المَسألةُ السَّابعةُ: هَل يَجوزُ أن يَكونَ الوَصفُ المُعَلَّلُ به حُكمًا شَرعيًّا؟
يَجوزُ تَعليلُ الحُكمِ الشَّرعيِّ بالحُكمِ الشَّرعيِّ. وهو قَولُ جُمهورِ الأُصوليِّينَ
[1439] يُنظر: ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (8/3509)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (3/347)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (6/2538)، ((البحر المحيط)) للزركشي (7/209). ، فقد قال به عامَّةُ الحَنَفيَّةِ
[1440] يُنظر: ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (3/187)، ((تيسير التحرير)) لأمير بادشاه (4/34)، ((فواتح الرحموت)) لللكنوي (2/341). ، والشَّافِعيَّةِ
[1441] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (7/209)؛ ولذلك قاسَ الشَّافِعيُّ رَقَبةَ الظِّهارِ على الرَّقَبةِ في القَتلِ في أنَّ الإيمانَ شَرطٌ فيهما، بأنَّ كُلَّ واحِدةٍ كَفَّارةٌ بالعِتقِ. ، والحَنابِلةِ
[1442] يُنظر: ((المسودة)) لآل تيمية (ص: 411)، ((أصول الفقه)) لابن مفلح (3/1245)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (4/92). .
مِثالُ ذلك: قياسُ الوُضوءِ على التَّيَمُّمِ في وُجوبِ النِّيَّةِ؛ لأنَّهما طُهرانِ عن حَدَثٍ
[1443] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (7/210). .
أدِلَّةُ جَوازِ التَّعليلِ بالحُكمِ الشَّرعيِّ:1- أنَّه قد وقَعَ في الشَّريعةِ تَعليلُ الحُكمِ الشَّرعيِّ بالحُكمِ الشَّرعيِّ، والوُقوعُ دَليلُ الجَوازِ.
ومِن ذلك أنَّ امرَأةً مِن جُهَينةَ جاءَت إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقالت: إنَّ أُمِّي نَذَرَت أن تَحُجَّ فماتَت قَبل أن تَحُجَّ، أفأحُجُّ عنها؟ قال:
((نَعَم، حُجِّي عنها، أرَأيتِ لو كان على أُمِّكِ دَينٌ أكُنتِ قاضيَتَه؟ اقضوا حَقَّ اللهِ؛ فاللَّهُ أحَقُّ بالوَفاءِ)) [1444] أخرجه البخاري (7315) دونَ قَولِه "مِن جُهَينةَ" من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما. .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد بَيَّنَ لها حُكمًا بالاستِدلالِ بحُكمٍ آخَرَ؛ حَيثُ نَبَّهَ على أنَّ العِلَّةَ لصِحَّةِ القَضاءِ كَونُ الشَّيءِ صارَ دَينًا في الذِّمَّةِ؛ فقد قاسَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إجزاءَ الحَجِّ عن الغَيرِ على إجزاءِ قَضاءِ الدَّينِ عنه؛ بعِلَّةِ كَونِ المَقضيِّ دَينًا، والدَّينُ حُكمٌ شَرعيٌّ؛ لأنَّه لُزومُ أمرٍ في الذِّمَّةِ، فإنَّ الدَّينَ عِبارةٌ عن الوُجوبِ في الذِّمَّةِ، وهذا اللُّزومُ مُعتَبَرٌ شَرعًا، مُتَرَتِّبٌ على خِطابِ اللَّهِ تعالى المُتَعَلِّقِ بأداءِ الحَقِّ، وذلك دَليلٌ على جَوازِ التَّعليلِ بالحُكمِ
[1445] يُنظر: ((أصول السرخسي)) (2/175)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (3/347)، ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (5/2112). .
2- أنَّ الحُكمَ قد يَدورُ مَعَ الحُكمِ الآخَرِ وجودًا وعَدَمًا، فتَثبُتُ عِلِّيَّتُه بذلك، كما ثَبَتَت عِلِّيَّةُ غَيرِه؛ لأنَّ الدَّورانَ يُفيدُ ظَنَّ العِلِّيَّةِ؛ فإنَّه طَريقٌ مِن طُرُقِ إثباتِ العِلَّةِ مُطلَقًا، أي: مِن غَيرِ فَرقٍ بَينَ عِلَّةٍ وعِلَّةٍ.
فمَثَلًا: جَوازُ رَهنِ المُشاعِ يوجَدُ مَعَ جَوازِ بَيعِه وجودًا وعَدَمًا، فما صَحَّ بَيعُه صَحَّ رَهنُه، وما لم يَصِحَّ بَيعُه لا يَصِحُّ رَهنُه، فيَكونُ جَوازُ بَيعِ المُشاعِ عِلَّةً لجَوازِ رَهنِه
[1446] يُنظر: ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (8/3509)، ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (3/74)، ((البحر المحيط)) للزركشي (7/209)، ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (5/2111). .
3- أنَّه لا بُعدَ في أن يَجعَلَ الشَّارِعُ حُكمًا مُعَرِّفًا لحُكمٍ آخَرَ بأن يَقولَ مَثَلًا: إذا حَرَّمتُ كذا فاعلَموا أنِّي حَرَّمتُ كذا وكَذا، أو إذا أوجَبتُ كذا فاعلَموا أنِّي حَكَمتُ بكَذا وكَذا
[1447] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 408)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (3/347)، ((البحر المحيط)) للزركشي (7/209). .
أمثِلةٌ تَطبيقيَّةٌ:مِمَّا يَتَخَرَّجُ على هذه المَسألةِ مِن الفُروعِ ما يَلي:
1- ما سَبَقَ في قياسِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إجزاءَ الحَجِّ عن الغَيرِ على إجزاءِ قَضاءِ الدَّينِ عنه
[1448] لفظُه: عن ابنِ عبَّاسٍ ((أنَّ امرَأةً جاءَت إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقالت: إنَّ أُمِّي نَذَرَت أن تَحُجَّ فماتَت قَبلَ أن تَحُجَّ، أفأحُجُّ عنها؟ قال: نَعَم، حُجِّي عنها، أرَأيتِ لو كان على أُمِّكِ دَينٌ أكُنتِ قاضيَتَه؟ قالت: نَعَم، فقال: اقضوا اللَّهَ الذي له؛ فإنَّ اللَّهَ أحَقُّ بالوفاءِ)). أخرجه البخاري (7315). .
2- قياسُ القُبلةِ للصَّائِمِ على المَضمَضةِ في عَدَمِ إبطالِ الصَّومِ
[1449] يُنظر: ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (3/347). .
3- قياسُ زَكاةِ مالِ اليَتيمِ بزَكاةِ غَيرِه في أنَّه مالِكٌ تامُّ المِلكِ
[1450] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (7/210)، ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (5/2114). .
وقيل: إنَّه لا يَجوزُ تَعليلُ الحُكمِ الشَّرعيِّ بالحُكمِ الشَّرعيِّ، ويُشتَرَطُ في العِلَّةِ ألَّا تَكونَ حُكمًا شَرعيًّا. وهو قَولُ بَعضِ الأُصوليِّينَ
[1451] يُنظر: ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (3/347)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (6/2539)، ((التحصيل)) للأرموي (2/227). ، وهو وَجهٌ عِندَ الشَّافِعيَّةِ
[1452] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (7/210). .
وقيل بالتَّفصيلِ: فحُكمُ الأصلِ إمَّا أن يَكونَ حُكمًا تَكليفيًّا، أو بخِطابِ الوَضعِ والإخبارِ:
فإن كان ثابتًا بخِطابِ التَّكليفِ امتَنَعَ أن يَكونَ الحُكمُ الشَّرعيُّ عِلَّةً له.
وأمَّا إن كان حُكمُ الأصلِ ثابتًا بخِطابِ الوَضعِ والإخبارِ فلا بُدَّ أن يَكونَ الحُكمُ المُعَلَّلُ به باعِثًا على حُكمِ الأصلِ، إمَّا لدَفعِ مَفسَدةٍ لزِمَت مِن شَرعِ الحُكمِ المُعَلَّلِ به، وإمَّا لتَحصيلِ مَصلَحةٍ تَلزَمُ مِنه، فإن كان الأوَّلَ فيَمتَنِعُ أن يَكونَ الحُكمُ عِلَّةً، وإن كان الثَّاني فلا يَمتَنِعُ تَعليلُ الحُكمِ بالحُكمِ. وهو قَولُ الآمِديِّ
[1453] يُنظر: ((الإحكام)) (3/211). .