موسوعة أصول الفقه

الفَرعُ السَّادِسُ: القياسُ في العِباداتِ وما يَتَعَلَّقُ بها


المُرادُ بالعِباداتِ: أُصولُ العِباداتِ، وهيَ أعظَمُ العِباداتِ وأدخَلُها في التَّعَبُّدِ، كالصَّلواتِ، والزَّكَواتِ، والصِّيامِ، والحَجِّ. بخِلافِ الكَفَّاراتِ [1758] يُنظر: ((الآيات البينات)) للعبادي (4/8). .
ومَثَّل الأُصوليُّونَ له بالإيماءِ في الصَّلاةِ للعاجِزِ عن الإتيانِ بها؛ قياسًا على صَلاةِ القاعِدِ بالنِّسبةِ للعاجِزِ عن القيامِ، بجامِعِ العَجزِ عن الإتيانِ بها [1759] يُنظر: ((التحبير)) للمرداوي (7/3515)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (4/220). .
حُكمُ إجراءِ القياسِ في العِباداتِ وما يَتَعَلَّقُ بها:
يَجوزُ القياسُ في العِباداتِ إذا ظَهَرَت العِلَّةُ فيها. وهو مَذهَبُ المالكيَّةِ [1760] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 415)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (5/457). والقياسُ في العِباداتِ عِندَ المالِكيَّةِ قَليلٌ جِدًّا. قال ابنُ العَرَبيِّ: (نِطاقُ القياسِ في العِباداتِ ضَيِّقٌ، وإنَّما مَيدانُه المُعامَلاتُ والمُناكَحاتُ وسائِرُ أحكامِ الشَّرعيَّاتِ، والعِباداتُ مَوقوفةٌ على النَّصِّ). ((المَحصول)) (ص: 95). وقال ابنُ عاشورٍ: (... ولذلك كان دُخولُ القياسِ في العِبادات قَليلًا نادِرًا، وكان مُعظَمُه داخِلًا في المُعامَلاتِ). ((مقاصد الشريعة)) (3/389). ، والشَّافِعيَّةِ [1761] يُنظر: ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (7/3229)، ((تشنيف المسامع)) للزركشي (3/164). ، والحَنابِلةِ [1762] يُنظر: ((المختصر)) لابن اللحام (ص: 151). .
وشَرطُه: ألَّا يُخالِفَ القياسُ نَصًّا أو إجماعًا، وإلَّا فلا يَصِحُّ القياسُ، فلا يَجوزُ قياسُ الصَّلواتِ بَعضِها على بَعضٍ في عَدَدِ الرَّكَعاتِ مَثَلًا [1763] يُنظر: ((التمهيد)) للكلوذاني (3/440). .
قال الغَزاليُّ: (رَأى الشَّافِعيُّ فيه الكَفَّ عن القياسِ في العِباداتِ، إلَّا إذا ظَهَرَ المَعنى ظُهورًا لا يبقى مَعَه رَيبٌ؛ ولذلك لم يَقِسْ على التَّكبيرِ والتَّسليمِ والفاتِحةِ والرُّكوعِ والسُّجودِ غَيرَها، بَل لم يَقِسْ على الماءِ في الطَّهاراتِ غَيرَه، ولم يَقِسِ الأبدالَ والقِيَمَ في الزَّكواتِ على المنصوصاتِ) [1764] يُنظر: ((شفاء الغليل)) (ص: 203). .
أدِلَّةُ جَوازِ القياسِ في العِباداتِ وما يَتَعَلَّقُ بها إذا ظَهَرَت العِلَّةُ فيها:
1- عُمومُ أدِلَّةِ حُجِّيَّةِ القياسِ؛ فقد دَلَّت على جَوازِ القياسِ في جَميعِ الأحكامِ الفِقهيَّةِ، ولم تُفَرِّقْ بَينَ ما يَخُصُّ العِباداتِ أو المُعامَلاتِ، والمَرجِعُ في ذلك هو مَعرِفةُ العِلَّةِ التي مِن أجلِها شُرِعَ الحُكمُ، فمَتى ما عُرِفت في الحُكمِ المَنصوصِ على حُكمِه، ووُجِدَت في الفرعِ، فإنَّه يَصِحُّ القياسُ [1765] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (5/348)، ((تشنيف المسامع)) للزركشي (3/164). .
2- أنَّ أُصولَ العِباداتِ أحكامٌ شَرعيَّةٌ، فيَجوزُ إثباتُها بالقياسِ كسائِرِ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ؛ بجامِعِ ما يَشتَرِكانِ فيه مِن المَصالِحِ النَّاشِئةِ مِن القياسِ، تَكثيرًا لتلك المَصالِحِ [1766] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 415)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (7/3229)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (5/457). .
أمثِلةٌ تَطبيقيَّةٌ للمَسألةِ:
يَتَخَرَّجُ على هذه المَسألةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، ومِنها:
1- الجَمعُ بَينَ الصَّلاتَينِ في غَيرِ عَرَفةَ ومُزدَلِفةَ:
أجمَعَ الفُقَهاءُ على أنَّ الجَمعَ بَينَ الظُّهرِ والعَصرِ في وقتِ الظُّهرِ بعَرَفةَ سُنَّةٌ، وبَينَ المَغرِبِ والعِشاءِ بالمُزدَلفةِ أيضًا في وَقتِ العِشاءِ سُنَّةٌ أيضًا. واختَلفوا في الجَمعِ في غَيرِ هَذَينِ المَكانينِ: فأجازَه الجُمهورُ على اختِلافٍ بَينَهم في المَواضِعِ التي يَجوزُ فيها مِن التي لا يَجوزُ، ومَنَعَه أبو حَنيفةَ وأصحابُه بإطلاقٍ.
ومِن أسبابِ اختِلافِهم: اختِلافُهم في إجازةِ القياسِ في ذلك، وهو أن يُلحَقَ سائِرُ الصَّلواتِ في السَّفرِ بصَلاةِ عَرَفةَ والمُزدَلفةِ، أي: أن يُجازَ الجَمعُ قياسًا على تلك، فيُقالَ مَثَلًا: صَلاةٌ وجَبَت في سَفَرٍ، فجازَ أن تُجمَعَ. أصلُه جَمعُ النَّاسِ بعَرَفةَ والمُزدَلِفةِ [1767] يُنظر: ((بداية المجتهد)) لابن رشد (1/181). .
2- المَسحُ على الجَورَبَينِ:
اختَلف الفُقَهاءُ في حُكمِ المَسحِ على الجَورَبَينِ، ومِن أسبابِ اختِلافِهم: اختِلافُهم في أنَّه هَل يُقاسُ على الخُفِّ غَيرُه أم هيَ عِبادةٌ لا يُقاسُ عليها ولا يُتَعَدَّى بها مَحَلُّها؟ [1768] يُنظر: ((بداية المجتهد)) لابن رشد (1/26). .
فاستَدَلُّوا على الجَوازِ بقياسِ الجَورَبِ على الخُفِّ؛ فإنَّه لا يَظهَرُ بَينَهما فَرقٌ مُؤَثِّرٌ، وإنَّما مَسَحوا على الجَورَبِ؛ لأنَّه عِندَهم بمَنزِلةِ الخُفِّ؛ إذ يَقومُ مَقامَ الخُفِّ في رِجلِ الرَّجُلِ، ويَذهَبُ فيه ويَجيءُ [1769] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (1/375). .
3- الصَّلاةُ للزَّلزَلةِ والرِّيحِ والظُّلمةِ:
استَحَبَّ بَعضُ الفُقَهاءِ الصَّلاةَ للزَّلزَلةِ، والرِّيحِ الشَّديدةِ، والظُّلمةِ، وغَيرِ ذلك مِن الآياتِ؛ قياسًا على كُسوفِ القَمَرِ والشَّمسِ؛ لنَصِّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ على العِلَّةِ في ذلك، وهو كونُها آيةً [1770] لفظُه: عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ أنَّه كان يُخبرُ عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: ((إنَّ الشَّمسَ والقَمَرَ لا يَخسِفانِ لمَوتِ أحَدٍ ولا لحَياتِه، ولكِنَّهما آيةٌ مِن آياتِ اللهِ، فإذا رَأيتُموهما فصَلُّوا)) أخرجه البخاري (1042)، ومسلم (914) واللَّفظُ له. ، وهو مِن أقوى أجناسِ القياسِ عِندَهم؛ لأنَّه قياسُ العِلَّةِ التي نُصَّ عليها [1771] يُنظر: ((بداية المجتهد)) لابن رشد (1/224). .
وقيل: لا يَجوزُ القياسُ في العِباداتِ. وهو مَذهَبُ بَعضِ الحَنَفيَّةِ [1772] يُنظر: ((بذل النظر)) للأسمندي (ص: 623)، ((كشف الأسرار)) للنسفي (2/210). ، وبَعضِ المالكيَّةِ [1773] يُنظر: ((المحصول)) لابن العربي (ص: 95). ، وحَكاه الكَرخيُّ عن أبي حَنيفةَ [1774] يُنظر: ((بذل النظر)) للأسمندي (ص: 623). .

انظر أيضا: