موسوعة أصول الفقه

المَسألةُ الثَّانيةُ: تَقسيماتُ التَّركِ


يَنقَسِمُ التَّركُ إلى نَوعَينِ: تَركٌ وُجوديٌّ، وتَركٌ عَدَميٌّ.
النَّوعُ الأوَّلُ: التَّركُ الوُجوديُّ [304] يُنظر: ((التروك النبوية)) للإتربي (ص: 178- 213). ويُنظر أيضًا: ((الترك عند الأصوليين)) لمحمد ملاح (ص: 52- 60). :
وهو على أقسامٍ:
القِسمُ الأوَّلُ: التَّركُ المُسَبَّبُ
وهو ما ورَدَ مِن الأحاديثِ التي نُقِل فيها تَركُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وسَبَبُ تَركِه، ويَندَرِجُ تَحتَه أنواعٌ، منها:
1- التَّركُ لأجلِ حُكمٍ خاصٍّ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
ويُشتَرَطُ للحُكمِ بذَلكَ أن يَدُلَّ الدَّليلُ على الخُصوصيَّةِ، فلا يَثبُتُ ذلك بمُجَرَّدِ الاحتِمالِ [305] يُنظر: ((أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم)) لمحمد الأشقر (2/ 54). ويُنظر أيضًا: ((تيسير التحرير)) لأمير بادشاه (1/ 255). .
ومِثالُه: ما ورَدَ عن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((مَرَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بتَمرةٍ مسقوطةٍ [306] أي: سَقَطت أو أُسقِطَت. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (4/ 294). فقال: لولا أن تَكونَ مِن صَدَقةٍ لأكلتُها)) [307] أخرجه البخاري (2055) واللَّفظُ له، ومسلم (1071). .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنِّي لأنقَلِبُ إلى أهلي فأجِدُ التَّمرةَ ساقِطةً على فِراشي فأرفعُها لآكُلَها، ثُمَّ أخشى أن تَكونَ صَدَقةً، فأُلقيها)) [308] أخرجه البخاري (2432) واللَّفظُ له، ومسلم (1070). .
2- التَّركُ لأجلِ حُصولِ مَفسَدةٍ:
وذلك بأن يُصَرِّحَ في الحَديثِ بتلك المَفسَدةِ التي مِن أجلِها حَصَل التَّركُ، فتَركُ الفِعلِ المُؤَدِّيَ إلى المَفسَدةِ أعظَمُ مِن بَقائِه [309] يُنظر: ((دليل الترك)) لأحمد كافي (ص: 59- 60)، .
ومِثالُه: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تَرَكَ مُشارَكةَ بَني عَبدِ المَطَّلِبِ في السِّقايةِ في الحَجِّ خَوفًا مِن أن يَغلبَهم النَّاسُ على حَقِّهم في ذلك.
ففي حَديثِ جابرٍ رَضِيَ اللهُ عنه الطَّويلِ في صِفةِ حَجِّ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال جابرٌ: ((ثُمَّ رَكِبَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فأفاضَ إلى البَيتِ فصَلَّى بمَكَّةَ الظُّهرَ، فأتى بَني عَبدِ المُطَّلِبِ يَسقونَ على زَمزَمَ، فقال: انزِعوا بَني عَبدِ المُطَّلِبِ، فلولا أن يَغلبَكُم النَّاسُ على سِقايَتِكُم لنَزَعتُ مَعَكم)) [310] أخرجه مسلم (1218). .
قال النَّوويُّ: (مَعناه: لولا خَوفي أن يَعتَقِدَ النَّاسُ ذلك مِن مَناسِكِ الحَجِّ ويَزدَحِمونَ عليه بحَيثُ يَغلبونَكُم ويَدفعونَكُم عن الاستِقاءِ، لاستَقَيتُ مَعَكُم؛ لكَثرةِ فضيلةِ هذا الاستِقاءِ) [311] ((شرح مسلم)) (8/ 194). .
ومِثلُه أيضًا: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تَرَك أن يَرُدَّ الكَعبةَ إلى قَواعِدِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ، وبَيَّنَ المانِعَ مِن ذلك، وهو مَخافةُ أن تَنفِرَ قُلوبُ النَّاسِ وهم حُدَثاءُ عَهدٍ بكُفرٍ.
فعن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ألم تَرَي أنَّ قَومَك لمَّا بَنَوا الكَعبةَ اقتَصَروا عن قَواعِدِ إبراهيمَ؟ فقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، ألَا تَرُدُّها على قَواعِدِ إبراهيمَ؟ قال: لولا حِدْثانُ قَومِك بالكُفرِ لفعَلتُ)) [312] أخرجه البخاري (1583) واللفظ له، ومسلم (1333). .
قال ابنُ تَيميَّةَ: (فتَرَكَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هذا الأمرَ الذي كان عِندَه أفضَلَ الأمرَينِ؛ للمُعارِضِ الرَّاجِحِ، وهو حِدثانُ عَهدِ قُرَيشٍ بالإسلامِ لِما في ذلك مِن التَّنفيرِ لهم، فكانت المَفسَدةُ راجِحةً على المَصلحةِ) [313] ((مجموع الفتاوى)) (24/ 195). .
3- التَّركُ لأجلِ الإنكارِ:
وهو أن يَكونَ تَركُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُرادًا به أن يُنكِرَ على الفاعِلِ فِعلَه.
ومِثالُه: عن جابِرِ بنِ سَمُرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((أُتيَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم برَجُلٍ قَتَل نَفسَه بمَشاقِصَ [314] المَشاقِصُ: جَمعُ مِشقَصٍ، وهو السَّهمُ العَريضُ. يُنظر: ((شرح مسلم)) للنووي (7/ 47). ، فلم يُصَلِّ عليه)) [315] أخرجه مسلم (978). .
فالنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يُصَلِّ عليه بنَفسِه زَجرًا للنَّاسِ عن مِثلِ فِعلِه [316] ((شرح مسلم)) (7/ 51). .
4- التَّركُ لأجلِ المَرَضِ:
وهو أن يَترُكَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فِعلًا لِما أصابَه مِن المَرَضِ، وهذا إنَّما يُعلمُ مِن التَّصريحِ به في الحَديثِ.
ومِثالُه: عن الأسوَدِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سَمِعتُ جُندُبًا يَقولُ: ((اشتَكى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فلم يَقُمْ ليلةً أو ليلتَينِ)) [317] أخرجه البخاري (1124) واللَّفظُ له، ومسلم (1797). . وقد بوَّب البخاريُّ لهذا الحَديثِ بقَولِه: (باب: تَركِ القيامِ للمَريضِ) [318] ((صحيح البخاري)) (2/ 49). .
5- التَّركُ لأجلِ النِّسيانِ:
ومِثلُ هذا إنَّما يُصَرَّحُ به في الحَديثِ ويُبَيَّنُ؛ لأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وإن نَسِيَ فإنَّه لا يُقرُّ عليه.
ومِثالُه: عن المِسوَرِ بنِ يَزيدَ الأسديِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((شَهِدتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقرَأُ في الصَّلاةِ، فتَرَكَ شَيئًا لم يَقرَأْه، فقال له رَجُلٌ: يا رَسولَ اللهِ، آيةُ كذا وكَذا! فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: هَلَّا أذكَرْتَنيها؟)) [319] أخرجه أبو داود (907) واللَّفظُ له، وعبد الله بن أحمد في ((زوائد المسند)) (16692)، وابن خزيمة (1648). صَحَّحه ابنُ خُزَيمة (1648)، وابن حبان في ((صحيحه)) (2240)، وحَسَّنه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (907)، وحَسَّنه لغَيرِه ابن باز في ((حاشية بلوغ المرام)) (214)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (907). .
6- التَّركُ لمُجَرَّدِ الطَّبعِ:
ومِثالُه: ما ورَدَ من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما ((أنَّ خالِدَ بنَ الوليدِ رَضِيَ اللهُ عنه أخبَرَه أنَّه دَخَل مَعَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على مَيمونةَ رَضِيَ اللهُ عنها -وهيَ خالتُه وخالةُ ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهم- فوَجَدَ عِندَها ضَبًّا مَحنوذًا [320] أي: مَشويًّا. يُنظر: ((عمدة القاري)) للعيني (21/ 39). قدِمَت به أُختُها حُفيدةُ بنتُ الحارِثِ رَضِيَ اللهُ عنها مِن نَجدٍ، فقدَّمَتِ الضَّبَّ لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكان قَلَّما يُقدِّمُ يَدَه لطَعامٍ حتَّى يُحَدَّثَ به ويُسَمَّى له، فأهوى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَدَه إلى الضَّبِّ، فقالت امرَأةٌ مِن النِّسوةِ الحُضورِ: أخبِرْنَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما قدَّمتُنَّ له، قُلنَ: هو الضَّبُّ، فرَفعَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَدَه عن الضَّبِّ! فقال خالِدُ بنُ الوليدِ رَضِيَ اللهُ عنه: أحرامٌ الضَّبُّ يا رَسولَ اللهِ؟! قال: "لا، ولكِنْ لم يَكُنْ بأرضِ قَومي فأجِدُني أعافُه [321] أي: أتَكَرَّه أكلَه. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (9/ 665). "، قال خالِدٌ: فاجتَرَرتُه فأكَلتُه، ورَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَنظُرُ إليَّ)) [322] أخرجه البخاري (5391) واللَّفظُ له، ومسلم (1946). .
قال الشَّاطِبيُّ مُعَلِّقًا على هذا المِثالِ: (فهذا تَركٌ للمُباحِ بحُكمِ الجِبلَّةِ، ولا حَرَجَ فيه) [323] ((الموافقات)) (4/ 423). .
7- التَّركُ لأجلِ ألَّا يُفرَضَ العَمَلُ:
وهو أن يَترُكَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَمَلًا مِن الطَّاعاتِ يُحِبُّه؛ خَشيةَ أن تُؤَدِّيَ مواظَبَتُه عليه إلى أن يُفرَضَ على الأُمَّةِ، وفي هذا مَشَقَّةٌ عليها.
فعن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: (إن كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليَدَعُ العَمَلُ وهو يُحِبُّ أن يَعمَلَ به؛ خَشيةَ أن يَعمَلَ به النَّاسُ فيُفرَضَ عليهم) [324] أخرجه البخاري (1128)، ومسلم (718). .
ومِثالُه: تَركُ صَلاةِ القيامِ جَماعةً؛ فقد ورَدَ عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنه ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خَرَجَ ذاتَ ليلةٍ في جَوفِ اللَّيلِ، فصَلَّى في المَسجِدِ، فصَلَّى رِجالٌ بصَلاتِه، فأصبَحَ النَّاسُ فتحَدَّثوا فاجتَمَعوا أكثَرَ مِنهم، فصَلَّوا مَعَه، فأصبَحَ النَّاسُ فتَحَدَّثوا فكَثُرَ أهلُ المَسجِدِ في اللَّيلةِ الثَّالثةِ، فخَرَجَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فصَلَّوا بصَلاتِه، فلمَّا كانت اللَّيلةُ الرَّابعةُ عَجز المَسجِدُ عن أهلِه حتَّى خَرَجَ لصَلاةِ الصُّبحِ، فلمَّا قَضى الفجرَ أقبَل على النَّاسِ فتَشهَّد، ثُمَّ قال: أمَّا بَعدُ، فإنَّه لم يَخْفَ عليَّ مَكانُكُم، ولكِنِّي خَشيتُ أن تُفرَضَ عليكُم فتَعجِزوا عنها)) [325] أخرجه البخاري (2012) واللفظ له، ومسلم (761). .
قال الشَّاطِبيُّ: (تَرَكَ ذلك مَخافةَ أن يَعمَلَ به النَّاسُ فيُفرَضَ عليهم، ولم يَعُدْ إلى ذلك هو ولا أبو بَكرٍ، حتَّى جاءَت خِلافةُ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ، فعَمِل بذلك لزَوالِ عِلَّةِ الإيجابِ... فقيامُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في رَمَضانَ في المَسجِدِ ثُمَّ تَركُه بإطلاقٍ مَخافةَ التَّشريعِ يوجَدُ مِثلُه بَعدَ مَوتِه، وذلك بالنِّسبةِ إلى الأئِمَّةِ والعُلماءِ والفُضَلاءِ المُقتَدى بهم؛ فإنَّ هؤلاء مُنتَصِبونَ لأن يُقتَدى بهم فيما يَفعَلونَ) [326] ((الموافقات)) (3/ 260- 263). .
8- التَّركُ لأجلِ مُراعاةِ حالِ الآخَرينَ لئَلَّا يَشُقَّ عليهم:
ومِن ذلك تَركُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم التَّطويلَ في الصَّلاةِ إذا سَمِعَ الصَّبيَّ يَبكي؛ فعن أبي قتادةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنِّي لأقومُ في الصَّلاةِ أُريدُ أن أُطَوِّلَ فيها، فأسمَعُ بُكاءَ الصَّبيِّ فأتجوَّزُ في صَلاتي؛ كراهيةَ أن أشُقَّ على أُمِّه)) [327] أخرجه البخاري (707). ، وفي رِوايةٍ: من حديثِ أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنِّي لأدخُلُ في الصَّلاةِ وأنا أُريدُ إطالتَها، فأسمَعُ بُكاءَ الصَّبيِّ فأتجوَّزُ في صَلاتي؛ مِمَّا أعلمُ مِن شِدَّةِ وَجدِ أُمِّه مِن بُكائِه)) [328] أخرجه البخاري (709) واللفظ له، ومسلم (470). .
9- التَّركُ لأجلِ بَيانِ التَّشريعِ:
وهو أن يَترُكَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمرًا مَشروعًا ليُبَيِّنَ مَشروعيَّةَ أمرٍ غَيرِه، أو يُبَيِّنَ جَوازَه، أو يُبَيِّنَ كونَه أفضَلَ، أو لبَيانِ حُكمٍ جَديدٍ.
قال القَرافيُّ: (والبَيانُ إمَّا بالقَولِ أو بالفِعلِ كالكِتابةِ أو الإشارةِ، أو بالدَّليلِ العَقليِّ، أو بالتَّركِ، فيُعلَمُ أنَّه ليسَ واجِبًا) [329] ((شرح تنقيح الفصول)) (ص: 278). .
وقال أيضًا: (ومِثالُ البَيانِ بالتَّركِ ما رُويَ عنه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أنَّه نَهى عن الشُّربِ قائِمًا، ثُمَّ فعَله وتَركَ الجُلوسَ [330] ونَهيُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن الشُّربِ قائِمًا، أخرجه مسلم (2025) من حديثِ أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُه: ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَهى عن الشُّربِ قائِمًا)). وعن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه يَقولُ: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا يَشرَبَنَّ أحَدٌ مِنكُم قائِمًا، فمَن نَسيَ فليَستَقِئْ)) أخرجه مسلم (2026). وشُربُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قائِمًا، أخرجه البخاري (1637)، ومسلم (2027) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، بلفظِ: ((سَقَيتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن زَمزَمَ، فشَرِبَ وهو قائِمٌ)). وعن النَّزَّالِ، قال: (أتى عليٌّ رَضِيَ اللهُ عنه على باب الرَّحَبةِ، فشَرِبَ قائِمًا فقال: إنَّ ناسًا يَكرَهُ أحَدُهم أن يَشرَبَ وهو قائِمٌ، وإنِّي رَأيتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فعَل كَما رَأيتُموني فعَلتُ). أخرجه البخاري (5615). ؛ فدَلَّ ذلك على أنَّ الجُلوسَ في الشُّربِ ليسَ واجِبًا بَل مَندوبًا، وكتَركِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ للجَلسةِ الوُسطى لمَّا قامَ مِن اثنَتَينِ [331] لفظُه: عن عَبدِ اللَّهِ بنِ بُحَينةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه قال: ((إنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قامَ مِنِ اثنَتَينِ مِنَ الظُّهرِ لم يَجلِسْ بَينَهما، فلمَّا قَضى صَلاتَه سَجَدَ سَجدَتَينِ، ثُمَّ سَلَّمَ بَعدَ ذلك)) أخرجه البخاري (1225) واللَّفظُ له، ومسلم (570). ، فيُعلَمُ عَدَمُ وُجوبِها) [332] ((شرح تنقيح الفصول)) (ص: 279). .
ويَندَرِجُ تَحتَ هذا النَّوعِ عِدَّةُ أقسامٍ، هيَ:
أ- تَركُ المُباحِ طَلبًا للأَولى والأفضَلِ [333] يُنظر: ((التروك النبوية)) للإتربي (ص: 207). :
وذلك بأن يَكونَ كِلا الفِعلينِ -المَتروكِ والمَفعولِ- جائِزًا، ويَعدِلُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن أقَلِّهما اختيارًا للفضيلةِ، ولا شَكَّ أنَّ مِثلَ هذا المَعنى لا يُعرَفُ إلَّا بالتَّوقيفِ، وهو ظاهرٌ فيما أخبَرَنا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ حالَه كذلك.
فمِن ذلك ما ورَدَ عن أبي رافِعٍ رَضِيَ اللهُ عنه ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم طاف على نِسائِه في ليلةٍ، وكان يَغتَسِلُ عِند كُلِّ واحِدةٍ مِنهنَّ، فقيل له: يا رَسولَ اللهِ، ألَا تَجعَلُه غُسلًا واحِدًا؟ فقال: هو أزكى وأطيَبُ وأطهَرُ)) [334] أخرجه أبو داود (219)، وابن ماجه (590) واللفظ له، وأحمد (23862) من حديث أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم حسنه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (590)، وقواه ابن حجر كما في ((صحيح سنن أبي داود)) للألباني (1/397)، وجود إسناده الذهبي في ((المهذب)) (2/2765)، وحسنه البوصيري في ((إتحاف الخيرة المهرة)) (1/377) لكن ضعفه ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (1/200)، وابن القطان في ((الوهم والإيهام)) (4/126)، وطعن فيه ابن المديني في ((اللطائف من دقائق المعارف)) (893) ثم قال: والله أعلم بصحته، وقال أبو داود: حديث أنس أصح من هذا [أي في غسل واحد]، وقال البيهقي في ((السنن الكبرى)) (7/192): ليس بالقوي، وقال ابن رجب في ((فتح الباري)) (1/302): في إسناده بعض من لا يعرف حاله، وفي الباب أحاديث أخر، أسانيدها ضعيفة، وقال شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (23862): إسناده ضعيف على نكارة في متنه. .
فالنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تَرَك فِعلًا مُباحًا، ووَجهُ كَونِ هذا المَتروكِ مُباحًا أمرانِ:
الأوَّلُ: أنَّ الصَّحابةَ رَضِيَ اللهُ عنهم عَلِموا ذلك سابقًا، فلمَّا فعَل النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذلك سَألوه عن الحِكمةِ في ذلك.
الثَّاني: أنَّ أبا رافِعٍ لم يَكُنْ يَعلمُ حُكمَ ذلك، فعَلِم كونَه مُباحًا مِن هذا الحَديثِ؛ إذ لم يُنكِرْ عليه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم استِفسارَه ذلك، بَل أخبَرَه بالحِكمةِ فيما فَعَل.
وبذا تَكونُ دَلالةُ هذا الحَديثِ على أمرَينِ:
1 - جَوازُ الجِماعِ أكثَرَ مِن مَرَّةٍ بغُسلٍ واحِدٍ.
2 - أنَّ الاغتِسالَ بَعدَ كُلِّ جِماعٍ أفضَلُ.
ب- تَركُ فِعلِ الأفضَلِ لبَيانِ الجَوازِ:
فتَركُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فِعلَ الأفضَلِ في بَعضِ الحالاتِ يَأتي لبَيانِ الجَوازِ والإشعارِ بعَدَمِ الوُجوبِ [335] يُنظر: ((نيل الأوطار)) للشوكاني (4/ 242)، ((دليل الترك)) لكافي (ص: 64- 65). .
فعن بُرَيدةَ بنِ الحُصَيبِ رَضِيَ اللهُ عنه عن أبيه ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صَلَّى الصَّلواتِ يَومَ الفتحِ بوُضوءٍ واحِدٍ ومَسحَ على خُفَّيه، فقال له عُمَرُ: لقد صَنَعتَ اليَومَ شَيئًا لم تَكُنْ تَصنَعُه، فقال: عَمدًا صَنَعتُه يا عُمَرُ)) [336] أخرجه مسلم (277). .
ونَقَل ابنُ حَجَرٍ عن الطَّحاويِّ قَولَه: (يَحتَمِلُ أنَّ ذلك كان واجِبًا عليه ثُمَّ نُسِخَ يَومَ الفتحِ، ويَحتَمِلُ أنَّه كان يَفعَلُه استِحبابًا، ثُمَّ خَشيَ أن يُظَنَّ وُجوبُه، فتَرَكَه لبَيانِ الجَوازِ). ثُمَّ قال ابنُ حَجَرٍ مُعَلِّقًا: (وهذا أقرَبُ) [337] ((فتح الباري)) (1/ 378). .
ج- تَركُ العَمَلِ بما يُعلَمُ لأجلِ ما سَبَقَ مِن التَّشريعِ:
فعن سَهلِ بنِ سَعدٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ عُويمِرًا أتى عاصِمَ بنَ عَديٍّ رَضِيَ اللهُ عنه، وكان سَيِّدَ بَني عَجلانَ فقال: كيف تَقولونَ في رَجُلٍ وجَد مَعَ امرَأتِه رَجُلًا، أيَقتُلُه فتَقتُلونَه أم كيف يَصنَعُ؟ سَلْ لي رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن ذلك، فأتى عاصِمٌ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: يا رَسولَ اللهِ، فكَرِهَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المَسائِلَ، فسَأله عُوِيمِرٌ، فقال: إنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كرِهَ المَسائِلَ وعابَها، قال عُويمِرٌ: واللهِ لا أنتَهي حتَّى أسألَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن ذلك، فجاءَ عُوَيمِرٌ فقال: يا رَسولَ اللهِ، رَجُلٌ وجَد مَعَ امرَأتِه رَجُلًا أيقتُلُه فتَقتُلونَه أم كيف يَصنَعُ؟ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: قد أنزَل اللهُ القُرآنَ فيك وفي صاحِبَتِك، فأمَرَهما رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالمُلاعَنةِ بما سَمَّى اللهُ في كِتابِه، فلاعَنَها، ثُمَّ قال: يا رَسولَ اللهِ، إن حَبَستُها فقد ظَلمتُها، فطَلَّقَها، فكانت سُنَّةً لِمَن كان بَعدَهما في المُتَلاعِنَينِ، ثُمَّ قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "انظُروا فإن جاءَت به أسحَمَ [338] الأسحَمُ: الأسودُ. يُنظر: ((غريب الحديث)) للخطابي (1/ 371). أدعَجَ العَينَينِ [339] أي: شِدَّةُ سَوادِ سَوادِها. يُنظر: ((مشارق الأنوار)) لليحصبي (1/ 259). عَظيمَ الأليَتَينِ خَدَلَّجَ السَّاقَينِ [340] أي: المُمتَلئُ السَّاقَينِ. يُنظر: ((مشارق الأنوار)) لليحصبي (1/ 231). فلا أحسَبُ عُوَيمِرًا إلَّا قد صَدَقَ عليها، وإن جاءَت به أُحَيمِرَ كأنَّه وَحَرةٌ [341] الوَحَرةُ: نَوعٌ مِن الوَزغِ. يُنظر: ((غريب الحديث)) للخطابي (1/ 225)، ((فتح الباري)) لابن حجر (9/ 453). فلا أحسَبُ عُوَيمِرًا إلَّا قد كذَبَ عليها"، فجاءَت به على النَّعتِ الذي نَعَتَ به رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن تَصديقِ عُوَيمِرٍ، فكان بَعدُ يُنسَبُ إلى أُمِّه [342] أخرجه البخاري (4745). .
وقد ورَدَ من حديثِ ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "لو كُنتُ راجِمًا أحَدًا بغَيرٍ بَيِّنةٍ لرَجَمتُ فُلانةَ؛ فقد ظَهَرَ مِنها الرِّيبةَ في مَنطِقِها وهَيئَتِها ومَن يَدخُلُ عليها" [343] أخرجه ابن ماجه (2559). صَحَّحه الألبانيُّ في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (2559)، وصَحَّحَ إسناده ابن حَجَرٍ في ((فتح البارِّي)) (12/188). وقَولُه: "لو رَجَمتُ أحَدًا بغَيرٍ بَيِّنةٍ رَجَمتُ هذه" أخرجه البخاري (5310)، ومسلم (1497) مُطوَّلًا، ولفظُ البخاريِّ: عن ابنِ عبَّاسٍ: ((أنَّه ذُكِرَ التَّلاعُنُ عِندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال عاصِمُ بنُ عَديٍّ في ذلك قَولًا ثُمَّ انصَرَف، فأتاه رَجُلٌ مِن قَومِه يَشكو إليه أنَّه قد وجَدَ مَعَ امرَأتِه رَجُلًا، فقال عاصِمٌ: ما ابتُليتُ بهذا الأمرِ إلَّا لقَول! فذَهَبَ به إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فأخبَرَه بالذي وجَدَ عليه امرَأتَه، وكان ذلك الرَّجُلُ مُصفَرًّا قَليلَ اللَّحمِ سَبْطَ الشَّعَرِ، وكان الذي ادَّعى عليه أنَّه وجَدَه عِندَ أهلِه خَدْلًا آدَمَ كَثيرَ اللَّحمِ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: اللهُمَّ بَيِّنْ، فجاءَت شَبيهًا بالرَّجُلِ الذي ذَكَرَ زَوجُها أنَّه وجَدَه، فلاعنَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَينَهما. قال رَجُلٌ لابنِ عبَّاسٍ في المَجلسِ: هيَ التي قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لو رَجَمتُ أحَدًا بغَيرٍ بَيِّنةٍ رَجَمتُ هذه؟ فقال: لا، تلك امرَأةٌ كانت تُظهرُ في الإسلامِ السُّوءَ)). .
ففي هذا الحَديثِ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يَرجُمْها مَعَ قيامِ ما يَقتَضي ذلك، وهو عِلمُه بكَونِها زانيةً، فتَرَكَ العَمَلَ بما يَعلَمُ لأجلِ أنَّ الشَّرعَ لم يُبِحْ له أن يَعمَلَ بعِلمِه في ذلك دونَ بَيِّنةٍ [344] يُنظر: ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (1/ 243)، ((التروك النبوية)) للإتربي (ص: 210- 211). .
10- التَّركُ لأجلِ مانِعٍ يُخبرُ به:
فعن عبدِ اللهِ بنِ مُغَفَّلٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لولا أنَّ الكِلابَ أُمَّةٌ مِن الأُمَمِ [345] قال ابنُ القَيِّمِ: (وهذا يَحتَمِلُ وجهَينِ: أحَدُهما: أن يَكونَ إخبارًا عن أمرٍ غَيرِ مُمكِنٍ فِعلُه، وهو أنَّ الكِلابَ أُمَّةٌ لا يُمكِنُ إفناؤُها لكَثرَتِها في الأرضِ، فلو أمكَنَ إعدامُها مِن الأرضِ لأمَرتُ بقَتلِها. والثَّاني: أن يَكونَ مِثلُ قَولِه: "أمِن أجلِ أن قَرَصَتك نَملةٌ أحرَقتَ أُمَّةً مِن الأُمَمِ تُسَبِّحُ؟" [أخرجه البخاري (3019)، ومسلم (2241) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُ مُسلمٍ: ((أنَّ نَملةً قَرَصَت نَبيًّا مِنَ الأنبياءِ، فأمَرَ بقَريةِ النَّملِ فأُحرِقَت، فأوحى اللهُ إليه: أفي أن قَرَصَتكَ نَملةٌ أهلكتَ أُمَّةً مِنَ الأُمَمِ تُسَبِّحُ؟))]، فهيَ أُمَّةٌ مَخلوقةٌ لحِكمةٍ ومَصلحةٍ، فإعدامُها وإفناؤُها يُناقِضُ ما خُلقَت له، واللَّهُ أعلمُ بما أرادَ رَسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم). ((شفاء العليل)) (1/ 256). لأمَرتُ بقَتلِها؛ فاقتُلوا مِنها الأسوَدَ البَهيمَ)) [346] أخرجه أبو داود (2845)، والنسائي (4280) واللَّفظُ لهما، والترمذي (1486) باختلافٍ يسيرٍ. صَحَّحه الترمذي، وابن حبان في ((صحيحه)) (5657)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (2845)، والوادِعي على شَرطِ الشَّيخَينِ في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (905). ؛ فقد تَرَكَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الأمرَ بقَتلِ الكِلابِ لعِلَّةٍ، وهيَ كونُها أُمَّةً.
وعن جُدامةَ بنتِ وَهبٍ الأسَديَّةِ رَضِيَ اللهُ عنها أنَّها سَمِعَت رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((لقد هَمَمتُ أن أنهى عن الغِيلةِ [347] قيل: المُرادُ أن يُجامِعَ امرَأتَه وهيَ مُرضِعٌ، وقيل: أن تُرضِعَ المَرأةُ وهيَ حامِلٌ. يُنظر: ((شرح مسلم)) للنووي (10/ 16). حتَّى ذَكَرتُ أنَّ الرُّومَ وفارِسَ يَصنَعونَ ذلك، فلا يَضُرُّ أولادَهم)) [348] أخرجه مسلم (1442). .
فقدَ همَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالنَّهيِ عن الغيلةِ لخَشيَتِه على الأولادِ مِن الضَّرَرِ بذلك، ولكِنَّه لما رَأى أنَّ الغيلةَ لا تَضُرُّ فارِسَ والرُّومَ تَرَكَ النَّهيَ عنها [349] يُنظر: ((شرح مسلم)) للنووي (10/ 16)، ((نيل الأوطار)) للشوكاني (12/ 306). .
القِسمُ الثَّاني للتَّركِ الوُجُودِيِّ: التَّركُ المُطلَقُ [350] يُنظر: ((التروك النبوية)) للإتربي (ص: 215- 219).
وهو ما تَرَكَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فنَقَل الصَّحابيُّ ذلك دونَ نَقلِ ما يَصلُحُ أن يَكونَ سَبَبًا مِن جِهةِ السَّمعِ، مِثلُ تَركِ تَغسيلِ الشَّهيدِ والصَّلاةِ عليه؛ فعن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يَجمَعُ بَينَ الرَّجُلينِ مِن قَتلى أُحُدٍ في ثَوبٍ واحِدٍ، ثُمَّ يَقولُ: "أيُّهم أكثَرُ أخذًا للقُرآنِ؟"، فإذا أُشيرَ له إلى أحَدِهما قدَّمَه في اللَّحدِ، وقال: "أنا شَهيدٌ على هؤلاء"، وأمَر بدَفنِهم بدِمائِهم ولم يُصَلِّ عليهم ولم يُغَسِّلْهم [351] أخرجه البخاري (1347). .
ومِثلُه أيضًا: تَركُ الجَهرِ ببسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ في الصَّلاةِ؛ فعن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((صَلَّيتُ مَعَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأبي بَكرٍ وعُمَرَ وعُثمانَ، فلم أسمَعْ أحَدًا مِنهم يَقرَأُ بسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحيمِ)) أي: في الفاتِحةِ [352] أخرجه البخاري (743) بنحوه، ومسلم (399) واللَّفظُ له. .
النَّوعُ الثَّاني: التَّركُ العَدَميُّ (مَتروكُ النَّقلِ) [353] يُنظر: ((التروك النبوية)) للإتربي (ص: 137). ويُنظر أيضًا: ((الترك عند الأصوليين)) لمحمد ملاح (ص: 52- 60).
التَّركُ العَدَميُّ: هو عَدَمُ نَقلِ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فعَل فِعلًا ما مِمَّا كان مَقدورًا له.
ولا يُشكِلُ على ذلك أنَّه لا يَلزَمُ مِن عَدَمِ نَقلِ أمرٍ ما كونُ هذا الأمرِ لم يَقَعْ؛ إذ إنَّه لا يَصِحُّ أن يُقالَ في الشَّرعيَّاتِ: إنَّ عَدَمَ النَّقلِ يَستَلزِمُ نَقلَ العَدَمِ؛ لأنَّ في هذا نِسبةَ الأُمَّةِ إلى تَضييعِ الحَقِّ، بَل مَن تَتبَّع نَقلَ الصَّحابةِ لأحوالِه وأخبارِه عَلمَ أنَّه لو فعَلَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لنُقِل؛ ولذا فالأُصوليُّونَ مُتَّفِقونَ على أنَّ عَدَمَ الدَّليلِ على الحُكمِ الخاصِّ يَلزَمُ مِنه عَدَمُ الحُكمِ الخاصِّ، ويوجِبُ البَقاءَ على البَراءةِ الأصليَّةِ واستِصحابَها حتَّى يَرِدَ مِن الأدِلَّةِ ما يَقتَضي تغيُّرَها.
قال الشَّاطِبيُّ: (سُكوتُ الشَّارِعِ عن الحُكمِ على ضَربَينِ:
أحَدُهما: أن يَسكُتَ عنه؛ لأنَّه لا داعيةَ له تَقتَضيه، ولا موجِبَ يُقدَّرُ لأجلِه؛ كالنَّوازِلِ التي حَدَثَت بَعدَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فإنَّها لم تَكُنْ مَوجودةً ثُمَّ سَكَتَ عنها مَعَ وُجودِها، وإنَّما حَدَثَت بَعدَ ذلك؛ فاحتاجَ أهلُ الشَّريعةِ إلى النَّظَرِ فيها وإجرائِها على ما تَقَرَّرَ في كُلِّيَّاتِها، وما أحدَثَه السَّلَفُ الصَّالحُ راجِعٌ إلى هذا القِسمِ؛ كجَمعِ المُصحَفِ، وتَدوينِ العِلمِ، وتَضمينِ الصُّنَّاعِ، وما أشبَهَ ذلك مِمَّا لم يَجرِ له ذِكرٌ في زَمَنِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولم تَكُنْ مِن نَوازِلِ زَمانِه، ولا عَرَضَ للعَمَلِ بها موجِبٌ يَقتَضيها...
والثَّاني: أن يَسكُتَ عنه وموجِبُه المُقتَضي له قائِمٌ، فلم يُقَرَّرْ فيه حُكمٌ عِندَ نُزولِ النَّازِلةِ زائِدٌ على ما كان في ذلك الزَّمانِ؛ فهذا الضَّربُ السُّكوتُ فيه كالنَّصِّ على أنَّ قَصدَ الشَّارِعِ ألَّا يُزادَ فيه ولا يُنقَصَ) [354] ((الموافقات)) (3/ 156- 157). .

انظر أيضا: