موسوعة أصول الفقه

المَطلبُ الثَّامِنَ عَشَرَ: إذا اختَلف الصَّحابةُ على قَولينِ أو أكثر وأجمَعَ التَّابِعونَ على أحَدِها


إذا وقَعَت مَسألةٌ في عَهدِ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم واختَلفت آراؤُهم حَولها على قَولينِ أو ثَلاثةٌ، ثُمَّ أتى التَّابعونَ بَعدَهم فاتَّفَقوا على أحَدِ أقوالِ الصَّحابةِ، فهَل يُعتَبَرُ اتِّفاقُهم على أحَدِ القَولينِ أو الأقوالِ إجماعًا لا تَجوزُ مُخالفتُه، ويَصيرُ الأخذُ بالقَولِ الثَّاني غَيرِ المُجمَعِ عليه خَرقًا للإجماعِ، أو لا يَصيرُ كذلك [1022] القَولُ في المَسألةِ ليسَ مَحصورًا على ما أُثِرَ عنِ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم فقَط، بَل يَكونُ في إجماعِ أهلِ كُلِّ عَصرٍ مُتَأخِّرٍ على أحَدِ قَولَي -أو أحَدِ أقوالِ- عَصرٍ مُتَقدِّمٍ عليهم. ولذا صَوَّرَ الآمِديُّ المَسألةَ بقَولِه: (إذا اختَلف أهلُ عَصرٍ مِنَ الأعصارِ في مَسألةٍ مِنَ المَسائِلِ على قَولينِ، واستَقَرَّ خِلافُهم في ذلك، ولم يوجَدْ له نَكيرٌ، فهَل يُتَصَوَّرُ انعِقادُ إجماعِ مَن بَعدَهم على أحَدِ القَولينِ، بحَيثُ يَمتَنِعُ على المُجتَهِدِ المَصيرُ إلى القَولِ الآخَرِ أم لا؟). ((الإحكام)) (1/275). وقال الطُّوفيُّ: (ليسَ ذلك مَخصوصًا بالتَّابعينَ مَعَ الصَّحابةِ، بَل أيُّ عَصرٍ مَن الأعصارِ اختَلف أهلُه، فهَل يَصِحُّ اتِّفاقُ أهلِ العَصرِ بَعدَه على أحَدِ القَولينِ؟ ولا نِزاعَ في إمكانِ تَصَوُّرِ ذلك عَقلًا، بَل في صِحَّتِه شَرعًا). ((شرح مختصر الروضة)) (3/ 95). ؟
اختَلف الأُصوليُّونَ في هذه المَسألةِ، والمُختارُ: أنَّه لا يَكونُ إجماعًا، ولا يَصيرُ القَولُ الآخَرُ مَهجورًا، ولا يُعتَبَرُ الذَّاهِبُ إليه خارِقًا للإجماعِ، وهو اختيارُ عامَّةِ الفُقَهاءِ وغَيرِهم [1023] قال عَلاءُ الدِّينِ السَّمَرقَنديُّ: (مَسألةٌ: الخِلافُ المُتَقَرِّرُ بَينَ أهلِ الاجتِهادِ في العَصرِ الأوَّلِ هل يَمنَعُ انعِقادَ الإجماعِ في العَصرِ الثَّاني بَعدَه؟ وهَل يَكونُ خُلوُّ الخِلافِ شَرطًا للصِّحَّةِ؟ فعلى قَولِ أصحابِنا رَحِمَهم اللهُ: لا يَمنَعُ. وعلى قَولِ عامَّةِ أصحابِ الحَديثِ مِن الفُقَهاءِ والمُتَكَلِّمينَ: يمنَعُ. وتبقى المَسألةُ اجتِهاديَّةً أبَدًا). ((ميزان الأصول)) (1/ 507). ، وهو مَذهَبُ بَعضِ الحَنَفيَّةِ [1024] يُنظر: ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (3/ 247-248). ، وبَعضِ المالكيَّةِ مِثلُ: القَرافيِّ [1025] يُنظر: ((نفائس الأصول)) للقرافي (6/2757). ، وجُمهورِ الشَّافِعيَّةِ [1026] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (16/ 116). ، ومِنهم: الخَطيبُ البَغداديُّ [1027] يُنظر: ((الفقيه والمتفقه)) (1/435). ، والشِّيرازيُّ [1028] يُنظر: ((التبصرة)) (ص:378). ، والغَزاليُّ [1029] يُنظر: ((المستصفى)) (ص:155). ، وأكثَرِ الحَنابلةِ، ومِنهم: القاضي أبو يَعلى [1030] يُنظر: ((العدة)) (4/1105). ، وابنُ عَقيلٍ [1031] يُنظر: ((الواضح)) (5/155). .
واستَدَلُّوا على ذلك بما يَلي:
1- أنَّ هذا الاتِّفاقَ فُتْيا بَعضِ الأُمَّةِ لا كُلِّها حتَّى يُعتَبَرَ إجماعًا؛ لأنَّ الذينَ ماتوا على القَولِ الآخَرِ مِن الأُمَّةِ أيضًا، ولا يَبطُلُ مَذهَبُهم بمَوتِهم، بدَليلِ أنَّ الصَّحابةَ إذا أجمَعَت على شَيءٍ ثُمَّ انقَرَضوا، لم يَصِحَّ أن يُجمِعَ التَّابِعونَ على خِلافِه، فكُلُّ واحِدٍ مِن الفريقَينِ كالأحياءِ الباقينَ في كُلِّ عَصرٍ فيما أفتَوا به؛ ولهذا تُحفَظُ أقوالُهم وتُنقَلُ ويُحتَجُّ لهم وعليهم، فإذا كانوا بمَنزِلةِ الأحياءِ وجَبَ ألَّا يَنعَقِدَ الإجماعُ مَعَ اختِلافِهم، وإذا ثَبَتَ أنَّ حُكمَ قَولِ المَيِّتِ باقٍ، فمَن أسقَطَ حُكمَه كان كمَن أسقَط قَولَهم مَعَ بَقائِهم، وهذا لا يَجوزُ [1032] يُنظر: ((التبصرة)) للشيرازي (ص:380)، ((المستصفى)) للغزالي (ص:155). ((روضة الناظر)) لابن قدامة (1/429). .
2- اختِلافُ الصَّحابةِ على قَولينِ اتِّفاقٌ مِنهم على تَسويغِ الأخذِ بكُلٍّ مِنهما، فلا يَبطُلُ إجماعُهم بقَولِ مَن سِواهم، فإذا أجمَعَ التَّابعونَ على أحَدِ القَولينِ لم يَجُزْ رَفعُ إجماعِ الصَّحابةِ بإجماعِهم؛ لأنَّ إجماعَ الصَّحابةِ أقوى مِن إجماعِهم، كما لو أجمَعَت على قَولٍ واحِدٍ، ثُمَّ أجمَعَ التَّابعونَ على خِلافِه [1033] يُنظر: ((الفقيه والمتفقه)) للخطيب البغدادي (1/435)، ((التبصرة)) للشيرازي (ص:378، 379) ((روضة الناظر)) لابن قدامة (1/429). .
3- أنَّ التَّابعينَ لو كانوا في عَصرِ الصَّحابةِ وخالفوا الصَّحابةَ بأن اتَّفقوا هم دونَ الصَّحابةِ على قَولٍ، لا يَكونُ إجماعًا، فلأن لا يَكونَ إجماعًا بَعدَ عَصرِ الصَّحابةِ مِن بابِ أَولى؛ لأنَّ أعلى مَراتِبِ التَّابعينَ أن يَلحَقوا بعَصرِ الصَّحابةِ، ويَكونوا مِن أهلِ الاجتِهادِ قَبلَ انقِراضِهم، وأدنى مَراتِبِهم أن يَنقَرِضَ الصَّحابةُ قَبلَ أن يَلحَقوا بهم، فكان قَولُهم إذا خالفوهم دونَ قَولِهم إذا عاصَروهم وخالفوهم، ثُمَّ ثَبَتَ أنَّ التَّابعينَ لو لحِقوا بالصَّحابةِ، والصَّحابةُ على قَولينِ، وأجمَعوا على أحَدِ القَولينِ، لم يَسقُطِ القَولُ الآخَرُ بما أجمَعوا عليه، وقد أجمَعَ مَعَهم أهلُ القَولِ الثَّاني، فعَدَمُ سُقوطِ القَولِ الآخَرِ بَعدَ انقِراضِ الصَّحابةِ أَولى [1034] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (4/1110). .
4- إذا اختَلف الصَّحابةُ على قَولينِ، فانقَرَضوا وبَقيَ واحِدٌ مِن الصَّحابةِ، وهو مِن أهلِ أحَدِ القَولينِ، ثُمَّ أجمَعَ التَّابعونَ على قَولِ مَن لم يَبقَ مِنهم أحَدٌ، لم يَكُن إجماعًا؛ لبَقاءِ واحِدٍ مِن أهلِ القَولِ الذي خالفوه، وإذا هَلكَ هذا الواحِدُ صارَ ما أجمَعَ عليه التَّابعونَ إجماعًا بانقِراضِ هذا الواحِدِ، ومَوتُ الإنسانِ ليسَ بقَولٍ ولا حُجَّةٍ، فكَيف يَكونُ الإجماعُ مُنعَقِدًا بمَوتِ واحِدٍ [1035] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (4/1110). ؟
وقيل: يَصيرُ إجماعًا ويَسقُطُ القَولُ الآخَرُ، وهو قَولُ أكثَرِ الحَنَفيَّةِ [1036] يُنظر: ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (3/ 247). وقد عزي إلى جميع الحنفية. يُنظر: ((أصول السرخسي)) (1/319-321)، ((ميزان الأصول)) لعلاء الدين السمرقندي (1/ 507). ، وهو قَولُ بَعضِ المالكيَّةِ كالقَرافيِّ [1037] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) (ص: 328). ، وبَعضِ الشَّافِعيَّةِ كأبي بَكرٍ القَفَّالِ [1038] يُنظر: ((التبصرة)) للشيرازي (ص: 378). .

انظر أيضا: