موسوعة أصول الفقه

تَمهيدٌ: تَعليلُ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ


يُطلَقُ تَعليلُ الأحكامِ عِندَ الأُصوليِّينَ على أمرَينِ:
الأوَّلُ: يُرادُ به أنَّ أحكامَ اللهِ وُضِعَت تَحقيقًا لمَصالحِ العِبادِ في العاجِلِ والآجِلِ، أي: مُعَلَّلةً برِعايةِ المَصالحِ.
الثَّاني: يُرادُ به بَيانُ عِلَلِ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ، وكَيفيَّةُ استِنباطِها والوُصولِ إليها بالطُّرُقِ المَعروفةِ بمَسالِكِ العِلَّةِ، والغَرَضُ مِن ذلك مَعرِفةُ حُكمِ حادِثةٍ -لم يُنَصَّ على حُكمِها- عن طَريقِ القياسِ [1154] يُنظر: ((تعليل الأحكام)) لشلبي (ص: 12)، ((المقاصد العامة للشريعة الإسلامية)) ليوسف العالم (ص: 123). .
والمَقصودُ هنا هو الإطلاقُ الثَّاني، وهو عِلَلُ الأحكامِ.
والأدِلَّةُ على ثُبوتِ التَّعليلِ بهذا الإطلاقِ مِن القُرآنِ والسُّنَّةِ والإجماعِ:
أوَّلًا: مِن القُرآنِ الكَريمِ
قَولُ اللهِ تعالى في التَّنبيهِ على عِلَّةِ تَحريم المُسكِراتِ: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة: 91] .
فأشارَ بهذا إلى أنَّها حُرِّمَت لِما فيها مِن إيقاعِ أسبابِ الفَسادِ، وزَوالِ العَقلِ، ثُمَّ كان مَعقولًا أنَّ هذا يَتَحَقَّقُ في الكَثيرِ دونَ القَطرةِ والقَطرَتَينِ فصاعِدًا إلى أن يَبلُغَ حَدَّ الكَثرةِ، ولكِن لمَّا كان التَّمييزُ بَينَ القَليلِ والكَثيرِ مِمَّا قد يَتَعَذَّرُ في كثيرٍ مِن الأحوالِ؛ لاختِلافِ طَبائِعِ النَّاسِ في القوَّةِ والضَّعفِ، حتَّى يَظهَرَ تَأثيرُ السُّكرِ في بَعضِهم بما لا يَظهَرُ في غَيرِه، لم يُؤمَنْ أن يُتَطرَّقَ بالقَليلِ إلى الكَثيرِ، فحَسَمَ البابَ، وحَمَل النَّاسَ فيه على شَيءٍ واحِدٍ وسُنَّةٍ واحِدةٍ، فحَرَّمَ القَليلَ والكَثيرَ [1155] يُنظر: ((محاسن الشريعة)) للقفال الشاشي (ص: 34). .
ثانيًا: مِن السُّنَّةِ
قال ابنُ القَيِّمِ: (النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أوَّلُ مَن بَيَّنَ العِلَلَ الشَّرعيَّةَ والمَآخِذَ، والجَمعَ والفَرقَ، والأوصافَ المُعتَبَرةَ والأوصافَ المُلغاةَ) [1156] ((بدائع الفوائد)) (4/1533). .
ومِن ذلك حَديثُ ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: جاءَت امرَأةٌ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقالت: إنَّ أُمِّي نَذَرَت أن تَحُجَّ فماتَت قَبلَ أن تَحُجَّ، أفأحُجُّ عنها؟ قال: ((نَعَم، حُجِّي عنها، أرَأيتِ لو كان على أُمِّكِ دَينٌ أكُنتِ قاضيَتَه؟ قالت: نَعَم، فقال: اقضوا اللَّهَ الذي له؛ فإنَّ اللَّهَ أحَقُّ بالوفاءِ)) [1157] أخرجه البخاري (7315). .
فقد تَضَمَّنَ هذا الحَديثُ بَيانَ قياسِ الأَولى، وأنَّ دَينَ المَخلوقِ إذا كان يَقبَلُ الوفاءَ مَعَ شُحِّه وضِيقِه، فدَينُ الواسِعِ الكَريمِ تعالى أحَقُّ بأن يَقبَلَ الوفاءَ، ففي هذا أنَّ الحُكمَ إذا ثَبَتَ في مَحَلِّ الأمرِ، وثَمَّ مَحَلٌّ آخَرُ أَولى بذلك الحُكمِ، فهو أَولى بثُبوتِه فيه، ومَقصودُ الشَّارِعِ في ذلك التَّنبيهُ على المَعاني والأوصافِ المُقتَضيةِ لشَرعِ الحُكمِ، والعِلَلِ المُؤَثِّرة، وإلَّا فما الفائِدةُ في ذِكرِ ذلك، والحُكمُ ثابتٌ بمُجَرَّدِ قَولِه [1158] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (4/1537). ؟!
ثالثًا: مِن الإجماعِ
فقد نَقَل البَزْدَويُّ الإجماعَ على جَوازِ التَّعليلِ [1159] قال: (قد أجمَعَ الفُقَهاءُ على جَوازِ التَّعليلِ). ((أصول البزدوي)) (ص: 312). قال السِّغناقيُّ: (يَعني أجمَعَ الفُقَهاءُ على جَوازِ تَعليلِ النُّصوصِ لتَعديةِ الحُكمِ مِنها إلى الفُروعِ). ((الكافي شَرح البزدوي)) (3/1098). ، ونَقل الآمِديُّ الإجماعَ على صِحَّةِ تَعليلِ الأحكامِ بالأوصافِ الظَّاهرةِ المُنضَبطةِ [1160] قال: (الإجماعُ مُنعَقِدٌ على صِحَّةِ تَعليلِ الأحكامِ بالأوصافِ الظَّاهرةِ المُنضَبطةِ المُشتَمِلةِ على احتِمالِ الحُكمِ، كتَعليلِ وُجوبِ القِصاصِ بالقَتلِ العَمدِ العُدوانِ؛ لحِكمةِ الزَّجرِ أو الجَبرِ، وتَعليلِ صِحَّةِ البَيعِ بالتَّصَرُّفِ الصَّادِرِ مِن الأهلِ في المَحَلِّ؛ لحِكمةِ الانتِفاعِ، وتَعليلِ تَحريمِ شُربِ الخَمرِ وإيجابِ الحَدِّ به؛ لحِكمةِ دَفعِ المَفسَدةِ النَّاشِئةِ مِنه ونَحوِه). ((الإحكام)) (3/203). ، ونَقَل ابنُ المُنَيِّرِ الإجماعَ على أنَّ الأصلَ في الأحكامِ التَّعليلُ [1161] قال: (هل نَحتاجُ في كُلِّ صورةٍ إلى دَليلٍ خاصٍّ على أنَّ الحُكمَ فيها مُعَلَّلٌ، أو يُكتَفى بالدَّليلِ العامِّ على أنَّ الأحكامَ مُعَلَّلةٌ؟ والحَقُّ هو الثَّاني؛ لاستِقرارِ الإجماعِ على أنَّ الأصلَ في الأحكامِ التَّعليلُ). يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (7/404). .
تَعليلُ الأحكامِ في القُرآنِ والسُّنَّةِ:
ذَكَر اللهُ تعالى العِلَلَ والأوصافَ المُؤَثِّرةَ، والمَعانيَ المُعتَبَرةَ في الأحكامِ القدَريَّةِ والشَّرعيَّةِ والجَزائيَّةِ؛ ليَدُلَّ بذلك على تَعَلُّقِ الحُكمِ بها أينَ وُجِدَت، واقتِضائِها لأحكامِها، وعَدَمِ تَخَلُّفِها عنها إلَّا لمانِعٍ يُعارِضُ اقتِضاءَها، ويوجِبُ تَخَلُّفَ آثارِها عنها. وقد جاءَ التَّعليلُ في الكِتابِ العَزيزِ بالباءِ، وباللَّامِ، وبأنْ، وبمَجموعِهما، وبـ "كي"، و "مِن أجْلِ"، وتَرتيبِ الجَزاءِ على الشَّرطِ، وبالفاءِ المُؤذِنةِ بالسَّبَبيَّةِ، وتَرتيبِ الحُكمِ على الوَصفِ المُقتَضي له، وبـ"لمَّا"، وبإنَّ المُشَدَّدةِ، وبـ "لعَلَّ"، وبالمَفعولِ له. ومِن أمثِلةِ ذلك [1162] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/ 390)، ((تعليل الأحكام)) لشلبي (ص: 12). :
التَّعليلُ بالباءِ، كقَولِ اللهِ تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد: 28] .
وباللَّامِ، كقَولِه: ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ [المائدة: 97] .
وبأنْ، كقَولِه: أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ [الأنعام: 156] . قيل: التَّقديرُ: لئلَّا تقولوا، وقيل: كراهةَ أن تقولوا.
وبأنْ واللَّامِ، كقَولِه: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء: 165] ، وغالِبُ ما يكونُ هذا النَّوعُ في النَّفيِ.
وبكَيْ، كقَولِه: كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً [الحشر: 7] .
وبالشَّرطِ والجَزاءِ، كقَولِه: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا [آل عمران: 120] .
وبالفاءِ، كقَولِه تعالى: فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ [الشعراء: 139] ، وقَولِه تعالى: فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً [الحاقة: 10] ، وقَولِه تعالى: فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا [المزمل: 16] .
وبترتيبِ الحُكمِ على الوَصفِ، كقَولِه: يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ [المائدة: 16] ، وقَولِه: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة: 11] ، وقَولِه: إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ [الأعراف: 170] ، وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ.
وبلمَّا، كقَولِه: فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ [الزخرف: 55] ، فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [الأعراف: 166] .
وبإنَّ المشدَّدةِ، كقَولِه: إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ [الأنبياء: 77] ، وإِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ [الأنبياء: 74] .
وبلعَلَّ، كقَولِه: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه: 44] ، و لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الأنعام: 152] .
وبالمفعولِ له، كقَولِه: وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى [الليل: 19 - 20] ، أي: لم يفعَلْ ذلك جزاءَ نِعمةِ أحدٍ من النَّاسِ، وإنَّما فعَلَه ابتغاءَ وَجهِ ربِّه الأعلى.
وبمِنْ أجْلِ، كقَولِه: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ [المائدة: 32] .
وذَكَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عِلَلَ الأحكامِ والأوصافَ المُؤَثِّرةَ فيها؛ ليَدُلَّ على ارتِباطِها بها، وتَعَدِّيها بتَعَدِّي أوصافِها وعِلَلِها، مِثلُ قَولِه: ((إنَّما جُعِل الاستِئذانُ مِن أجلِ البَصَرِ)) [1163] أخرجه البخاري (6241) واللفظ له، ومسلم (2156) من حديثِ سَهلِ بنِ سَعدٍ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُ البخاريِّ: ((اطَّلعَ رَجُلٌ مِن جُحرٍ في حُجَرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومَعَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِدرًى يَحُكُّ به رَأسَه، فقال: لو أعلمُ أنَّكَ تَنظُرُ لطَعنتُ به في عَينِكَ، إنَّما جُعِل الاستِئذانُ مِن أجلِ البَصَرِ)). ، وقَولِه: ((إنَّما نَهَيتُكُم مِن أجْلِ الدَّافَّةِ)) [1164] أخرجه مسلم (1971) من حديثِ عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، ولفظُه: عن عبدِ اللهِ بنِ واقدٍ، قال: ((نَهى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن أكلِ لُحومِ الضَّحايا بَعدَ ثَلاثٍ، قال عَبدُ اللهِ بنُ أبي بَكرٍ: فذَكَرتُ ذلك لعَمرةَ، فقالت: صَدَقَ، سَمِعتُ عائِشةَ تَقولُ: دَفَّ أهلُ أبياتٍ مِن أهلِ الباديةِ حَضرةَ الأضحى زَمَنَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ادَّخِروا ثَلاثًا، ثُمَّ تَصَدَّقوا بما بَقيَ، فلمَّا كان بَعدَ ذلك قالوا: يا رَسولَ اللهِ، إنَّ النَّاسَ يَتَّخِذونَ الأسقيةَ مِن ضَحاياهم، ويَجمُلونَ مِنها الوَدَكَ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: وما ذاكَ؟ قالوا: نَهَيتَ أن تُؤكَلَ لُحومُ الضَّحايا بَعدَ ثَلاثٍ، فقال: إنَّما نَهَيتُكُم مِن أجلِ الدَّافَّةِ التي دَفَّت؛ فكُلوا وادَّخِروا وتَصَدَّقوا)). ، ونَهيِه عن تَغطيةِ رَأسِ المُحرِمِ الذي وقَصَته ناقَتُه وتَقريبِه الطِّيبَ، وقَولِه: ((فإنَّه يُبعَثُ يَومَ القيامةِ مُلبِّيًا)) [1165] أخرجه البخاري (1265)، ومسلم (1206) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، ولفظُ البخاريِّ: عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((بَينَما رَجُلٌ واقِفٌ بعَرَفةَ إذ وقَعَ عن راحِلتِه فوقَصَته -أو قال: فأوقَصَته- قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: اغسِلوه بماءٍ وسِدرٍ، وكَفِّنوه في ثَوبَينِ، ولا تُحَنِّطوه ولا تُخَمِّروا رَأسَه؛ فإنَّه يُبعَثُ يَومَ القيامةِ مُلبِّيًا)). .

انظر أيضا: