موسوعة أصول الفقه

المَطلبُ التَّاسِعَ عَشَرَ: حُكمُ مُخالَفةِ الإجماعِ


المَسائِلُ الإجماعيَّةُ ليسَت مُتَساويةً في القوَّةِ وليسَت على دَرَجةٍ واحِدةٍ، فلا يُمكِنُ حينَئِذٍ الحُكمُ على مُخالفِ الإجماعِ بحُكمٍ واحِدٍ، بَل المُختارُ التَّفصيلُ على النَّحوِ الآتي:
1- مَن أنكَرَ مُجمَعًا عليه مِمَّا هو مَعلومٌ مِن الدِّينِ بالضَّرورةِ، كوُجوبِ الصَّلاةِ مَثَلًا، وأعدادِ الرَّكَعاتِ، وتَحريمِ الزِّنا والسَّرِقةِ؛ فإنَّه يَكفُرُ لا لمُخالفةِ الإجماعِ، بَل لإنكارِه أمرًا ثَبَتَ بالتَّواتُرِ وعُلمَ مِن الدِّينِ بالضَّرورةِ، أي: يَشتَرِكُ في مَعرِفتِه الخاصَّةُ والعامَّةُ حتَّى يَصيرَ كالمَعلومِ بالعِلمِ الضَّروريِّ في عَدَمِ تَطَرُّقِ الشَّكِّ إليه، وإنَّما حُكِمَ بكُفرِه لأنَّه صارَ بخِلافِه جاحِدًا كافِرًا لِما قُطِعَ به مِن دينِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فكان كالجاحِدِ لصِدقِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولأنَّ هذا الإنكارَ لا يَصدُرُ إلَّا مِن مُكَذِّبٍ بالشَّرعِ. ومِمَّن اختارَه: السَّمعانيُّ [1039] يُنظر: ((قواطع الأدلة)) (1/472). ، والغَزاليُّ [1040] يُنظر: ((المستصفى)) (ص:348). ، وابنُ السُّبكيِّ [1041] قال ابنُ السُّبكيِّ: (جاحِدُ المُجمَعِ عليه المَعلومِ مِن الدِّينِ بالضَّرورةِ كافِرٌ قَطعًا). ((جمع الجوامع)) (ص:79). ، وقال ابنُ مُفلحٍ: (لا أظُنُّ أحَدًا لا يُكَفِّرُ مَن جَحَدَ هذا) [1042] يُنظر: ((أصول الفقه)) لابن مفلح (2/454). .
2- مَن خالف الإجماعَ لاعتِقادِه أنَّه ليسَ بحُجَّةٍ فلا يَكفُرُ وإن كان مُخطِئًا، اختارَه أبو الحُسَينِ السُّهَيليُّ، ونَقَله عنه الزَّركَشيُّ [1043] يُنظر: ((البحر المحيط)) (6/499). .
3- إن كان طَريقُ ثُبوتِ الإجماعِ قَطعيًّا ولم يَنقُلْ أهلُ الإجماعِ الحُكمَ بالتَّواتُرِ عن صاحِبِ الشَّرعِ [1044] هذا قَيدٌ هامٌّ ليُفرِّقَ بَينَ هذا وبَينَ الإجماعِ الموافِقِ لِما نُقِل بالتَّواتُرِ إلى صاحِبِ الشَّرعِ مِمَّا هو مَعلومٌ مِن الدِّينِ بالضَّرورةِ. يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (6/499). قال الطُّوفيُّ: (اعلَمْ أنَّ القَولَ بتَكفيرِه مُطلقًا أحوَطُ للشَّريعةِ، وبعَدَمِه مُطلقًا أو بالتَّفصيلِ السَّابِقِ أحوَطُ للدِّماءِ، وأنَّ النِّزاعَ إنَّما هو في التَّكفيرِ، أمَّا قَتلُه حَدًّا باجتِهادِ إمامٍ، أو مُجتَهِدٍ، أو بفِعلِ أو بتَركِ ما يوجِبُه، كالزَّاني المُحصَنِ، أو تارِكِ الصَّلاةِ تَهاوُنًا لا جُحودًا: فلا نِزاعَ في جَوازِه). ((شرح مختصر الروضة)) (3/142). ، فلا يَكفُرُ مُنكِرُه، وهو اختيارُ الغَزاليِّ [1045] يُنظر: ((المستصفى)) (ص:348). ، وصَفيِّ الدِّينِ الهِنديِّ [1046] يُنظر: ((نهاية الوصول)) (6/2679، 2680). ، وغَيرِهما.
وقيل: يَكفُرُ مُطلَقًا [1047] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/136). ، وقيل بالتَّفصيلِ بَينَ كونِه مِن العُلماءِ فيَكفُرُ؛ إذ لا يَخفى عليه، وبَينَ كونِه مِن العَوامِّ فلا يَكفُرُ، ومِمَّن قال به أبو مُحَمَّدٍ الجُوَينيُّ [1048] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (6/499). .
5- إن كان الإجماعُ ظَنِّيًّا فأجمَعوا على أنَّ مُخالِفَ الحُكمِ الثَّابتِ به لا يَكفُرُ [1049] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (4/210)، ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص:332)، ((البحر المحيط)) للزركشي (6/496، 497)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (3/261)، ((ذخيرة العقبى)) للولوي (32/117). ، ومِمَّن ذَكَرَ الإجماعَ: عَلاءُ الدِّينِ البُخاريُّ [1050] قال عَلاءُ الدِّينِ البُخاريُّ: (اعلَمْ أنَّ العُلماءَ بَعدَما اتَّفَقوا على أنَّ إنكارَ حُكمِ الإجماعِ الظَّنِّيِّ -كالإجماعِ السُّكوتِّي، والمَنقولِ بلِسانِ الآحادِ- غَيرُ مُوجِبٍ للكُفرِ، اختَلَفوا في إنكارِ حُكمِ الإجماعِ القَطعيِّ، كإجماعِ الصَّحابةِ مَثَلًا؛ فبَعضُ المُتَكَلِّمينَ لم يَجعَلْه موجِبًا للكُفرِ بناءً على أنَّ الإجماعَ عِندَه حُجَّةٌ ظَنِّيَّةٌ، فإنكارُ حُكمِه لا يوجِبُ الكُفرَ، كإنكارِ الحُكمِ الثَّابتِ بخَبَرِ الواحِدِ أو القياسِ). ((كشف الأسرار)) (3/261). ، والعَضُدُ [1051] قال العَضُدُ: (أقولُ: إنكارُ حُكمِ الإجماعِ الظَّنِّيِّ ليسَ بكُفرٍ إجماعًا). ((شرح العضد على المختصر)) (2/374). ، وصَفيُّ الدِّينِ الهِنديُّ [1052] قال الهِنديُّ: (إنَّما قَيَّدنا الإجماعَ بالقَطعِ؛ لأنَّ جاحِدَ حُكمِ الإجماعِ الظَّنِّيِّ لا يَكفُرُ وِفاقًا). ((نهاية الوصول)) (6/2679). .

انظر أيضا: