المَبحَثُ الثَّاني: الفرقُ بَينَ القَواعِدِ الأُصوليَّةِ والقَواعِدِ الفِقهيَّةِ
ذَكَرَ العُلَماءُ فُروقًا بَينَ القَواعِدِ الأُصوليَّةِ والقَواعِدِ الفِقهيَّةِ؛ لأنَّه قد تَختَلطُ القَواعِدُ الأُصوليَّةُ بالقَواعِدِ الفِقهيَّةِ عِندَ بَعضِ طُلَّابِ العِلمِ؛ حَيثُ إنَّ لكُلٍّ مِنهما قَواعِدَ تَندَرِجُ تَحتَها جُزئيَّاتٌ
[135] يُنظر: ((المهذب)) لعبدالكريم النملة (1/ 35). ، ومِن أبرَزِ هذه الفُروقِ:
الفرقُ الأوَّلُ: باعتِبارِ المَوضوعِ فالقَواعِدُ الأُصوليَّةُ هيَ الأدِلَّةُ العامَّةُ، والقَواعِدُ الفِقهيَّةُ هيَ الأحكامُ العامَّةُ
[136] يُنظر: ((القواعد النورانية)) لابن تيمية (ص: 290). .
فالقَواعِدُ الأُصوليَّةُ عِبارةٌ عنِ المَسائِلِ التي تَشمَلُ أنواعًا مِنَ الأدِلَّةِ التَّفصيليَّةِ التي يُمكِنُ استِنباطُ الأحكامِ مِنها.
أمَّا القَواعِدُ الفِقهيَّةُ فهيَ عِبارةٌ عنِ المَسائِلِ التي تَندَرِجُ تَحتَها أحكامُ الفِقهِ؛ ليَصِلَ المُجتَهدُ إليها بناءً على تلك القَضايا المُبيَّنةِ في أُصولِ الفِقهِ، ويَلجَأُ الفقيهُ إلى تلك القَواعِدِ الفِقهيَّةِ تَيسيرًا له في عَرضِ الأحكامِ
[137] يُنظر: ((المهذب)) (1/ 35- 36)، ((الجامع)) (ص: 13) كلاهما لعبدالكريم النملة، ((الوجيز)) لبورنو (ص: 20). .
الفرقُ الثَّاني: باعتِبارِ الاستِمدادِ فالقَواعِدُ الأُصوليَّةُ مُستَمَدَّةٌ مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ، واللُّغةِ العَرَبيَّةِ
[138] يُنظر: الفصل الرابع من هذا الباب: استمداد أصول الفقه. .
أمَّا القَواعِدُ الفِقهيَّةُ فهيَ مُستَمَدَّةٌ مِنَ المَسائِلِ الفرعيَّةِ المُتَشابهةِ وأحكامِها، وهيَ مُشتَمِلةٌ على أسرارِ الشَّرعِ وحِكَمِه، ولَم يُذكَرْ مِنها شَيءٌ في أُصولِ الفِقهِ، إلَّا إشارةٌ على سَبيلِ الإجمالِ
[139] يُنظر: ((الفروق)) للقرافي (1/ 2- 3). ويُنظر أيضًا: ((الوجيز)) لبورنو (ص: 19- 20)، مقدمة تحقيق ((القواعد)) للحصني (1/ 25- 26). .
الفرقُ الثَّالثُ: باعتِبارِ الغايةِ فقَواعِدُ الأُصولِ إنَّما وُضِعَت لتَضبِطَ للمُجتَهِدِ طُرُقَ الاستِنباطِ واستِدلالَه، وتَرسُمَ للفقيهِ مَناهجَ البَحثِ والنَّظَرِ في استِخراجِ الأحكامِ الكُلِّيَّةِ مِنَ الأدِلَّةِ الإجماليَّةِ، وأمَّا قَواعِدُ الفِقهِ فهيَ مَوضوعةٌ لرَبطِ المَسائِلِ المُختَلفةِ الأبوابِ برِباطٍ مُتَّحِدٍ وحُكمٍ واحِدٍ، هو الحُكمُ الذي سيقَتِ القاعِدةُ لأجلِه
[140] يُنظر: ((الوجيز)) لبورنو (ص: 20- 21). .
الفرقُ الرَّابعُ: باعتِبارِ شُمولِها لجُزئيَّاتِها فالقَواعِدُ الأُصوليَّةُ كُلِّيَّةٌ تَضُمُّ جَميعَ جُزئيَّاتِها، بخِلافِ القَواعِدِ الفِقهيَّةِ؛ حَيثُ إنَّها أغلَبيَّةٌ
[141] وذهب بعض المعاصرين إلى أن القواعد الفقهية كلية وليست أغلبية، وأن تخلف بعض الجزئيات والاستثناءات الواردة على بعض القواعد سببه فقدان شرط أو وجود مانع وذلك لا يؤثر في كليتها، قال الشاطبي: (لأن الأمر الكلي إذا ثبت كليا، فتخلف بعض الجزئيات عن مقتضى الكلي لا يخرجه عن كونه كليا، وأيضا فإن الغالب الأكثري معتبر في الشريعة اعتبار العام القطعي؛ لأن المتخلفات الجزئية لا ينتظم منها كلي يعارض هذا الكلي الثابت)، وعلى هذا القول لا يكون هناك فرق بين القاعدة الأصولية والفقهية من ناحية شمول جزئياتها. يُنظر: ((الموافقات)) للشاطبي (2/83 ،84)، ((المفصل في القواعد الفقهية)) للباحسين (ص:28-30). .
فقَواعِدُ الأُصولِ إذا اتُّفِقَ على مَضمونِها لا يُستَثنى مِنها شَيءٌ، فهيَ قَواعِدُ كُلِّيَّةٌ مُطَّرِدةٌ.
وأمَّا قَواعِدُ الفِقهِ فهيَ مَعَ الاتِّفاقِ على مَضمونِ كَثيرٍ مِنها، يُستَثنى مِن كُلٍّ مِنها مَسائِلُ تُخالِفُ حُكمَ القاعِدةِ لسَبَبٍ مِنَ الأسبابِ؛ ولذلك يُطلِقُ عليها كَثيرونَ بأنَّها قَواعِدُ أغلَبيَّةٌ أكثَريَّةٌ، لا كُلِّيَّةٌ مُطَّرِدةٌ
[142] يُنظر: ((غمز عيون البصائر)) للحموي (1/51)، ((تهذيب الفروق)) لمحمد المالكي (1/36)، ((موسوعة القواعد الفقهية)) لبورنو (1/ 1/ 27)، ((الجامع)) لعبدالكريم النملة (ص: 12). .
الفرقُ الخامِسُ: باعتِبارِ المُستَفيدِ مِنها فالقاعِدةُ الأُصوليَّةُ يَستَفيدُ مِنها المُجتَهِدُ خاصَّةً، حَيثُ يَستَعمِلُها عِندَ استِنباطِ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ الفرعيَّةِ مِن أدِلَّتِها.
أمَّا القاعِدةُ الفِقهيَّةُ فيُمكِنُ أن يَستَفيدَ مِنها الفقيهُ والمُتَعَلِّمُ؛ حَيثُ إنَّ كُلَّ قاعِدةٍ تَشتَمِلُ على حُكمٍ كُلِّيٍّ لعَدَدٍ مِنَ المَسائِلِ، فالرُّجوعُ إليها أيسَرُ مِنَ الرُّجوعِ إلى حُكمِ كُلِّ مَسألةٍ على حِدةٍ
[143] يُنظر: ((القواعد الفقهية وتطبيقاتها)) لمحمد الزحيلي (1/ 24)، مقدمة تحقيق ((القواعد للحصني)) (1/ 26). .
انظر أيضا:
عرض الهوامش