موسوعة أصول الفقه

المَسألةُ الرَّابعةُ: مُخالَفةُ الرَّاوي لِما رَواه


أوَّلًا: المُرادُ بالرَّاوي المُخالِفِ
المُرادُ بالرَّاوي المُخالِفِ أن يَكونَ مِن الصَّحابةِ دونَ مَن جاءَ بَعدَهم، وهو مَذهَبُ مُحَقِّقي الأُصولِ [641] قال ابنُ حَجَرٍ: (قد خَصَّ كَثيرٌ مِن مُحَقِّقي أهلِ الأُصولِ الخِلافَ المَشهورَ -فيما إذا عَمِل الرَّاوي بخِلافِ ما رَوى- بالصَّحابةِ دونَ ما جاءَ بَعدَهم). ((فتح الباري)) (4/ 330). .
قال القَرافيُّ: (هذه المَسألةُ عِندي يَنبَغي أن تُخَصَّصَ ببَعضِ الرُّواةِ، فتُحمَلَ على الرَّاوي المُباشِرِ للنَّقلِ عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، حتَّى يَحسُنَ أن يُقالَ: هو أعلَمُ بمُرادِ المُتَكَلِّمِ، أمَّا مِثلُ مالِكٍ ومُخالفتِه لحَديثِ بَيعِ الخيارِ الذي رَواه وغَيرَه مِن الأحاديثِ، فلا يَندَرِجُ في هذه المَسألةِ؛ لأنَّه لم يُباشِرِ المُتَكَلِّمَ حتَّى يَحسُنَ أن يُقالَ فيه: لعَلَّه شاهَدَ مِن القَرائِنِ الحاليَّةِ أو المَقاليَّةِ ما يَقتَضي مُخالفتَه، فلا تَكونُ المَسألةُ على عُمومِها) [642] ((شرح تنقيح الفصول)) (ص: 371). ويُنظر تعقب الزركشي له في: ((البحر المحيط)) (4/ 534). .
وقيل: إنَّ مُخالفةَ الرَّاوي لا تَختَصُّ بالصَّحابيِّ، بَل تَشمَلُ الصَّحابيَّ وغَيرَه [643] يُنظر: ((البرهان)) للجويني (1/ 163)، ((البحر المحيط)) للزركشي (4/ 534). .
ثانيًا: حُجِّيَّةُ الحَديثِ الذي خالفَه راويه
اتَّفقَ العُلماءُ على أنَّ مُخالفةَ الرَّاوي إذا كانت قَبلَ الرِّوايةِ فإنَّها لا تَقدَحُ في الخَبَرِ، وهيَ مَحمولةٌ على أنَّها قَبلَ سَماعِ الحَديثِ، فلمَّا سَمعَ الحَديثَ رَجَعَ إليه، وكذلك إن لم يُعلَمِ التَّاريخُ [644] يُنظر: ((أصول السرخسي)) (2/ 5). .
أمَّا مُخالفةُ الرَّاوي لرِوايَتِه بَعدَ سَماعِها فالمُختارُ أنَّه لا يُعتَدُّ بها، وأنَّ العِبرةَ بما رَوى لا بما رَأى [645] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 371)، ((التوضيح)) لحلولو (ص: 318)، ((البدر المنير)) لابن الملقن (6/504)، ((إجمال الإصابة)) للعلائي (ص: 83). .
وهو مَذهَبُ أكثَرِ المالكيَّةِ [646] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 371). ، والشَّافِعيَّةِ [647] يُنظر: ((التبصرة)) للشيرازي (ص: 343)، ((الوصول)) لابن برهان (2/195). ، وهو قَولُ أحمَدَ في أصَحِّ الرِّوايَتَينِ عنه [648] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (2/ 589). ، ومِمَّن اختارَه ابنُ حَزمٍ [649] يُنظر: ((النبذة الكافية)) (ص: 53). .
مِثالُه [650] يُنظر: ((مفتاح الوصول)) للتلمساني (ص: 430)، ((البحر المحيط)) للزركشي (6/ 189). : أنَّ أبا هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه رَوى حَديثَ الغَسلِ مِن وُلوغِ الكَلبِ سَبعًا إحداهنَّ بالتُّرابِ [651] أخرجه النسائي في ((السنن الكبرى)) (69)، وإسحق بن راهويه في ((المسند)) (39)، والبزار (52).  ولفظُ النَّسائيِّ: ((إذا ولغَ الكَلبُ في إناءِ أحَدِكُم فليَغسِلْه سَبعَ مَرَّاتٍ إحداهنَّ بالتُّرابِ)). صحَّحه ابنُ عساكر في ((معجم الشيوخ)) (2/784)، والألباني في ((غاية المرام)) (145)، وذكَر ثبوتَه الشافعي في ((اختلاف الحديث)) (10/84). وأخرجه البخاري (172) دونَ تَخصيصِ إحداهنَّ بالتُّرابِ، ومسلم (279) بلفظِ: ((طُهورُ إناءِ أحَدِكُم إذا ولغَ فيه الكَلبُ أن يَغسِلَه سَبعَ مَرَّاتٍ أولاهنَّ بالتُّرابِ)). ، وكان مَذهَبُه غَسلَه ثَلاثًا [652] أخرجه الدارقطني (1/109)، والبيهقي في ((الخلافيات)) (864، 865). صحَّح إسنادَه ابنُ دقيق العيد في ((الإمام)) (1/264). .
الأدِلَّةُ [653] يُنظر: ((النبذة الكافية)) لابن حزم (ص: 53- 55)، ((العدة)) لأبي يعلى (2/ 592)، ((التبصرة)) للشيرازي (ص: 343)، ((المحصول)) للرازي (4/ 440)، ((إجمال الإصابة)) للعلائي (ص: 91). :
1- أنَّ الخَبَرَ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُقدَّمٌ على غَيرِه، سَواءٌ قيل بحُجِّيَّةِ قَولِ الصَّحابيِّ أم لا، فإنَّ الخَبَرَ مُقدَّمٌ عليه.
2- أنَّ المُقتَضى -وهو: ظاهرُ اللَّفظِ- قائِمٌ، والمُعارِضُ المَوجودُ -وهو: مُخالفةُ الصَّحابيِّ- لا يَصلُحُ أن يَكونَ مُعارِضًا؛ لاحتِمالِ أن يَكونَ قد تمسَّك في تلك المُخالَفةِ بما ظَنَّه دَليلًا مَعَ أنَّه لا يَكونُ كذلك، ولاحتِمالِ طُروءِ النِّسيانِ عليه، أو لغَيرِ ذلك.
3- أنَّ الظَّنَّ المُستَفادَ مِن الخَبَرِ أرجَحُ مِن الظَّنِّ المُستَفادِ مِن مَذهَبِ الصَّحابيِّ.
وقيل: تُعتَبَرُ مُخالفةُ الرَّاوي، ويُقدِّمُ رَأيَه وعَمَلَه على رِوايَتِه. وهو مَذهَبُ الحَنَفيَّةِ [654] يُنظر: ((أصول السرخسي)) (2/ 6)، ((الفصول)) للجصاص (3/ 203)، ((تقويم الأدلة)) للدبوسي (ص: 203)، ((شرح سنن ابن ماجه)) لمغلطاي (2/ 30). .

انظر أيضا: