موسوعة أصول الفقه

الفَرعُ الثَّاني: القياسُ في المُقَدَّراتِ


المُرادُ مِن ذلك: أن يَرِدَ مِن الشَّارِعِ تَقديرٌ بعَدَدٍ في مَوضِعٍ يُمكِنُ فيه إدراكُ المَعنى الذي تَعلَّق به هذا المِقدارُ، ويوجَدُ هذا المَعنى في مَوقِعٍ آخَرَ، فهَل يَتَعَلَّقُ به ذلك التَّقديرُ كما تعَلَّق في المَوضِعِ الأوَّلِ [1686] يُنظر: ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (4/1934). ؟
مِثالُ ذلك: تَقديرُ النُّصُبِ في الزَّكاةِ، والمَواقيتِ في الصَّلاةِ، وتَقديرُ مُدَّةِ القَصرِ للمُسافِرِ، وتَقديرُ نِصابِ السَّرِقةِ، ومَقاديرُ الحُدودِ والكَفَّاراتِ، فهَل يُقاسُ عليها غَيرُها [1687] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (5/352)، ((التحقيق والبيان)) للأبياري (3/454)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (6/2253). ؟
حُكمُ إجراءِ القياسِ في المُقدَّراتِ:
يَجوزُ إثباتُ المُقدَّراتِ بالقياسِ إذا عُلمَت عِلَّتُها ولم يَمنَعْ مِنه مانِعٌ. وهو قَولُ مالِكٍ [1688] يُنظر: ((المقدمة)) لابن القصار (ص: 199). ، والشَّافِعيِّ [1689] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (5/349)، ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (4/402). ، وأحمَدَ [1690] يُنظر: ((التمهيد)) للكلوذاني (3/449)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/451). ، وهو مَذهَبُ المالِكيَّةِ [1691] يُنظر: ((المقدمة)) لابن القصار (ص: 199)، ((إحكام الفصول)) للباجي (2/628). ، والشَّافِعيَّةِ [1692] يُنظر: ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (2/107)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (7/3220). ، والحَنابِلةِ [1693] يُنظر: ((أصول الفقه)) لابن مفلح (3/1348)، ((المختصر)) لابن اللحام (ص: 151). ، وحَكاه ابنُ السُّبكيِّ عن أكثَرِ أهلِ العِلمِ [1694] يُنظر: ((رفع الحاجب)) (4/402). .
أدِلَّةُ جَوازِ القياسِ في المُقدَّراتِ:
1- عُمومُ الأدِلَّةِ السَّابقةِ في حُجِّيَّةِ القياسِ؛ فهيَ تَدُلُّ على جَوازِ القياسِ في الأحكامِ الشَّرعيَّةِ مُطلَقًا مِن غَيرِ فَصلٍ بَينَ بابٍ وبابٍ؛ فالتَّخصيصُ ببابٍ دونَ بابٍ مُخالِفٌ لإطلاقِ تلك الأدِلَّةِ، فكان باطِلًا [1695] يُنظر: ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (7/3220)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (6/2250). .
ومِن هذه العُموماتِ: قَولُ اللهِ تعالى: فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ [الحشر: 2] ، فأمَرَ بالاعتِبارِ عُمومًا، ولم يُفرِّقْ بَينَ الأحكامِ في المُقدَّراتِ وغَيرِها، فهو على عُمومِه في جَميعِها حتَّى يَقومَ دَليلٌ يَمنَعُ مِنه، ولم يَقُمْ دَليلٌ يمنَعُ مِنه، فهو جائِزٌ [1696] يُنظر: ((المقدمة)) لابن القصار (ص: 200). .
2- إجماعُ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم على القياسِ مِن غَيرِ فرقٍ بَينَ بابٍ وبابٍ، حَكاه الطُّوفيُّ [1697] قال: (... ما سَبَقَ مِن أنَّ إجماعَ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم على القياسِ مِن غَيرِ فَرقٍ). ((شرح مختصر الروضة)) (3/451). .
3- أنَّ المُقدَّراتِ يَجوزُ إثباتُها بخَبَرِ الواحِدِ، فكذلك يَجوزُ إثباتُها بالقياسِ كسائِرِ الأحكامِ [1698] يُنظر: ((اللمع)) للشيرازي (ص: 98). .
أمثِلةٌ تَطبيقيَّةٌ للمَسألةِ:
يَتَخَرَّجُ على هذه المَسألةِ فُروعٌ فِقهيَّةٌ لدى بَعضِ الفُقَهاءِ، ومِنها:
1- تَقديرُ الدَّلوِ والبِئرِ؛ حَيثُ فرَّقَ الفُقَهاءُ في سُقوطِ الدَّوابِّ إذا ماتَت في الآبارِ، فقالوا: إذا ماتَت الدَّجاجةُ في البئرِ تُنزَحُ كذا، وذَكَروا دِلاءً مُعَيَّنةً، وفي الفأرةِ كذا، وليسَ هذا التَّقديرُ عن نَصٍّ ولا إجماعٍ ولا أثَرٍ، فيَكونُ عن قياسٍ، ولو صَحَّ في البَعضِ مِنها أثَرٌ فلا شَكَّ أنَّ ذلك لم يَصِحَّ في جَميعِ مَسائِلِها، فيَكونُ القَولُ بذلك في البَعضِ الآخَرِ قياسًا [1699] يُنظر: ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (6/2253)، ((التمهيد)) للإسنوي (ص: 467). .
2- تَقديرُ أقَلِّ الحَيضِ وأكثَرِه، وأقَلِّ الطُّهرِ وأكثَرِه، وأقَلِّ السَّفَرِ وأكثَرِه [1700] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (16/152). .
3- تَقديرُ المَسحِ للرَّأسِ بثَلاثةِ أصابعَ قياسًا على مَسحِ الخُفِّ، وتَقديرُ الخَرقِ الذي يُعفى عنه في الخُفِّ بثَلاثةِ أصابعَ قياسًا على مَسحِه [1701] يُنظر: ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (4/1935). .
وقيل: لا يَجوزُ القياسُ في المُقدَّراتِ. حَكاه الكَرخيُّ عن أبي حَنيفةَ [1702] يُنظر: ((بذل النظر)) للأسمندي (ص: 623). ، وهو مَذهَبُ الحَنَفيَّةِ [1703] يُنظر: ((جامع الأصول)) لركن الدين السمرقندي (2/279)، ((التلويح)) للتفتازاني (2/109)، ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (3/241). ، ووجهٌ عِندَ الشَّافِعيَّةِ [1704] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (16/152). .

انظر أيضا: