موسوعة أصول الفقه

المَسألةُ الرَّابعةُ: تَقسيماتُ العِلَّةِ


تَنقَسِمُ العِلَّةُ باعتِباراتٍ مُختَلفةٍ، وفيما يَلي بَيانُ هذه التَّقسيماتِ بحَسَبِ كُلِّ اعتِبارٍ، مَعَ التَّمثيلِ لها:
أوَّلًا: تَقسيمُ العِلَّةِ باعتِبارِ دَليلِها
تَنقَسِمُ العِلَّةُ بهذا الاعتِبارِ إلى قِسمَينِ [1195] يُنظر: ((الفصول)) للجصاص (4/99)، ((المعتمد)) لأبي الحسين البصري (2/163)، ((البحر المحيط)) للزركشي (7/146)، ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (5/2020). :
القِسمُ الأوَّلُ: العِلَّةُ المنصوصةُ، وهيَ ما ثَبَتَت بالنَّصِّ:
وهيَ إمَّا أن يَنُصَّ الشَّارِعُ عليها نَصًّا صَريحًا.
مِثلُ: قَولِ اللهِ تعالى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء: 165] .
وقَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّما جُعِل الاستِئذانِ مِن أجلِ البَصَرِ)) [1196] أخرجه البخاري (6241) واللفظ له، ومسلم (2156) من حديثِ سَهلِ بنِ سَعدٍ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُ البخاريِّ: ((اطَّلعَ رَجُلٌ مِن جُحرٍ في حُجَرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومَعَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِدرًى يَحُكُّ به رَأسَه، فقال: لو أعلمُ أنَّكَ تَنظُرُ لطَعنتُ به في عَينِك؛ إنَّما جُعِل الاستِئذانُ مِن أجلِ البَصَرِ)). .
وإمَّا أن يَنُصَّ الشَّارِعُ عليها نَصًّا غَيرَ صَريحٍ.
مِثلُ: قَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الهِرَّةِ: ((إنَّها ليسَت بنَجَسٍ؛ إنَّها مِن الطَّوَّافينَ عليكُم والطَّوَّافاتِ)) [1197] أخرجه أبو داود (75) واللَّفظُ له، والترمذي (92)، والنسائي (68) من حديثِ أبي قتادةَ الأنصاريِّ رَضِيَ اللهُ عنه. صَحَّحه ابنُ خُزَيمة في ((الصحيح)) (1/222)، وابن حبان في ((صحيحه)) (1299)، والحاكم في ((المستدرك)) (567) وقال: وهذا الحديثُ ممَّا صَحَّحه مالِكٌ، وعبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الوسطى)) (1/236)، والنووي في ((الإيجاز)) (322). .
القِسمُ الثَّاني: العِلَّةُ المُستَنبَطةُ، وهيَ ما ثَبَتَت باجتِهادِ المُجتَهِدينَ:
مِثلُ: تَعليلِ تَحريمِ الخَمرِ بالإسكارِ، وتَعليلِ وُجوبِ القِصاصِ على القاتِلِ بالمُحَدَّدِ بالقَتلِ العَمدِ العُدوانِ.
ثانيًا: تَقسيمُ العِلَّةِ باعتِبارِ تَعَدِّيها وعَدَمِه
تَنقَسِمُ العِلَّةُ بهذا الاعتِبارِ إلى قِسمَينِ [1198] يُنظر: ((نهاية السول)) للإسنوي (ص: 348)، ((تيسير الوصول)) لابن إمام الكاملية (6/29)، ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (5/2021). :
القِسمُ الأوَّلُ: العِلَّةُ المُتَعَدِّيةُ
وهيَ العِلَّةُ التي تَتَجاوزُ مَحَلَّ الحُكمِ المَنصوصِ، فتوجَدُ في مَحالَّ وفُروعٍ غَيرِ المَحَلِّ المَنصوصِ عليه.
ومِثالُها: الإسكارُ؛ فإنَّه يوجَدُ في الأصلُ وهو الخَمرُ، ويوجَدُ في غَيرِه، كالنَّبيذِ وأيِّ مُسكِرٍ. ومِثلُ المَكيلِ؛ فإنَّه يوجَدُ في الأصلِ، وهو البُرُّ، ويوجَدُ في غَيرِه كالأَرُّزِ والذُّرةِ.
القِسمُ الثَّاني: العِلَّةُ القاصِرةُ
وهيَ العِلَّةُ التي لا توجَدُ إلَّا في المَحَلِّ المَنصوصِ عليه، فلا تَتَجاوزُه إلى غَيرِه.
ومِثالُها: السَّفرُ؛ فإنَّه عِلَّةٌ لقَصرِ الصَّلاةِ، ولا يوجَدُ في غَيرِه. ومِثلُ الثَّمَنيَّةِ؛ فإنَّها عِلَّةٌ لتَحريمِ الرِّبا في النَّقدَينِ، فإنَّ هذا الوَصفَ قاصِرٌ على النَّقدَينِ فقَط.
ثالثًا: تَقسيمُ العِلَّةِ باعتِبارِ لُزومِ الوَصفِ وعَدَمِه
الوَصفُ الذي جُعِل عِلَّةً إمَّا أن يَكونَ لازِمًا للمَوصوفِ، أو لا يَكونُ كذلك [1199] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (5/283)، ((البحر المحيط)) للزركشي (7/218)، ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (5/2021). :
القِسمُ الأوَّلُ: الوصفُ اللَّازِمُ
وهو الوَصفُ المُعَلَّلُ به الذي يَكونُ لازِمًا للمَوصوفِ لا يَنفكُّ عنه.
ومِثالُه: كَونُ البُرِّ مَطعومًا؛ فإنَّه يُعَلَّلُ به تَحريمُ رِبا الفَضلِ في البُرِّ، والطُّعمُ لازِمٌ للمَوصوفِ لا يَنفكُّ عنه.
القِسمُ الثَّاني: الوَصفُ غَيرُ اللَّازِمِ للمَوصوفِ
أي: يَنفَكُّ عنه، فحينَئِذٍ يَكونُ مُتَجَدِّدًا، وهذا الوَصفُ المُتَجَدِّدُ: إمَّا أن يَكونَ ضَروريًّا بحَسَبِ العادةِ، وهو مِثلُ انقِلابِ العَصيرِ خَمرًا، والخَمرِ خَلًّا.
أو لا يَكونُ ضَروريًّا، وهو: إمَّا أن يَكونَ مُتَعَلِّقًا باختيارِ أهلِ العُرفِ، ككَونِ البُرِّ مَكيلًا، أو يَكونَ مُتَعَلِّقًا باختيارِ الشَّخصِ الواحِدِ، كالرِّدَّةِ والقَتلِ.
رابعًا: تَقسيمُ العِلَّةِ باعتِبارِ كونِها مَعَ الحُكمِ ثبوتيَّةً أو عَدَميَّةً
العِلَّةُ والحُكمُ إمَّا أن يَكونا ثُبوتيَّينِ، أو عَدَميِّينِ. وإمَّا أن يَكونَ الحُكمُ ثُبوتيًّا والعِلَّةُ عَدَميَّةً، وإمَّا أن يَكونَ الحُكمُ عَدَميًّا والعِلَّةُ ثُبوتيَّةً، وهذا يُسَمِّيه الفُقَهاءُ تَعليلًا بالمانِعِ.
وبهذا الاعتِبارِ تَنقَسِمُ العِلَّةُ إلى أربَعةِ أقسامٍ [1200] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (5/283)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (8/3491)، ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (5/2023). :
القِسمُ الأوَّلُ: العِلَّةُ الثُّبوتيَّةُ والحُكمُ الثُّبوتيُّ
مِثلُ: إثباتِ الطُّعمِ عِلَّةً لثُبوتِ تَحريمِ الرِّبا في البُرِّ.
القِسمُ الثَّاني: العِلَّةُ العَدَميَّةُ، والحُكمُ العَدَميُّ
مِثلُ قَولِنا: عَدَمُ الرِّضا عِلَّةٌ لعَدَمِ صِحَّةِ البَيعِ.
القِسمُ الثَّالثُ: العِلَّةُ العَدَميَّةُ، والحُكمُ الثُّبوتيُّ
مِثلُ قَولِنا: عَدَمُ الفَسخِ في زَمَنِ الخِيارِ عِلَّةٌ لثُبوتِ واستِقرارِ المِلكِ.
القِسمُ الرَّابعُ: العِلَّةُ الثُّبوتيَّةُ، والحُكمُ العَدَميُّ
مِثلُ قَولِنا: ثُبوتُ الدَّينِ عِلَّةٌ لعَدَمِ وُجوبِ الزَّكاةِ.
خامِسًا: تَقسيمُ العِلَّةِ باعتِبارِ نِسبَتِها إلى المُكَلَّفِ
العِلَّةُ إمَّا أن تَكونَ فِعلًا للمُكَلَّفِ، أو لا تَكونَ كذلك.
فتَنقَسِمُ العِلَّةُ بهذا الاعتِبارِ إلى قِسمَينِ [1201] يُنظر: ((شفاء الغليل)) للغزالي (ص: 456)، ((المحصول)) للرازي (5/283). :
القِسمُ الأوَّلُ: عِلَّةٌ مِن فِعلِ المُكَلَّفِ
مِثلُ قَولِنا: القَتلُ عِلَّةٌ لوُجوبِ القِصاصِ؛ فإنَّ القَتلَ فِعلُ المُكَلَّفِ. والسَّرِقةُ عِلَّةٌ للقَطعِ، وهيَ مِن فِعلِ المُكَلَّفِ.
القِسمُ الثَّاني: عِلَّةٌ ليسَت مِن فِعلِ المُكَلَّفِ
مِثلُ قَولِنا: البَكارةُ عِلَّةٌ في ثُبوتِ وِلايةِ الإجبارِ في النِّكاحِ عِندَ الشَّافِعيَّةِ.
سادِسًا: تَقسيمُ العِلَّةِ باعتِبارِ تَعَدُّدِ أوصافِها
يَجوزُ أن تَكونَ العِلَّةُ ذاتَ أوصافٍ؛ لأنَّ عِلَلَ الشَّرعِ أماراتٌ على الأحكامِ لمَصالحِ العِبادِ، ويَجوزُ أن تَتَعَلَّقَ المَصلَحةُ بوَصفٍ واحِدٍ وباجتِماعِ وصفَينِ وأوصافٍ.
ولأنَّ ما ثَبَتَ به عِلِّيَّةُ الوَصفِ الواحِدِ ثَبت به عِلِّيَّةُ الأوصافِ المُتَعَدِّدةِ؛ إذ لا يَمتَنِعُ أن تَكونَ الهَيئةُ الاجتِماعيَّةُ مِن الأوصافِ المُتَعَدِّدةِ مِمَّا يَقومُ الدَّليلُ على ظَنِّ التَّعليلِ بها إمَّا بمُناسَبةٍ أو شَبَهٍ أو سَبرٍ وتَقسيمٍ أو غَيرِ ذلك مِن طُرُقِ الاستِنباطِ والتَّخريجِ، مَعَ اقتِرانِ الحُكمِ بها حَسَبَ دَلالتِه على عِلِّيَّةِ الوَصفِ الواحِدِ. فبهذا الاعتِبارِ تَنقَسِمُ العِلَّةُ إلى قِسمَينِ [1202] يُنظر: ((ميزان الأصول)) للسمرقندي (ص: 587)، ((المحصول)) للرازي (5/284)، ((الإحكام)) للآمدي (3/212). :
القِسمُ الأوَّلُ: العِلَّةُ ذاتُ الأوصافِ المُتَعَدِّدةِ
مِثلُ قَولِنا: القَتلُ العَمدُ العُدوانُ عِلَّةٌ لوُجوبِ القِصاصِ.
القِسمُ الثَّاني: العِلَّةُ ذاتُ الوَصفِ الواحِدِ
مِثلُ قَولِنا: الإسكارُ عِلَّةٌ لتَحريمِ الخَمرِ.
سابعًا: تَقسيمُ العِلَّةِ باعتِبارِ تَوقُّفِ مَعلولِها على شَرطٍ وعَدَمِ ذلك
اقتِضاءُ العِلَّةِ مَعلولَها قد يَكونُ مَوقوفًا على شَرطٍ، وقد لا يَكونُ كذلك؛ فتَنقَسِمُ العِلَّةُ بهذا الاعتِبارِ إلى قِسمَينِ [1203] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (5/322)، ((نهاية الوصول)) للهندي (8/3534)، ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (5/2022). :
القِسمُ الأوَّلُ: العِلَّةُ المُتَوقِّفةُ على حُصولِ شَرطٍ:
مِثلُ قَولِنا: الزِّنا عِلَّةٌ للرَّجمِ، لكِنَّ هذا الرَّجمَ لا يُمكِنُ إلَّا إذا تَوفَّرَ شَرطٌ، وهو كونُ الزَّاني مُحصَنًا، فالإحصانُ شَرطٌ لرَجمِ الزَّاني.
القِسمُ الثَّاني: العِلَّةُ غَيرُ المُتَوقِّفةِ على حُصولِ شَرطٍ:
مِثلُ قَولِنا: الزِّنا عِلَّةٌ للجَلدِ، فإنَّ هذا الجَلدَ يَحصُلُ مِن غَيرِ أن يَتَوقَّفَ على شَرطِ الإحصانِ.
ثامِنًا: تَقسيمُ العِلَّةِ باعتِبارِ الدَّفعِ والرَّفعِ بها
تَنقَسِمُ العِلَّةُ بهذا الاعتِبارِ إلى أربَعةِ أقسامٍ [1204] يُنظر: ((حاشية العطار)) (2/275)، ((نشر البنود)) لعبد الله لشنقيطي (2/131)، ((الأصل الجامع)) للسيناوني (2/124). :
القِسمُ الأوَّلُ: العِلَّةُ الدَّافِعةُ للحُكمِ، والرَّافِعةُ له:
مِثلُ: الحَدَثِ مَعَ الصَّلاةِ؛ فإنَّه يَمنَعُ الابتِداءَ والدَّوامَ. ومِثلُ: الرَّضاعِ؛ فإنَّه عِلَّةٌ لحُرمةِ النِّكاحِ ابتِداءً، بمَعنى أنَّه يَحرُمُ عليه تَزَوُّجُ مَن بَينَه وبَينَها رَضاعٌ، فهو دافِعٌ، وعِلَّةٌ لحُرمَتِه انتِهاءً، بمَعنى أنَّه إذا طَرَأ رَضاعٌ بَينَه وبَينَ زَوجَتِه انقَطَعَ نِكاحُها، فهو رافِعٌ.
القِسمُ الثَّاني: العِلَّةُ الرَّافِعةُ للحُكمِ، وغَيرُ الدَّافِعةِ له:
وهيَ ما كانت عِلَّةً في ثُبوتِ الحُكمِ انتِهاءً لا ابتِداءً، مِثلُ: الطَّلاقِ؛ فإنَّه عِلَّةٌ لحُرمةِ الاستِمتاعِ انتِهاءً، بمَعنى أنَّ الزَّوجَ إذا طَلَّقَ زَوجَتَه حَرُمَ عليه استِمتاعُه بها، وليسَ عِلَّةً لحُرمَتِه ابتِداءً، بمَعنى أنَّه لا يَمتَنِعُ استِمتاعُه بها إذا تَزَوَّجَها بَعدَ الطَّلاقِ، فهو رافِعٌ غَيرُ دافِعٍ؛ حَيثُ لا يَكونُ الطَّلاقُ مانِعًا مِن وُقوعِ نِكاحٍ جَديدٍ.
القِسمُ الثَّالثُ: العِلَّةُ الدَّافِعةُ للحُكمِ، وغَيرُ الرَّافِعةِ له:
وهي التي تَكونُ عِلَّةً في ثُبوتِ الحُكمِ ابتِداءً لا انتِهاءً، مِثلُ: العِدَّةِ؛ فإنَّها عِلَّةٌ في ثُبوتِ حُرمةِ النِّكاحِ ابتِداءً، بمَعنى أنَّ عِدَّةَ الزَّوجِ عِلَّةٌ لحُرمةِ نِكاحِ غَيرِه، وليسَت عِلَّةً في ذلك انتِهاءً، بمَعنى أنَّ الزَّوجةَ إذا وُطِئَت بشُبهةٍ لا يَنقَطِعُ نِكاحُها، فهيَ دافِعةٌ غَيرُ رافِعةٍ، وإذا كانت عِلَّةً في ثُبوتِ حُرمةِ النِّكاحِ كانت مانِعًا مِن حِلِّ النِّكاحِ.
القِسمُ الرَّابعُ: العِلَّةُ غَيرُ الدَّافِعةِ للحُكمِ، وغَيرُ الرَّافِعةِ له
فهذا لا عَلاقةَ له بهذا الشَّأنِ؛ لأنَّ الدَّفعَ والرَّفعَ خاصَّانِ بالوصفِ المانِعِ.
تاسِعًا: تَقسيمُ العِلَّةِ عِندَ الحَنَفيَّةِ
وهي باعتبارِ الاسمِ والمعنَى والحُكمِ.
فالعِلَلُ المُعتَبَرةُ شَرعًا أربَعةُ أقسامٍ: عِلَّةٌ اسمًا ومَعنًى وحُكمًا. وعِلَّةٌ اسمًا ومَعنًى لا حُكمًا. وعِلَّةٌ حُكمًا لا اسمًا ولا مَعنًى. وعِلَّةٌ اسمًا لا مَعنًى ولا حُكمًا.
ومَعنى كَونِ العِلَّةِ اسمًا: أن تَكونَ تلك العِلَّةُ مَوضوعةً منصُوصةً مُسمَّاةً شَرعًا لذلك الحُكمِ الذي هو حُكمُها، كمِلكِ النِّصابِ وُضِعَ لإيجابِ الزَّكاةِ.
ومَعنى كونِها مَعنًى: أن تَكونَ تلك العِلَّةُ مُؤَثِّرةً في إثباتِ ذلك الحُكمِ، كتَأثيرِ الغِنى في حَقِّ المواساةِ.
ومَعنى كونِها حُكمًا: أن يَتَّصِلَ الحُكمُ بها وُجودًا عِندَ وُجودِها، كوُجودِ حُكمِ الزَّكاةِ بوُجوبِ الأداءِ عِندَ حَوَلانِ الحَولِ.
وفيما يَلي بَيانُ هذه الأقسامِ الأربَعةِ:
1- العِلَّةُ المُعتَبَرةُ مِن كُلِّ وجهٍ: مِثلُ الإعتاقِ؛ فإنَّه عِلَّةٌ لزَوالِ الرِّقِّ وإثباتِ الحُرِّيَّةِ. وإيقاعُ الطَّلاقِ عِلَّةٌ للوُقوعِ، والبَيعُ عِلَّةٌ للمِلكِ، فإنَّ هذا كُلَّه عِلَّةٌ اسمًا مِن حَيثُ إنَّه مَوضوعٌ لهذا الموجِبِ؛ فإنَّ هذا الموجِبَ مُضافٌ إليه لا بواسِطةٍ. وهو عِلَّةٌ مَعنًى مِن حَيثُ إنَّه مَشروعٌ لأجلِ هذا الموجِبِ. وهو عِلَّةٌ حُكمًا مِن حَيثُ إنَّ هذا الحُكمَ يَثبُتُ به، ولا يَجوزُ أن يَتَراخى عنه. وهذا النَّوعُ مِن العِلَّةِ لا إشكالَ فيه، وهو الأصلُ.
2- العِلَّةُ اسمًا ومَعنًى لا حُكمًا: مِثلُ النِّصابِ قَبلَ الحَولِ؛ فإنَّه عِلَّةُ الوُجوبِ اسمًا ومَعنًى لا حُكمًا؛ لأنَّ الزَّكاةَ لا تَجِبُ إلَّا بَعدَ الحَولِ. وكذلك البَيعُ بشَرطِ الخيارِ، فإنَّه عِلَّةٌ للمِلكِ اسمًا ومَعنًى؛ لأنَّه مُنعَقِدٌ للحالِ شَرعًا لا حُكمًا؛ لأنَّ المِلكَ لا يَجِبُ للمُشتَري مَعَه، والمَبيعُ باقٍ في مِلكِ البائِعِ كما كان مِن قَبلُ مِن غَيرِ خَلَلٍ.
3- العِلَّة اسمًا وحكمًا لا معنىً: مِثلُ: السَّفرِ؛ فإنَّه سَبَبٌ للرُّخَصِ، والعِلَّةُ هيَ المَشَقَّةُ، فأُثبِتَ حُكمُ العِلَّةِ، وهو السُّقوطُ، ولا مَشَقَّةَ، وهيَ العِلَّةُ على الحَقيقةِ. وهذا لأنَّ السَّفرَ سَبَبٌ ظاهِرٌ للمَشَقَّةِ عادةً، والمَشَقَّةُ أمرٌ باطِنٌ يَتَفاوتُ النَّاسُ فيها، وليسَ لها حَدٌّ مَعلومٌ، فلو عُلِّقَ الحُكمُ بحَقيقةِ المَشَقَّةِ لتَعَذَّر الأمرُ علينا، فعَلَّقَه الشَّرعُ بسَبَبِها في العاداتِ تَيسيرًا علينا؛ فيَثبُتُ الحُكمُ وإن عُدِمَت العِلَّةُ.
وكذلك الوُضوءُ يَجِبُ عن النَّومِ وإن لم يوجَدِ الحَدَثُ، والعِلَّةُ هيَ خُروجُ النَّجَسِ على قَولٍ، أو خُروجُ شَيءٍ مِن المَخرَجِ على قَولٍ آخَرَ.
وهذا لأنَّ خُروجَ الحَدَثِ حالَ النَّومِ أمرٌ باطِنٌ، ولو عُلِّقَ الحُكمُ به لتَعَذَّر، فعُلِّقَ بالسَّبَبِ المُؤَدِّي إليه ظاهرًا، وهو النَّومُ الذي يُرخي مَفاصِلَه، تَيسيرًا واحتياطًا لأمرِ العِبادةِ أيضًا.
4- العِلَّةُ اسمًا لا مَعنًى ولا حُكمًا: نَحوُ طَلاقِ المَرأةِ إن دَخَلت الدَّارَ، كان عَقْدَ طَلاقٍ اسمًا، ولم يَكُنْ مَعنًى ولا حُكمًا؛ لأنَّ العِلَّةَ مَعنًى وحُكمًا ما يَكونُ ثُبوتُ الحُكمِ عِند تقَرُّرِه، لا عِندَ ارتِفاعِه. وبَعدَ وُجودِ الشَّرطِ في اليَمينِ بالطَّلاقِ لا تَبقى اليَمينُ [1205] ينظر لأقسام العلة عند الحنفية: ((تقويم الأدلة)) للدبوسي (ص: 382)، ((أصول السرخسي)) (2/312)، ((ميزان الأصول)) للسمرقندي (ص: 611)، ((الكافي)) للسغناقي (5/2060)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (4/187)، ((تيسير التحرير)) لأمير بادشاه (3/327)، ((شرح سمت الوصول)) للكافي (ص: 354). .

انظر أيضا: