المَطلبُ الخامِسُ: حُجِّيَّةُ الإجماعِ
اتَّفقَ العُلماءُ
[726] قال الرَّهونيُّ: (ذَهَبَ جُمهورُ المُسلمينَ إلى أنَّ الإجماعَ حُجَّةٌ شَرعيَّةٌ يَجِبُ العَمَلُ به على كُلِّ مُسلمٍ كَما يَجِبُ العَمَلُ بالكِتابِ ونَحوِه، ولا عِبرةَ بخِلافِ النَّظَّامِ وبَعضِ الخَوارِجِ والشِّيعةِ؛ لأنَّهم نشؤوا بَعدَ الاتِّفاقِ، ولأنَّهم مِن أهلِ البدَعِ فلا يُعتَبرونَ) ((تحفة المسؤول)) (2/220). وقال الكورانيُّ: (أمَّا كَونُه حُجَّةً فبالإجماعِ، ولا عِبرةَ بقَولِ النَّظَّامِ والشِّيعةِ؛ لأنَّهم أهلُ الأهواءِ، ومَعَ ذلك نشؤوا بَعدَ الاتِّفاقِ على حُجِّيَّتِه، فهم مَحجوجونَ به). ((الدرر اللوامع)) (3/171). على حُجِّيَّةِ الإجماعِ وكَونِه دَليلًا مِن الأدِلَّةِ الشَّرعيَّةِ
[727] يُنظر: ((الفصول)) للجصاص (3/257)، ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/462)، ((التمهيد)) للكلوذاني (3/224)، ((الإحكام)) للآمدي (1/200)، ((نفائس الأصول)) للقرافي (6/2576)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (5/2033)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (1/409). ، ولم يُخالِفْ في ذلك إلَّا النَّظَّامُ
[728] يُنظر: ((المعتمد)) لأبي الحسين البصري (2/4)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (5/2035، 2036). ، وبَعضُ الشِّيعةِ
[729] يُنظر: ((التحصيل)) للأرموي (2/39)، ((بديع النظام)) لابن الساعاتي (1/259). ، وبَعضُ الخَوارِجِ
[730] يُنظر: ((بديع النظام)) لابن الساعاتي (1/259)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (5/2033). .
واستَدَلَّ الأُصوليُّونَ على حُجِّيَّةِ الإجماعِ بالقُرآنِ والسُّنَّةِ والمأثورِ والمَعقولِ.
أوَّلًا: الأدِلَّةُ مِن القُرآنِ:1- قَولُ اللهِ تعالى:
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة: 143] .
وتَتَّضِحُ دَلالتُه مِن وُجوهٍ
[731] يُنظر: ((الفصول)) للجصاص (3/257-261)، ((تقويم الأدلة)) للدبوسي (ص: 2324)، ((المعتمد)) لأبي الحسين البصري (2/4)، ((الفقيه والمتفقه)) للخطيب البغدادي (1/406)، ((التمهيد)) للكلوذاني (3/225)، ((الإحكام)) للآمدي (1/211). :
الوَجهُ الأوَّلُ: أنَّ اللَّهَ جَعَل أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وسَطًا، والوَسَطُ مِن كُلِّ شَيءٍ: خيارُه، فهو عَدلٌ مَرضيٌّ قَولُه.
الوَجهُ الثَّاني: أنَّ اللَّهَ جَعَلهم شُهَداءَ على النَّاسِ وجَعَل الرَّسولَ شَهيدًا عليهم، ولا يَستَحِقُّونَ هذه الصِّفةَ إلَّا إذا كان قَولُهم حُجَّةً وشَهادَتُهم مَقبولةً؛ لأنَّ استِشهادَ مَن لا تَجوزُ شَهادَتُه عَبثٌ، فالشَّاهِدُ اسمٌ لمَن يَنطِقُ عن عِلمٍ ولمَن قَولُه حُجَّةٌ.
الوَجهُ الثَّالثُ: أنَّ الحَكيمَ العليمَ لا يُخبرُ بخَيريَّةِ قَومٍ ليَشهَدوا، وهو عالمٌ بأنَّهم كُلَّهم يُقدِمونَ على قَبيحٍ صَغيرٍ أو كبيرٍ؛ فصَحَّ أنَّ ما شَهِدوا به هو مِن الدِّينِ وأنَّه الصَّوابُ.
الوَجهُ الرَّابعُ: تَشبيهُ شَهادَتِهم بشَهادةِ الرَّسولِ عليهم، فكما أفادَ هذا أنَّ قَولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حُجَّةٌ وشَهادَتَه مَقبولةٌ، أفادَ أنَّ قَولَ المُؤمِنينَ كذلك أيضًا.
2- قَولُ اللهِ تعالى:
وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء: 115] .
وَجهُ الدَّلالةِ: أنَّ الآيةَ أوجَبَت اتِّباعَ سَبيلِ المُؤمِنينَ وحَظَرَت مُخالفتَهم، فدَلَّت على صِحَّةِ إجماعِهم؛ إذ لو جازَ عليهم الخَطَأُ لكان المَأمورُ باتِّباعِهم مَأمورًا باتِّباعِ الخَطَأِ، واللَّهُ لا يَأمُرُ إلَّا باتِّباعِ الحَقِّ والصَّوابِ، كما جَمَعَت الآيةُ بَينَ مُشاقَّةِ الرَّسولِ واتِّباعِ غَيرِ سَبيلِ المُؤمِنينَ في الوعيدِ، فلو كان اتِّباعُ غَيرِ سَبيلِ المُؤمِنينَ مُباحًا لما جَمَعَ بَينَه وبَينَ المَحظورِ في الوعيدِ؛ إذ لا يَصِحُّ أن يُقالَ: إن زَنَيتَ وشَرِبتَ الماءَ عاقَبتُك، وإذا قَبُحَ اتِّباعُ غَيرِ سَبيلِ المُؤمِنينَ ثَبَتَ وُجوبُ اتِّباعِ سَبيلِهم
[732] يُنظر: ((الفصول)) للجصاص (3/262)، ((المعتمد)) لأبي الحسين البصري (2/7)، ((التمهيد)) للكلوذاني (3/228)، ((الإحكام)) للآمدي (1/200). .
وهذه أقوى آيةٍ في التَّمَسُّكِ بالإجماعِ
[733] يُنظر: ((الضروري)) لابن رشد (ص: 91). ، وأوَّلُ مَن استَدَلَّ بها على حُجِّيَّةِ الإجماعِ هو الشَّافِعيُّ
[734] يُنظر: ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (5/2036). .
3- قَولُ اللهِ تعالى:
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا [آل عمران: 103] .
وَجهُ دَلالتِه:أنَّ اللَّهَ تعالى أمَر بالاعتِصامِ ونَهى عن التَّفرُّقِ، فإذا أجمَعوا على قَولٍ أو فِعلٍ لم يَكُنْ لمَن بَعدَهم أن يَترُكَ ذلك القَولَ أو الفِعلَ حتَّى لا يَحصُلَ التَّفرُّقُ المَنهيُّ عنه
[735] يُنظر: ((التمهيد)) للكلوذاني (3/236)، ((الإحكام)) للآمدي (1/217). .
ثانيًا: مِن السُّنَّةِاستَدَلَّ الأُصوليُّونَ على حُجِّيَّةِ الإجماعِ بأحاديثَ يَجمَعُها مَعنًى واحِدٌ، وهو أنَّ الأُمَّةَ لا تَجتَمِعُ على خَطَأٍ، فكان هذا بمَثابةِ التَّواتُرِ المَعنَويِّ
[736] قال إمامُ الحَرَمَينِ الجُوَينيُّ: (طَريقةٌ أُخرى في إثباتِ الإجماعِ، وهيَ الاستِدلالُ بالمَعنى المُتَظافِرِ في الألفاظِ التي نَقَلها الثِّقاتُ عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم). ((التلخيص)) (3/26). .
قال الشَّاطِبيُّ: (إذا تَأمَّلتَ أدِلَّةَ كَونِ الإجماعِ حُجَّةً، أو خَبَرِ الواحِدِ أو القياسِ حُجَّةً؛ فهو راجِعٌ إلى هذا المَساقِ
[737] وهو شِبهُ التَّواتُرِ المَعنَويِّ. ؛ لأنَّ أدِلَّتَها مَأخوذةٌ مِن مَواضِعَ تَكادُ تَفوتُ الحَصرَ، وهيَ مَعَ ذلك مُختَلِفةُ المَساقِ لا تَرجِعُ إلى بابٍ واحِدٍ، إلَّا أنَّها تَنتَظِمُ المَعنى الواحِدَ الذي هو المَقصودُ بالاستِدلالِ عليه، وإذا تَكاثَرَت على النَّاظِرِ الأدِلَّةُ عَضَّد بَعضُها بَعضًا، فصارَت بمَجموعِها مُفيدةً للقَطعِ)
[738] ((الموافقات)) (1/29). .
قالَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((لا تَزالُ طائِفةٌ مِن أُمَّتي ظاهرينَ على الحَقِّ، لا يَضُرُّهم مَن خَذَلهم حتَّى يَأتيَ أمرُ اللهِ -وفي رِوايةٍ:- وهم كذلك)) [739] أخرجه مسلم (1920) من حديثِ ثَوبانَ مَولى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. قال النَّوويُّ: (فيه دَليلٌ لكَونِ الإجماعِ حُجَّةً، وهو أصَحُّ ما استُدِلَّ به له مِن الحَديثِ). ((شرح مسلم)) (13/67). .
وَجهُ دَلالتِه:أنَّه دَلَّ على أنَّ الشَّريعةَ ظاهرةٌ في النَّاسِ إلى قيامِ السَّاعةِ، وطَريقُ بَقائِها عِصمةُ الأُمَّةِ مِن الاجتِماعِ على الضَّلالةِ؛ لأنَّ في الاجتِماعِ على الضَّلالةِ رَفعَ الشَّريعةِ، وذلك خِلافُ مَوعودِ اللَّهِ عزَّ وجَلَّ
[740] يُنظر: ((أصول السرخسي)) (1/300)، ((المستصفى)) للغزالي (ص:139)، ((الإحكام)) للآمدي (1/219). .
قال الشَّافِعيُّ: (إذا كانت جَماعَتُهم مُتَفرِّقةً في البُلدانِ فلا يَقدِرُ أحَدٌ أن يَلزَمَ جَماعةَ أبدانِ قَومٍ مُتَفرِّقينَ، وقد وُجِدَت الأبدانُ تَكونُ مُجتَمِعةً مِن المُسلمينَ والكافِرينَ والأتقياءِ والفُجَّارِ، فلم يَكُنْ في لُزومِ الأبدانِ مَعنًى؛ لأنَّه لا يُمكِنُ، ولأنَّ اجتِماعَ الأبدانِ لا يَصنَعُ شَيئًا، فلم يَكُنْ للُزومِ جَماعَتِهم مَعنًى إلَّا ما عليه جَماعَتُهم مِن التَّحليلِ والتَّحريمِ والطَّاعةِ فيهما.
ومَن قال بما تَقولُ به جَماعةُ المُسلمينَ فقد لزِمَ جَماعَتَهم، ومَن خالف ما تَقولُ به جَماعةُ المُسلمينَ فقد خالف جَماعَتَهم التي أُمِرَ بلُزومِها، وإنَّما تَكونُ الغَفلةُ في الفُرقةِ، فأمَّا الجَماعةُ فلا يُمكِنُ فيها كافَّةً غَفلةٌ عن مَعنى كِتابٍ ولا سُنَّةٍ ولا قياسٍ، إن شاءَ اللهُ)
[741] ((الرسالة)) (ص: 473). .
ثالثًا: من الآثارِقَولُ أبي مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه:
((عليكُم بالجماعةِ؛ فإنَّ اللَّهَ لا يجمَعُ أمَّةَ محمَّدٍ علَى ضلالةٍ)) [742] أخرجه ابن أبي عاصم في ((السنة)) (85)، والطبراني (17/240) (666). صحَّحه ابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (1/115)، وجود إسناده الألباني في تخريج ((كتاب السنة)) (85). .
وَجهُ دَلالتِه:أنَّ الإجماعَ صادِرٌ عن المجتَهِدينَ، والمجتَهِدونَ قائِمونَ مقامَ الأمَّةِ؛ إذ إليهم إبرامُ أمورِ الأُمَّةِ ونَقضُها، والأمَّةُ معصومةٌ
[743] يُنظر: ((روضة الناظر)) لابن قدامة (1/383)، ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/468)، ((التمهيد)) للكلوذاني (3/237)، ((الإحكام)) للآمدي (1/219). .
رابعًا: مِن المَعقولِ1- أنَّ اللَّهَ تعالى جَعَل الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خاتَمَ النَّبيِّينَ وحَكَم ببَقاءِ شَريعَتِه إلى يَومِ القيامةِ وأنَّه لا نَبيَّ بَعدَه وإلى ذلك أشارَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في قَولِه: "لا تَزالُ طائِفةٌ مِن أُمَّتي على الحَقِّ ظاهرينَ لا يَضُرُّهم مَن ناوأهم"
[744] أخرجه أبو داود (2484)، وأحمد (19920) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ عِمرانَ بنِ حُصَينٍ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُ أبي داودَ: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا تَزالُ طائِفةٌ مِن أُمَّتي يُقاتِلونَ على الحَقِّ ظاهرينَ على مَن ناوأهم)). صحَّحه الحاكمُ في ((المستدرك)) (2392)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1025) وقالا: على شرط مسلم، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (2484). ، فلا بُدَّ مِن أن تَكونَ شَريعَتُه ظاهرةً في النَّاسِ إلى قيامِ السَّاعةِ، وقد انقَطَعَ الوَحيُ بوفاتِه، فعَرَفنا ضَرورةً أنَّ طَريقَ بَقاءِ شَريعَتِه عِصمةُ اللهِ أُمَّتَه مِن أن يَجتَمِعوا على الضَّلالةِ؛ فإنَّ في الاجتِماعِ على الضَّلالةِ رَفعَ الشَّريعةِ، وذلك يُضادُّ المَوعودَ مِن البَقاءِ، وإذا ثَبَتَ عِصمةُ جَميعِ الأُمَّةِ مِن الاجتِماعِ على الضَّلالةِ ضاهى ما أجمَعوا عليه المَسموعَ مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وذلك موجِبٌ للعِلمِ قَطعًا، فهذا مِثلُه
[745] ((أصول السرخسي)) (1/300). .
2- أنَّ أهلَ كُلِّ عَصرٍ إذا اتَّفَقوا على حُكمٍ وجَزَموا به جَزمًا قاطِعًا، فإنَّ العادةَ تُحيلُ أن يَتَّفِقَ هؤلاء على حُكمٍ ويَجزِموا به مَعَ اختِلافِ عُقولِهم وأهوائِهم، إلَّا إن كان لهم مُستَنَدٌ قاطِعٌ، وإلَّا لتَنَبَّه واحِدٌ مِنهم وخَطَّأهم في قَطعِهم، ويَزدادُ ذلك وُضوحًا بإنكارِهم وتَخطِئَتِهم لمَن يُخالفُ ما تَقدَّم مِن إجماعٍ؛ فلولا وُقوفُهم على دَليلٍ قاطِعٍ يَستَنِدونَ إليه لاستَحالَ عادةً أن يَتَّفِقوا على تَخطِئةِ المُخالِفِ
[746] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (1/223)، ((البرهان)) لإمام الحرمين (1/262263). كَثيرٌ مِن الأُصوليِّينَ استَدَلَّ بالعَقلِ على حُجِّيَّةِ الإجماعِ، ومِنهم مَن مَنَعَ مِن الاستِدلالِ به على حُجِّيَّةِ الإجماعِ، ومِنهم الجَصَّاصُ، وأبو إسحاقَ الشِّيرازيُّ، والغَزاليُّ. يُنظر: ((الفصول)) للجصاص (3/257)، ((شرح اللمع)) للشيرازي (2/682)، ((المنخول)) للغزالي (ص:403). ويُنظر أيضًا: ((حجية الإجماع)) لفرغلي (ص: 237)، ((الإجماع)) للباحسين (ص: 259). .