موسوعة أصول الفقه

المَسألةُ الرَّابعةُ: تَركُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للفِعلِ بَعدَ الهَمِّ به


تَركُ ما هَمَّ به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ولم يَفعَلْه حُجَّةٌ. وقد نَسَبَ بَعضُ الأُصوليِّينَ هذا القَولَ إلى الشَّافِعيِّ [361] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (6/ 67)، ((حاشية العطار على جمع الجوامع)) (2/ 128)، ((إرشاد الفحول)) للشوكاني (1/ 118). . وجَعَله الزَّركَشيُّ أحَدَ أقسامِ السُّنَّةِ [362] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (6/ 67). .
ومِثالُه: ما ذَكَرَه الشَّافِعيُّ، فقال: (أخبَرَنا الدَّراوَرديُّ عن عُمارةَ بنِ غَزيَّةَ عن عَبَّادِ بنِ تَميمٍ، قال: ((استَسقى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وعليه خَميصةٌ له سَوداءُ، فأرادَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يَأخُذَ بأسفَلِها فيَجعَلَه أعلاها، فلمَّا ثَقُلت عليه قَلَبَها على عاتِقِه)) [363] أخرجه أبو داود (1164) واللفظ له، والنسائي (1507) مختصرًا، وأحمد (16462) باختلافٍ يسيرٍ. صحَّحه ابن خزيمة في ((الصحيح)) (2/536)، وابن حبان في ((صحيحه)) (2867)، والحاكم على شرط مسلم في ((المستدرك)) (1221)، وقال النووي في ((المجموع)) (5/80): صحيحٌ أو حسنٌ. ، وبهذا أقولُ، فنَأمُرُ الإمامَ أن يُنَكِّسَ رِداءَه فيَجعَلَ أعلاه أسفَلَه، ويَزيدُ مَعَ تَنكيسِه فيَجعَلُ شِقَّه الذي على مَنكِبِه الأيمَنِ على مَنكِبِه الأيسَرِ، والذي على مَنكِبِه الأيسَرِ على مَنكِبِه الأيمَنِ، فيَكونُ قد جاءَ بما أرادَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن نَكسِه، وبما فعَل مِن تَحويلِ الأيمَنِ على الأيسَرِ إذا خَفَّ له رِداؤُه، فإن ثَقُل فَعَل ما فَعَل رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن تَحويلِ ما على مَنكِبِه الأيمَنِ على مَنكِبِه الأيسَرِ، وما على مَنكِبِه الأيسَرِ على مَنكِبِه الأيمَنِ، ويَصنَعُ النَّاسُ في ذلك ما صَنَعَ الإمامُ) [364] ((الأم)) (1/ 287). ويُنظر أيضًا: ((البحر المحيط)) للزركشي (6/ 67). .
ومِمَّا استَدَلُّوا به: أنَّ الهَمَّ مِن أفعالِ القَلبِ فلا يَهُمُّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلَّا بمَطلوبٍ شَرعًا؛ لأنَّه لا يَهُمُّ إلَّا بحَقٍّ، وقد بُعِثَ لبَيانِ الشَّرعيَّاتِ [365] يُنظر: ((حاشية العطار جمع الجوامع)) (2/ 128). .
وقيل: الهَمُّ ليسَ بحُجَّةٍ. وهو اختيارُ الشَّوكانيِّ [366] يُنظر: ((إرشاد الفحول)) (1/ 118). ؛ لأنَّه مُجَرَّدُ خُطورِ شَيءٍ على البالِ مِن دونِ تَنجيزٍ له، وليسَ ذلك مِمَّا آتانا الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولا مِمَّا أمَرَ اللهُ سُبحانَه بالتَّأسِّي به فيه، وقد يَكونُ إخبارُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بما هَمَّ به للزَّجرِ، كما صَحَّ عنه أنَّه قال: ((لقد هَمَمتُ أن أُخالِفَ إلى قَومٍ لا يَشهَدونَ الصَّلاةَ فأُحَرِّقَ عليهم بُيوتَهم)) [367] أخرجه البخاري (2420)، ومسلم (651) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه.  ولفظُ البخاريِّ: ((لقد هَمَمتُ أن آمُرَ بالصَّلاةِ فتُقامَ، ثُمَّ أُخالِفَ إلى مَنازِلِ قَومٍ لا يَشهَدونَ الصَّلاةَ، فأُحَرِّقَ عليهم)). .
فائِدةٌ:
تَركُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لِما هَمَّ به أمرٌ نَفسيٌّ لا يَظهَرُ إلَّا بإحدى طَريقَتَينِ؛ إمَّا أن يُخبرَ به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وإمَّا أن يُقدِمَ على الفِعلِ فيَحولَ بَينَه وبَينَه حائِلٌ فيَترُكَه [368] يُنظر: ((أفعال الرسول صلى اللهُ عليه وسلم)) لمحمد الأشقر (2/ 134- 136). ، وبَيانُ ذلك على النَّحوِ الآتي:
الطَّريقُ الأولى: أن يُخبرَنا به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
وحينَئِذٍ فلا يَخلو مِن أحوالٍ:
1- أن يُخبرَنا به على سَبيلِ الزَّجرِ عن عَمَلٍ مُعَيَّنٍ: فيَدُلَّ على تَحريمِ ذلك العَمَلِ أو كراهَتِه بدَلالةِ القَولِ، كقَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لقد هَمَمتُ أن آمُرَ بالصَّلاةِ فتُقامَ، ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فيَؤُمَّ النَّاسَ، ثُمَّ أُخالِفَ إلى رِجالٍ لا يَشهَدونَ الصَّلاةَ، فأُحَرِّقَ عليهم بُيوتَهم بالنَّارِ)) [369] أخرجه البخاري (657)، ومسلم (651) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه.  ولفظُ مُسلمٍ: ((ولقد هَمَمتُ أن آمُرَ بالصَّلاةِ فتُقامَ، ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فيُصَلِّيَ بالنَّاسِ، ثُمَّ أنطَلِقَ مَعي برِجالٍ مَعَهم حُزَمٌ مِن حَطَبٍ إلى قَومٍ لا يَشهَدون الصَّلاةَ، فأُحَرِّقَ عليهم بيوتَهم بالنَّارِ)). .
فدلَّ ذلك على وُجوبِ حُضورِها، وتَحريمِ التَّخَلُّفِ عنها، وهيَ دَلالةٌ قَوليَّةٌ مِن حَيثُ إنَّه بَيَّن بقَولِه ما يُفيدُ أنَّ ما فعَلوه هو ذَنبٌ.
2- أن يُخبرَنا بهَمِّه مُبَيِّنًا لنا أنَّه تَرَكَ ما هَمَّ به وعَدَل عنه: لأنَّه تَبَيَّنَ له أنَّ الدَّاعيَ له غَيرُ صحيحٍ، كقَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لقد هَمَمتُ أن أنهى عن الغِيلةِ، حتَّى ذُكِرَ لي أنَّ فارِسَ والرُّومَ يُغيلونَ فلا يَضُرُّ ذلك أولادَهم)) [370] أخرجه مسلم (1442) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ جُدامةَ بنتِ وهبٍ الأسَديَّةِ، ولفظُه: ((لقد هَمَمتُ أن أنهى عنِ الغيلةِ، حتَّى ذَكَرتُ أنَّ الرُّومَ وفارِسَ يَصنَعونَ ذلك، فلا يَضُرُّ أولادَهم)). .
3- أن يُخبرَنا بأنَّه تَرَكَ الفِعلَ اكتِفاءً بغَيرِه مِن الدَّلالاتِ: ومِن ذلك حَديثُ عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لقد هَمَمتُ أن أرسِلَ إلى أبي بَكرٍ فأعهَدَ؛ أن يَقولَ قائِلونَ أو يَتَمَنَّى المُتَمَنُّونَ، ثُمَّ قُلتُ: يَأبى اللهُ ويَدفعُ المُؤمِنونَ)) [371] أخرجه البخاري (5666)، ومسلم (2387) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُ البخاريِّ: ((لقد هَمَمتُ -أو أرَدتُ- أن أُرسِلَ إلى أبي بَكرٍ وابنِه وأعهَدَ؛ أن يَقول القائِلونَ أو يَتَمَنَّى المُتَمَنُّونَ، ثُمَّ قُلتُ: يَأبى اللهُ ويَدفعُ المُؤمِنونَ، أو يَدفعُ اللهُ ويَأبى المُؤمِنونَ)). .
4- أن يُخبرَنا بأنَّه هَمَّ بالشَّيءِ ولم يَفعَلْه دونَ زيادةٍ (وهو الهَمُّ المُجَرَّدُ): ومِثالُه حَديثُ: ((لقد هَمَمتُ ألَّا أتَّهِبَ هِبةً إلَّا مِن قُرَشيٍّ أو أنصاريٍّ أو ثَقَفيٍّ)) [372] أخرجه أحمد (2687)، واللفظ له، وابن حبان (6384)، والطبراني (11/18) (10897) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ عَبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما. صحَّحه ابنُ حبان، والعراقي في ((محجة القرب)) (351)، وصحَّح إسنادَه أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (4/240)، والألباني على شرط الشيخين في ((إرواء الغليل)) (6/48)، وشعيب الأرناؤوط على شرط الشيخين في تخريج ((مسند أحمد)) (2687). وأخرجه من طرقٍ: الترمذي (3945)، والنسائي (3759)، وأحمد (7918) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُ الترمذيِّ: ((ولقد هَمَمتُ أن لا أقبَلَ هَديَّةً إلَّا مِن قُرَشيٍّ أو أنصاريٍّ أو ثَقَفيٍّ أو دَوسيٍّ)) صحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحه)) (6383)، والحاكم على شرط مسلم في ((المستدرك)) (2400)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (3945). .
الطَّريقُ الثَّانيةُ: أن يَحولَ بَينَه وبَينَ الفِعلِ حائِلٌ جَعَله يَترُكُ الفِعلَ بَعدَ أن عالجَه
وهذا النَّوعُ هو الذي فيه كلامُ الشَّافِعيِّ السَّابقُ، واعتَبَرَه حُجَّةً.
ومِن أمثِلتِه: حَديثُ امتناعِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِنْ أكلِ الضَّبِّ [373] أخرجه البخاري (5391)، ومسلم (1946) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ خالد بن الوليد رَضِيَ اللهُ عنه. .
فهذا النَّوعُ أعلى مِن النَّوعِ الذي قَبلَه؛ لأنَّ المانِعَ خارِجيٌّ، والمُباشَرةَ قد وقَعَت، فالقَولُ بأنَّه مِن أقسامِ السُّنَّةِ لا يُستَبعَدُ.
والتَّفريقُ بَينَ النَّوعَينِ واضِحٌ؛ فإنَّ هذا النَّوعَ في حَقيقَتِه مِن أقسامِ العَزمِ. والعَزمُ أعلى أنواعِ الهَمِّ.

انظر أيضا: