] ، وقال ابنُ عبَّاسٍ: سَألهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن شَيءٍ فكَتَموه إيَّاه، وأخبَروه بغَيرِه، فخَرَجوا قد أرَوه أن قد أخبَروه بما سَألهم عنه، واستَحمَدوا بذلك إليه، وفَرِحوا بما أتَوا مِن كِتمانِهم إيَّاه ما سَألهم عنه [70] أخرجه البخاري (4568)، ومسلم (2778) واللفظ له. .
ومِن الأمثِلةِ أيضًا: ما جاءَ عن عُروةَ بنِ الزُّبَيرِ قال: سَألتُ عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها فقُلتُ لها: أرَأيتِ قَولَ اللهِ تعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [البقرة: 158] ، فواللهِ ما على أحَدٍ جُناحٌ أن لا يَطوفَ بالصَّفا والمَروةِ! قالت: بئسَ ما قُلتَ يا ابنَ أُختي! إنَّ هذه لو كانت كَما أوَّلْتَها عليه، كانت: لا جُناحَ عليه ألَّا يَتَطَوَّفَ بهما، ولكِنَّها أُنزِلَت في الأنصارِ؛ كانوا قَبلَ أن يُسلِموا يُهِلُّونَ لمَناةَ الطَّاغيةِ التي كانوا يَعبُدونَها عِندَ المُشَلَّلِ، فكان مَن أهَلَّ يَتَحَرَّجُ أن يَطوفَ بالصَّفا والمَروةِ، فلمَّا أسلَموا سَألوا رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن ذلك، قالوا: يا رَسولَ اللهِ، إنَّا كُنَّا نَتَحَرَّجُ أن نَطوفَ بَينَ الصَّفا والمَروةِ؛ فأنزَل اللهُ تعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة: 158] الآية. قالت عائِشةُ رَضِيَ اللهُ عنها: وقد سَنَّ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الطَّوافَ بَينَهما، فليسَ لأحَدٍ أن يَترُكَ الطَّوافَ بَينَهما، ثُمَّ أخبَرتُ أبا بَكرِ بنَ عبدِ الرَّحمَنِ، فقال: إنَّ هذا لعِلمٌ ما كُنتُ سَمِعتُه، ولقد سَمِعتُ رِجالًا مِن أهلِ العِلمِ يَذكُرونَ: أنَّ النَّاسَ -إلَّا مَن ذَكَرَت عائِشةُ- مِمَّن كان يُهِلُّ بمَناةَ، كانوا يَطوفونَ كُلُّهم بالصَّفا والمَروةِ، فلمَّا ذَكَرَ اللهُ تعالى الطَّوافَ بالبَيتِ، ولم يَذكُرِ الصَّفا والمَروةَ في القُرآنِ، قالوا: يا رَسولَ اللهِ، كُنَّا نَطوفُ بالصَّفا والمَروةِ، وإنَّ اللَّهَ أنزَل الطَّوافَ بالبَيتِ فلم يَذكُرِ الصَّفا، فهَل علينا مِن حَرَجٍ أن نَطوفَ بالصَّفا والمَروةِ؟ فأنزَل اللهُ تعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة: 158] الآية. قال أبو بَكرٍ: فأسمَعُ هذه الآيةَ نَزَلت في الفريقَينِ كِليهما؛ في الذينَ كانوا يَتَحَرَّجونَ أن يَطوفوا بالجاهليَّةِ بالصَّفا والمَروةِ، والذينَ يَطوفونَ ثُمَّ تَحَرَّجوا أن يَطوفوا بهما في الإسلامِ؛ مِن أجلِ أنَّ اللَّهَ تعالى أمَر بالطَّوافِ بالبَيتِ، ولم يَذكُرِ الصَّفا حتَّى ذَكَرَ ذلك بَعدَ ما ذَكَرَ الطَّوافَ بالبَيتِ [71] أخرجه البخاري (1643) واللفظ له، ومسلم (1277). .
ومِن ذلك: دَفعُ تَوهُّمِ الحَصرِ؛ فمَعنى قَولِه تعالى: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا الآية: أنَّ الكُفَّارَ لمَّا حَرَّموا ما أحَلَّ اللَّهُ وأحَلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ، وكانوا على المُضادَّةِ والمحادَّةِ، فجاءَت الآيةُ مُناقِضةً لغَرَضِهم، فكأنَّه قال: لا حَلالَ إلَّا ما حَرَّمتُموه، ولا حَرامَ إلَّا ما أحلَلتُموه، نازِلًا منزِلةَ مَن يَقولُ: لا تَأكُلِ اليَومَ حَلاوةً، فتَقولُ: لا آكُلُ اليَومَ إلَّا الحَلاوةَ، والغَرَضُ المُضادَّةُ لا النَّفيُ والإثباتُ على الحَقيقةِ، فكأنَّه تعالى قال: لا حَرامَ إلَّا ما أحلَلتُموه مِن المَيتةِ والدَّمِ ولحمِ الخِنزيرِ وما أُهِلَّ لغَيرِ اللهِ به، ولم يَقصِدْ حِلَّ ما وراءَه؛ إذ القَصدُ إثباتُ التَّحريمِ لا إثباتُ الحِلِّ [72] يُنظر: ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (1/ 109). .

انظر أيضا: