موسوعة أصول الفقه

الفَرعُ الأوَّلُ: أقسامُ السُّنَّةِ مَعَ القُرآنِ مِن جِهةِ ما ورَدَ فيها مِن الأحكامِ


القِسمُ الأوَّلُ: السُّنَّةُ المُبَيِّنةُ للقُرآنِ
السُّنَّةُ مِنها ما يَكونُ بَيانًا لما أُريدَ بالقُرآنِ وتَفسيرًا له [139] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (3/ 218). ؛ فتَكونُ سُنَّةً مُفَصِّلةً لِما جاءَ في القُرآنِ مُجمَلًا، أو مُقَيِّدةً ما جاءَ فيه مُطلَقًا، أو مُخَصِّصةً ما جاءَ فيه عامًّا، فيَكونُ هذا التَّفصيلُ أو التَّقييدُ أو التَّخصيص الذي ورَدَت به السُّنَّةُ تَبيينًا للمُرادِ مِن الذي جاءَ في القُرآنِ [140] ((علم أصول الفقه)) لخلاف (ص: 39). ؛ قال اللهُ تعالى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل: 44] .
وقد نُقِل الإجماعُ على أنَّ السُّنَّةَ تُبَيِّنُ ما أُجمِل في القُرآنِ، وتُخَصِّصُ عُمومَه، ومِمَّن نَقَله ابنُ رُشدٍ [141] قال: (لا خِلافَ بَينَ أحَدٍ مِن الأُمَّةِ أنَّ السُّنَّةَ تُبَيِّنُ القُرآنَ وتُخَصِّصُ عُمومَه). ((المقدمات الممهدات)) (1/ 404). .
قال الشَّافِعيُّ: (جِماعُ ما أبانَ اللَّهُ لخَلقِه في كِتابه مِمَّا تَعَبَّدَهم به لِما مَضى مِن حُكمِه جَلَّ ثَناؤُه مِن وُجوهٍ: فمِنها ما أبانَه لخَلقِه نَصًّا؛ مِثلُ جُمَلِ فرائِضِه في أنَّ عليهم صَلاةً وزَكاةً وحَجًّا وصَومًا، وأنَّه حَرَّمَ الفواحِشَ ما ظَهَرَ مِنها وما بَطَنَ، ونَصَّ على الزِّنا والخَمرِ وأكلِ المَيتةِ والدَّمِ ولَحمِ الخِنزيرِ، وبَيَّنَ لهم كَيف فَرضُ الوُضوءِ، مَعَ غَيرِ ذلك مِمَّا بَيَّن نَصًّا، ومِنه ما أحكَمَ فَرضَه بكِتابِه وبَيَّنَ كَيف هو على لسانِ نَبيِّه، مِثلُ عَدَدِ الصَّلاةِ والزَّكاةِ ووقتِها وغَيرِ ذلك مِن فرائِضِه التي أنزَل مِن كِتابِه) [142] ((الرسالة)) (ص: 21- 22). ويُنظر أيضًا: ((الأم)) (7/ 301). .
وذَكَرَ الفَضلُ بنُ زِيادٍ أنَّ أحمَدَ بنَ حَنبَلٍ قال: (إنَّ السُّنَّةَ تُفسِّرُ الكِتابَ وتُبَيِّنُه) [143] ((جامع بيان العلم)) لابن عبد البر (2/ 1194). ويُنظر أيضًا: ((البحر المحيط)) للزركشي (6/ 11). .
القِسمُ الثَّاني: السُّنَّةُ المُؤَكِّدةُ للقُرآنِ
وهيَ السُّنَّةُ الموافِقةُ للقُرآنِ مِن كُلِّ وجهٍ، كما قال ابنُ القَيِّمِ: (والسُّنَّةُ مَعَ القُرآنِ على ثَلاثةِ أوجُهٍ: أحَدُها: أن تَكونَ موافِقةً له مِن كُلِّ وجهٍ، فيَكونُ تَوارُدُ القُرآنِ والسُّنَّةِ على الحُكمِ الواحِدِ مِن بابِ تَوارُدِ الأدِلَّةِ وتَظافُرِها) [144] ((إعلام الموقعين)) (3/ 218). .
ومِن هذه الأحكامِ الأمرُ بإقامةِ الصَّلاةِ، وإيتاءِ الزَّكاةِ، وصَومِ رَمَضانَ، وحَجِّ البَيتِ، والنَّهيُ عن الشِّركِ باللهِ، وشَهادةِ الزُّورِ، وعُقوقِ الوالدَينِ، وقَتلِ النَّفسِ بغَيرِ حَقٍّ، وغَيرِ ذلك مِن المَأموراتِ والمَنهيَّاتِ التي دَلَّت عليها آياتُ القُرآنِ وأيَّدَتها سُنَنُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فيَكونُ الحُكمُ له مَصدَرانِ وعليه دَليلانِ: دَليلٌ مُثبِتٌ مِن آيِ القُرآنِ، ودَليلٌ مُؤَيِّدٌ مِن سُنَّةِ الرَّسولِ [145] ((علم أصول الفقه)) لخلاف (ص: 39). .
القِسمُ الثَّالثُ: السُّنَّةُ المُشرِّعةُ
وهذا القِسمُ فيه تَشريعُ أحكامٍ لم تَرِدْ في كِتابِ اللهِ تعالى، واستَقَلَّت السُّنَّةُ بها، وهو ما عناه الشَّافِعيُّ بقَولِه: (ومِنه ما سَنَّ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِمَّا ليسَ للهِ فيه نَصُّ حُكمٍ، وقد فرَضَ اللهُ في كِتابِه طاعةَ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والانتِهاءَ إلى حُكمِه، فمَن قَبِلَ عن رَسولِ اللهِ فبفَرضِ اللهِ قَبِلَ) [146] ((الرسالة)) (ص: 22). .
وبَوَّبَ الخَطيبُ البَغداديُّ في كِتابِه "الكِفاية" بابًا، فقال: (بابُ ما جاءَ في التَّسويةِ بَينَ حُكمِ كِتابِ اللهِ تعالى وحُكمِ سُنَّةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، في وُجوبِ العَمَلِ ولُزومِ التَّكليفِ) [147] ((الكفاية في علم الرواية)) (ص: 8). .
ومِن الأدِلَّةِ على ذلك: عن المِقدامِ بنِ مَعدِيكَرِبَ، قال: حَرَّمَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَومَ خَيبَرَ أشياءَ، ثُمَّ قال: ((يوشِكُ أحَدُكُم أن يُكَذِّبَني وهو مُتَّكِئٌ على أريكَتِه يُحَدِّثُ بحَديثي، فيَقولُ: بَينَنا وبَينَكُم كِتابُ اللهِ، فما وجَدْنا فيه مِن حَلالٍ استَحلَلْناه، وما وجَدْنا فيه مِن حَرامٍ حَرَّمناه، ألَا وإنَّ ما حَرَّمَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِثلُ ما حَرَّمَ اللهُ)) [148] أخرجه الترمذي (2664)، وابن ماجه (12)، وأحمد (17194) واللفظ له. صحَّحه ابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (2/324)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (12)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (17194). .
قال ابنُ القَيِّمِ وهو يُعَدِّدُ وُجوهَ السُّنَّةِ مَعَ القُرآنِ: (أن تَكونَ موجِبةً لحُكمٍ سَكَتَ القُرآنُ عن إيجابِه، أو محرِّمةً لِما سَكَتَ عن تَحريمِه... فما كان مِنها زائِدًا على القُرآنِ فهو تَشريعٌ مُبتَدَأٌ مِن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، تَجِبُ طاعَتُه فيه، ولا تَحِلُّ مَعصيَتُه، وليسَ هذا تَقديمًا لها على كِتابِ اللهِ، بَل امتِثالٌ لِما أمَرَ اللهُ به في طاعةِ رَسولِه، ولو كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يُطاعُ في هذا القِسمِ لم يَكُنْ لطاعَتِه مَعنًى، وسَقَطَت طاعَتُه المُختَصَّةُ به، وإنَّه إذا لم تَجِبْ طاعَتُه إلَّا فيما وافقَ القُرآنَ لا فيما زادَ عليه، لم يَكُنْ له طاعةٌ خاصَّةٌ تَختَصُّ به، وقد قال اللهُ تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء: 80] ) [149] ((إعلام الموقعين)) (3/ 219). .
وقال الشَّاطِبيُّ: (الاستِقراءُ دَلَّ على أنَّ في السُّنَّةِ أشياءَ لا تُحصى كَثرةً لم يُنَصَّ عليها في القُرآنِ، كتَحريمِ نِكاحِ المَرأةِ على عَمَّتِها أو على خالتِها [150] لَفظُه: عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا يُجمَعُ بَينَ المَرأةِ وعَمَّتِها، ولا بَينَ المَرأةِ وخالتِها)) أخرجه البخاري (5109)، ومسلم (1408). ، وتَحريمِ الحُمُرِ الأهليَّةِ [151] لفظُه: أنَّ أبا ثَعلبةَ قال: ((حَرَّمَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لُحومَ الحُمُرِ الأهليَّةِ)) أخرجه البخاري (5527)، ومسلم (1936). ، وكُلِّ ذي نابٍ مِن السِّباعِ [152] لفظُه: عن أبي ثَعلبةَ الخُشَنيِّ ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَهى عن أكلِ كُلِّ ذي نابٍ مِنَ السِّباعِ)) أخرجه البخاري (5530)، ومسلم (1932). ، والعَقلِ، وفَكاكِ الأسيرِ، وألَّا يُقتَلَ مُسلمٌ بكافِرٍ [153] لفظُه: عن أبي جُحَيفةَ قال: ((قُلتُ لعليِّ بنِ أبي طالبٍ: هَل عِندَكُم كِتابٌ؟ قال: لا، إلَّا كِتابُ اللهِ، أو فَهمٌ أُعطيَه رَجُلٌ مُسلمٌ، أو ما في هذه الصَّحيفةِ. قال: قُلتُ: فما في هذه الصَّحيفةِ؟ قال: العَقلُ، وفَكاكُ الأسيرِ، ولا يُقتَلُ مُسلمٌ بكافِرٍ)) أخرجه البخاري (111). . وهو واضِحٌ في أنَّ في السُّنَّةِ ما ليسَ في القُرآنِ، وهو نَحوُ قَولِ مَن قال مِن العُلماءِ: تَرَك الكِتابُ مَوضِعًا للسُّنَّةِ، وتَرَكَت السُّنَّةُ مَوضِعًا للقُرآنِ) [154] ((الموافقات)) (4/ 324- 325). .

انظر أيضا: