غريب الكلمات:
الْكَرْبِ: أي: الغمِّ الشَّديدِ، وما حَلَّ بالمكذِّبينَ من الطُّوفانِ والغَرَقِ، وأصلُ (كرب): يدُلُّ على شِدَّةٍ وقُوَّةٍ [745] يُنظر: ((تفسير الطبري)) (16/319)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/174)، ((المفردات)) للراغب (ص: 706). .
الْكَرْبِ: أي: الغمِّ الشَّديدِ، وما حَلَّ بالمكذِّبينَ من الطُّوفانِ والغَرَقِ، وأصلُ (كرب): يدُلُّ على شِدَّةٍ وقُوَّةٍ [745] يُنظر: ((تفسير الطبري)) (16/319)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/174)، ((المفردات)) للراغب (ص: 706). .
يقولُ اللهُ تعالى: واذكُرْ -يا محمَّدُ- نوحًا حين نادى ربَّه مِن قَبلِ إبراهيمَ ولُوطٍ أن يَنصُرَه اللهُ على قَومِه، فاستجَبْنا له دُعاءَه، فنجَّيناه وأهلَه المؤمنينَ به مِن الغَمِّ الشَّديدِ، ونَصَرْناه مِن القَومِ الذين كذَّبوا بآياتِنا الدَّالَّةِ على صِدقِه، إنَّهم كانوا قومًا يُسيئُونَ بالشِّركِ، وتَكذيبِ الرَّسولِ، فأغرَقْناهم بالطُّوفانِ أجمعينَ.
وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى قِصَّةَ إبراهيمَ عليه السَّلامُ، وهو أبو العَرَبِ، وتَنجِيَتَه مِن أعدائِه؛ ذكَرَ قِصَّةَ أبي العالَمِ الإنسيِّ كُلِّهم، وهو الأبُ الَّثاني بعدَ آدَمَ؛ لأنَّه ليس أحَدٌ إلَّا مِن نَسْلِه؛ مِن سام وحام ويافِث [746] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/453). .
وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ.
أي: واذكُرْ -يا مُحمَّدُ- نوحًا حينَ دعا رَبَّه -مِن قَبلِ إبراهيمَ ولوطٍ- أن يَنصُرَه اللهُ على قَومِه الكافرينَ، وأن يُهلِكَهم [747] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/319)، ((تفسير القرطبي)) (11/306)، ((تفسير ابن كثير)) (5/354). .
كما قال تعالى: قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ * فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء: 117- 118] .
وقال سُبحانَه: وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ [الصافات: 75] .
وقال عزَّ وجلَّ: فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [القمر: 10].
وقال سُبحانَه: وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا [نوح: 26] .
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ.
أي: فاستجَبْنا لنوحٍ دُعاءَه، فأغرَقْنا قَومَه الكافرينَ، ونجَّيناه معَ أهلِه المؤمِنينَ مِن الغَمِّ الشَّديدِ [748] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/319)، ((تفسير القرطبي)) (11/306)، ((تفسير السعدي)) (ص: 527). قيل: المرادُ بالكربِ العظيمِ: الطوفانُ الذي أغرقَ قومَ نوحٍ. وممن قال بذلك: ابنُ جريرٍ، والقرطبيُّ، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/319)، ((تفسير القرطبي)) (11/306)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/113). وممن قال بنحو هذا القولِ مِن السلفِ: السُّدِّي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/560). قال ابن عاشور: (الكَربُ العَظيمُ: هو الطوفانُ. والكربُ: شِدَّةُ حُزنِ النَّفسِ بسَبَبِ خَوفٍ أو حُزنٍ. ووجهُ كَونِ الطوفانِ كَربًا عَظيمًا: أنَّه يَهولُ النَّاسَ عندَ ابتدائِه وعندَ مَدِّه، ولا يزال لاحِقًا بمواقِعِ هُروبِهم حتى يَعُمَّهم، فيَبقَوا زمنًا يذوقونَ آلامَ الخَوفِ فالغَرقِ، وهم يَغرَقونَ ويَطفُونَ حتى يموتوا بانحباسِ التنَفُّسِ، وفي ذلك كُلِّه كَربٌ مُتكَرِّرٌ؛ فلذلك وُصِفَ بالعَظيمِ). ((تفسير ابن عاشور)) (17/113). وقيل معنى قوله: مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ أي: مِن الشدَّةِ والتكذيبِ والأذَى. وممن قال بذلك: ابنُ كثيرٍ. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/354). وممَّن جمع بين القولين: الزمخشريُّ، والرسعني، والعليمي. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/128)، ((تفسير الرسعني)) (4/642)، ((تفسير العليمي)) (4/375). وممن قال مِن السلفِ: إن المرادُ بالكربِ العظيمِ: الغرقُ وتكذيبُ قومِه: ابنُ عباس. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (3/202). .
وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77).
وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا.
أي: ونجَّينا نوحًا وحمَيناه مِن قَومِه الذين كذَّبوا بحُجَجِنا الدَّالَّةِ على رِسالتِه [749] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/319)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 427). وقال مقاتلُ بنُ سليمان: (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا يعني: كذَّبوا بنزولِ العذابِ عليهم في الدُّنيا). ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/87). ، فلا ينالونَه بسوءٍ [750] يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (3/245)، ((تفسير ابن كثير)) (5/354)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/113). .
إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ.
أي: نصَرْنا نوحًا، وأهلَكْنا قَومَه؛ لأنَّهم كانوا قومًا يُسيئُونَ أعمالَهم بالشِّركِ والكُفرِ، وتَكذيبِ الرَّسولِ، ومَعصيةِ اللهِ، فأغرَقْناهم كُلَّهم؛ كبيرَهم وصَغيَرهم [751] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/319)، ((تفسير القرطبي)) (11/307)، ((تفسير ابن كثير)) (5/354)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/114). .
كما قال تعالى: فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ [الأعراف: 64] .
وقال سُبحانَه: وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ [الذاريات: 46].
1- في قوله تعالى: وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ أنَّ النَّجاةَ مِن الشَّرِّ لا تستلزمُ حصولَه! بل تستلزمُ انعقادَ سببِه، فمَن طلَبه أعداؤُه ليُهلِكوه ولم يتمكَّنوا منه؛ يُقالُ فيه: «نجَّاه الله منهم»؛ ومعلومٌ أنَّ نوحًا لم يغرَقْ ثمَّ خُلِّص! بل نُجِّي مِن الغرقِ الذي أهلَك الله به غيرَه [752] يُنظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيمية (7/50). .
2- مِن الأدلةِ على وجودِ الله: الحِسُّ، ومِن ذلك ما يُشاهَدُ ويُسمَعُ مِن إجابةِ الدَّاعينَ، وغَوْثِ المكْروبينَ؛ ما يدلُّ دلالةً حِسِّيَّةً قاطعةً على وجودِه تعالى، ومِن ذلك قولُه تعالى: وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ، وما زالتْ إجابةُ الدَّاعينَ أمرًا مشهودًا إلى يومِنا هذا لمَن صدَق اللُّجوءَ إلى الله تعالى، وأتَى بشرائطِ الإجابةِ [753] يُنظر: ((شرح ثلاثة الأصول)) لابن عثيمين (ص: 82). .
3- في قولِه تعالى: فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ سؤالٌ؛ أنَّ الآيةَ الكريمةَ ذُكِر فيها أنَّ نوحًا وأهلَ بيتِه قد نَجَوْا مِن الفيضانِ، ولكنْ في قولِه تعالى: وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ إلى قولِه: وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ [هود: 42، 43] فيه أنَّ أحدَ أولادِ نوحٍ قد غرِقَ؟
الجواب: أنَّه لا تناقضَ؛ لأنَّ ابنَ نوحٍ لم يكُنْ مِن أهلِه، كما قال تعالى لنوحٍ لمَّا سألَه عن ابنِه: يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ [754] يُنظر: ((دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم)) للمطيري (ص: 309). [هود: 46].
4- في قولِه تعالى: وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أنَّ الانتقامَ يُسمَّى نصرةً وانتصارًا [755] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (3/495). .
1- قولُه تعالى: وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ عُطِفَ وَنُوحًا على (لُوطًا)، أي: آتينَا نُوحًا حُكْمًا وعِلْمًا؛ فحُذِفَ المفعولُ الثَّاني لـ (آتينَا)؛ لدَلالةِ ما قبْلَه عليه، أي: آتيناهُ النُّبوَّةَ حينَ نادانَا [756] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/113). .
- قولُه: وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فائدةُ ذِكْرِ هذه القَبْلِيَّةِ التَّنبيهُ على أنَّ نَصْرَ اللهِ أولياءَه سُنَّتُه المُرادةُ له؛ تَعريضًا بالتَّهديدِ للمُشرِكين المُعانِدين؛ لِيتذكَّروا أنَّه لم تَشُذَّ عن نَصْرِ اللهِ رُسَلَه شاذَّةٌ ولا فاذَّةٌ [757] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/113). .
- قولُه: مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ فيه وَصْفُ الكرْبِ بالعظيمِ؛ تَهويلًا [758] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/113). .
2- قوله تعالى: وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ
- قولُه: وَنَصَرْنَاهُ في إسنادِ الانتِصارِ إليه تعالى تَهويلٌ لأمْرِ النَّصرِ [759] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/78). .
- قولُه: وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا عُدِّيَ (نَصَرْنَاهُ) بحَرْفِ (مِن)؛ لِتَضمينِه معنى المَنْعِ والحِمايةِ، وهو أبلَغُ مِن تَعديَتِه بـ (على)؛ لأنَّه يدُلُّ على نَصْرٍ قَوِيٍّ تَحصُلُ به المَنَعةُ والحِمايةُ، فلا يَنالُهُ العدُوُّ بشَيءٍ. وأمَّا نَصْرُه عليه فلا يدُلُّ إلَّا على المُدافَعةِ والمَعونةِ. ووَصْفُ القومِ بالموصولِ؛ للإيماءِ إلى عِلَّةِ الغرَقِ الَّذي سيُذْكَرُ بعْدُ [760] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/113). . وقيل: لَمَّا كان جُلُّ نُصرَتِه النَّجاةَ، وكانت غَلَبةُ قَومِه بغيرِ يَدَيه بل بأمرٍ أجنبيٍّ منه؛ حَسُنَ أن يكونَ (نَصَرْنَاهُ مِنْ) ولا يتمَكَّنُ هنا (على) كما يتمَكَّنُ في أمرِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مع قَومِه [761] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/90). .
- قولُه: إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ تَعليلٌ لِمَا قبْلَه، وتَمهيدٌ لِمَا بعْدَه من قولِه تعالى: فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ؛ فإنَّ الإصرارَ على تَكذيبِ الحقِّ، والانهماكَ في الشَّرِّ والفسادِ ممَّا يُوجِبُ الإهلاكَ قطْعًا [762] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/78)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/113). .
- وإضافةُ (قَومٍ) إلى (السَّوءِ) فيه إشارةٌ إلى أنَّهم عُرِفوا به [763] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/114). .
- وأَجْمَعِينَ حالٌ مِن ضَميرِ النَّصبِ في فَأَغْرَقْنَاهُمْ؛ لإفادةِ أنَّه لم يَنْجُ مِن الغرَقِ أحَدٌ مِن القومِ ولو كان قَريبًا مِن نُوحٍ؛ فإنَّ اللهَ قد أغرَقَ ابنَ نُوحٍ. وفي هذا تَهديدٌ لقُريشٍ؛ لئلَّا يَتَّكِلوا على قَرابتِهم بمحمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ [764] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/114). .