موسوعة أصول الفقه

الفَرعُ الأوَّلُ: اشتِراطُ المُستَنَدِ للإجماعِ


اختَلف الأُصوليُّونَ في اشتِراطِ وُجودِ مُستَنَدٍ للإجماعِ، والرَّاجِحُ أنَّه يُشتَرَطُ اعتِمادُ الإجماعِ على مُستَنَدٍ، وهو مَذهَبُ الجَماهيرِ [854] يُنظر: ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (6/ 2633). ، ومِمَّن اختارَه الآمِديُّ [855] يُنظر: ((الإحكام)) (1/261). ، وابنُ السَّاعاتيِّ [856] يُنظر: ((بديع النظام)) (1/290). ، وابنُ الحاجِبِ [857] يُنظر: ((مختصر ابن الحاجب)) (ص: 479). ، وابنُ الهُمامِ [858] يُنظر: ((التحرير)) (ص: 411). ، وغَيرُهم.
قال الآمِديُّ: (اتَّفقَ الكُلُّ على أنَّ الأُمَّةَ لا تَجتَمِعُ على الحُكمِ إلَّا عن مَأخَذٍ ومُستَنَدٍ يوجِبُ اجتِماعَها، خِلافًا لطائِفةٍ شاذَّةٍ) [859] ((الإحكام)) (1/ 261). .
واستَدَلُّوا بالآتي:
1- أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَعَ رِفعةِ قَدرِه وعُلوِّ مَقامِه لا يَصدُرُ قَولُه إلَّا عن وحيٍ أو استِنباطٍ مِن النُّصوصِ؛ لقَولِ اللهِ تعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى [النجم: 3] ، فإذا كان كذلك فالأُمَّةُ أَولى ألَّا يَقولوا إلَّا عن دَليلٍ؛ لأنَّهم ليسوا آكَدَ حالًا مِن النَّبيِّ المَعصومِ [860] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (1/261)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (6/2634). .
2- أنَّ الإجماعَ لا يَكونُ إلَّا مِن المُجتَهدينَ كما تَقَرَّرَ في شُروطِ المُجمِعينَ، وأهلُ الاجتِهادِ لا يُتَصَوَّرُ مِنهم الاجتِماعُ على حُكمٍ مِن أحكامِ اللهِ جُزافًا، بَل بناءً على حَديثٍ سَمِعوه، ومَعنًى مِن النُّصوصِ رَأوه مُؤَثِّرًا في الحُكمِ، فأمَّا الحُكمُ جُزافًا أو بالهَوى والطَّبيعةِ فهو عَمَلُ أهلِ البِدعةِ والإلحادِ [861] يُنظر: ((بديع النظام)) لابن الساعاتي (1/290)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (3/263). .
3- أنَّ اختِلافَ الآراءِ والهمَمِ يَمنَعُ عادةً مِن الاتِّفاقِ على شَيءٍ إلَّا عن سَبَبٍ يوجِبُه [862] يُنظر: ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (3/263)، ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (1/586)، ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (3/110). .
4- أنَّه لو انعَقدَ مِن غَيرِ مُستَنَدٍ لاقتَضى إثباتَ الشَّرعِ بَعدَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهو باطِلٌ [863] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (6/397). .
ومِن فوائِدِ الإجماعِ مَعَ وُجودِ دَليلٍ في المَسألةِ:
1- حُرمةُ المُخالَفةِ بَعدَ انعِقاد الإجماعِ، وإن كانت المُخالَفةُ جائِزةً قَبلَه إذا كان الدَّليلُ ظَنِّيًّا.
2- رَفعُ تَوهُّمِ النَّسخِ أو التَّخصيصِ [864] يُنظر: ((بديع النظام)) لابن الساعاتي (1/290)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (3/263)، ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (1/586). .
وتَرجِعُ أهَمِّيَّةُ المُستَنَدِ إلى أنَّ الحُكمَ الثَّابتَ به إمَّا أن يَكونَ مِمَّا صَرَّحَ به صاحِبُ الشَّرعِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فدُثِرَ ولم يُنقَلْ، أو لم يُصَرِّحْ به فوقَعَ الإجماعُ مِنهم على ذلك الحُكمِ لقَرينةِ حالٍ، أو دَليلٍ، أو غَيرِ ذلك مِمَّا يوجِبُ الاتِّفاقَ.
فأمَّا ما صَرَّحَ به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ونُقِل نَقلَ تَواتُرٍ فلا غَناءَ للإجماعِ في تَصحيحِه. وأمَّا ما نُقِل نَقلَ آحادٍ فإنَّ الإجماعَ يَنقُلُه مِن رُتبةِ الظَّنِّ إلى رُتبةِ القَطعِ.
وأمَّا ما لم يُصَرِّحْ به، أو صَرَّحَ به ولم يَبلُغْنا، فإنَّ الإجماعَ يُستَعمَلُ دَليلًا قاطِعًا في تَثبيتِه [865] يُنظر: ((الضروري)) لابن رشد (ص: 90). .

انظر أيضا: