موسوعة أصول الفقه

الفَرعُ السَّابعُ: قادِحُ فَسادِ الاعتِبارِ


وهو أن يَكونَ القياسُ صحيحًا في مُقدِّماتِه، لكِن يَكونُ مُخالفًا للنَّصِّ في مُقتَضاه [2056] يُنظر: ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (3/181). .
شَرحُ التَّعريفِ المُختارِ:
جُملةُ: "صحيحًا في مُقدِّماتِه" أي: تَكونُ مُقدِّماتُ القياسِ صَحيحةً، واعتِبارُه فاسِدًا لمُخالفتِه النَّصَّ [2057] يُنظر: ((الردود والنقود)) للبابرتي (2/593). .
والمُرادُ مِن النَّصِّ: الكِتابُ أو السُّنَّةُ، لا النَّصُّ الذي في مُقابَلةِ الظَّاهِرِ [2058] يُنظر: ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (4/160)، ((تحفة المسؤول)) للرهوني (4/160). .
ومَعناه: أن يُبَيِّنَ المُعتَرِضُ أنَّ قياسَ المُستَدِلِّ لا يُمكِنُ اعتِبارُه في بناءِ الحُكمِ عليه، لا لفسادٍ في وضعِ القياسِ وتَركيبِه، ولكِنَّه فاسِدُ الاعتِبارِ لعَدَمِ صِحَّةِ الاحتِجاجِ به مَعَ النَّصِّ المُخالِفِ له؛ حَيثُ إنَّ قياسَ المُستَدِلِّ قد ورَدَ مُخالفًا لدَليلٍ مِن الكِتابِ أو السُّنَّةِ أو الإجماعِ، فكان اعتِبارُ القياسِ في مُقابَلةِ النَّصِّ باطِلًا [2059] يُنظر: ((روضة الناظر)) لابن قدامة (2/303)، ((الإحكام)) للآمدي (4/72)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (8/3578)، ((شرح العضد على مختصر ابن الحاجب)) (3/480). .
فحاصِلُ فَسادِ الاعتِبارِ: مَنعُ المُعتَرِضِ مِن تَمَكُّنِ المُستَدِلِّ مِن القياسِ مُطلقًا، كأنَّه يَدَّعي أنَّ القياسَ لا يُعتَبَرُ في تلك المَسألةِ [2060] يُنظر: ((تيسير الوصول)) لابن إمام الكاملية (6/25). .
وسُمِّي هذا بفسادِ الاعتِبارِ؛ لأنَّ فسادَه مِن جِهةِ الاعتِبارِ فقَط؛ لكَونِه صحيحًا في مُقدِّماتِه؛ فإنَّ اعتِبارَ القياسِ مَعَ النَّصِّ والإجماعِ اعتِبارٌ له مَعَ دَليلٍ أقوى مِنه، وهذا اعتِبارٌ فاسِدٌ؛ لأنَّه وَضعٌ له في غَيرِ مَوضِعِه [2061] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/467)، ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (3/181)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (5/2058). .
مِثالُ ما خالف الكِتابَ: قَولُ المُستَدِلِّ: صَومُ رَمَضانَ مَفروضٌ، فاشتُرِطَ له تَبييتُ النِّيَّةِ، فلا يَصِحُّ بنيَّةٍ مِن النَّهارِ، قياسًا على صَومِ القَضاءِ.
فيَقولُ المُعتَرِضُ: هذا القياسُ فاسِدُ الاعتِبارِ؛ لأنَّه يُخالفُ نَصًّا مِن القُرآنِ، وهو قَولُه تعالى: وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ [الأحزاب: 35] إلى آخِرِ الآيةِ؛ فإنَّه يَدُلُّ على أنَّ كُلَّ مَن صامَ يحصُلُ له الأجرُ العَظيمُ، وذلك مُستَلزِمٌ للصِّحَّةِ، وهذا قد صامَ، فيَكونُ صَومُه صحيحًا؛ لأنَّ اللَّهَ تعالى قد أطلقَ الصِّيامَ، فيَكونُ صحيحًا دونَ تَبييتِ النِّيَّةِ [2062] يُنظر: ((تشنيف المسامع)) للزركشي (3/374)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (5/2057). .
ومِثالُ ما خالف السُّنَّةَ: قَولُ المُستَدِلِّ: لا يَصِحُّ السَّلَمُ في الحَيَوانِ؛ لأنَّه عَقدٌ يَشتَمِلُ على الغَرَرِ، فلا يَصِحُّ؛ قياسًا على السَّلَمِ في المُختَلِطاتِ.
فيَقولُ المُعتَرِضُ: هذا القياسُ فاسِدُ الاعتِبارِ؛ لأنَّه قد خالف حَديثًا ثابتًا عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهو أنَّه رَخَّصَ في السَّلَمِ [2063] والتَّرخيصُ في السَّلَمِ جاءَ في الصَّحيحِ: عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((قدِمَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المَدينةَ وهم يُسلِفونَ بالتَّمرِ السَّنَتَينِ والثَّلاثَ، فقال: مَن أسلَف في شَيءٍ ففي كَيلٍ مَعلومٍ، ووزنٍ مَعلومٍ، إلى أجَلٍ مَعلومٍ)) أخرجه البخاري (2240) واللَّفظُ له، ومسلم (1604). ، فلَفظُ السَّلَمِ عامٌّ في جَميعِ ما يُمكِنُ أن يَكونَ فيه [2064] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/467)، ((تشنيف المسامع)) للزركشي (3/375). .
ومِثالُ ما خالف الإجماعَ: قَولُ المُستَدِلِّ: لا يَجوزُ للرَّجُلِ أن يُغَسِّلَ زَوجَتَه المُتَوفَّاةَ؛ لأنَّ عَقدَ النِّكاحِ الذي بَينَه وبَينَها قد انقَطَعَ بالمَوتِ، فلا يَجوزُ نَظَرُه إليها؛ قياسًا على الأجنَبيَّةِ.
فيَقولُ المُعتَرِضُ: هذا القياسُ فاسِدُ الاعتِبارِ؛ لأنَّه قد خالف الإجماعَ السُّكوتيَّ، وهو أنَّ عليًّا رَضِيَ اللهُ عنه قد غَسَّل زَوجَتَه فاطِمةَ بَعدَ وفاتِها [2065] أخرجه من طرقٍ: الشافعي في ((المسند)) (571)، والدارقطني (2/447)، والبيهقي (6740)، ولفظُ البَيهَقيِّ: عن أسماءَ بنتِ عُمَيسٍ أنَّ فاطِمةَ بنتَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أوصَت أن يُغَسِّلَها زَوجُها عليُّ بنُ أبي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، فغَسَّلها هو وأسماءُ بنتُ عُمَيسٍ. قال العراقي في ((طرح التثريب)) (1/150): إسنادُه مُنقَطِعٌ. ، ولم يُنكِرْ عليه أحَدٌ مِن الصَّحابةِ؛ فكان إجماعًا على جَوازِ ذلك [2066] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/468)، ((تشنيف المسامع)) للزركشي (3/375). .
ومِن الأدِلَّةِ على أنَّ الاستِدلالَ بقياسٍ يُخالفُ النَّصَّ فاسِدُ الاعتِبارِ:
إجماعُ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم؛ فإنَّهم كانوا لا يَصيرونَ إلى قياسٍ مَعَ ظَفَرِهم بالخَبَرِ؛ فقد كانوا يَجتَمِعونَ لطَلَبِ الأخبارِ، ثُمَّ بَعدَ حُصولِ اليَأسِ كانوا يَعدِلونَ إلى القياسِ [2067] يُنظر: ((روضة الناظر)) لابن قدامة (2/304)، ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (4/161). .
كما أنَّ الظَّنَّ المُستَفادَ مِن كلامِ صاحِبِ الشَّرعِ أقوى مِن الظَّنِّ المُستَفادِ مِن القياسِ والرَّأيِ [2068] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/469). .
كيفيَّةُ الجَوابِ عن قادِحِ فَسادِ الاعتِبارِ:
إذا استَدَلَّ المُستَدِلُّ على حُكمِ حادِثةٍ بالقياسِ، ثُمَّ اعتَرَضَ عليه المُعتَرِضُ بأنَّ هذا القياسَ فاسِدُ الاعتِبارِ -أي لا يُعتَبَرُ- لأنَّه مُخالِفٌ لنَصٍّ أو إجماعٍ، فإنَّ المُستَدِلَّ يُجيبُ عن ذلك مِن وجهَينِ:
الوَجهُ الأوَّلُ: أن يُبَيِّنَ عَدَمَ المُعارَضةِ، بمَنعِ النَّصِّ الذي ادَّعى أنَّ القياسَ على خِلافِه؛ إمَّا مَنعَ دَلالةٍ، أو مَنعَ صِحَّةٍ [2069] يُنظر: ((روضة الناظر)) لابن قدامة (2/304)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/468). .
وذلك إمَّا بالطَّعنِ في سَنَدِ النَّصِّ.
وإمَّا بمَنعِ ظُهورِه فيما يَدَّعيه، وإمَّا بأنَّه مُؤَوَّلٌ -أي: أُريدَ غَيرُ ظاهِرِه- وإمَّا بالمُعارَضةِ بنَصٍّ آخَرَ مِثلِه حتَّى يَتَساقَطا، فيَسلَمَ القياسُ [2070] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (4/72)، ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (3/181)، ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (4/160)، ((تحفة المسؤول)) للرهوني (4/160)، ((فصول البدائع)) للفناري (2/385). ، وتَفصيلُ ذلك بإيرادِ المُناقَشاتِ التي تَرِدُ على الاستِدلالِ بالكِتابِ أو السُّنَّةِ أو الإجماعِ ابتِداءً [2071] يُنظر: ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (5/2250). ، وذلك بالتَّفصيلِ التَّالي:
أوَّلًا: إذا قال المُعتَرِضُ: إنَّ قياسَك أيُّها المُستَدِلُّ فاسِدُ الاعتِبارِ؛ لأنَّه خالف نَصًّا مِن الكِتابِ، فإنَّ المُستَدِلَّ يورِدُ المُناقَشاتِ التي تَرِدُ على الاستِدلالِ بالكِتابِ، كما لو كان الاستِدلالُ بالكِتابِ مُبتَدَأً، فيَقولُ مَثَلًا: إنَّ الآيةَ التي زَعَمتَ أنَّها تُعارِضُ قياسي مَنسوخةٌ.
أو يَقولُ: إنَّ الآيةَ التي أورَدتَها أيُّها المُعتَرِضُ لها قِراءةٌ أُخرى تُوافِقُ قياسي.
أو يَقومُ المُستَدِلُّ بتَأويلِ الآيةِ بأن يَحمِلَها على مَعنًى غَيرِ ظاهرٍ بدَليلٍ يَقتَضي هذا الحَملَ، أو يَقولُ: إنَّ الآيةَ دَلَّت بعُمومٍ قد خُصِّصَ، وهو لا يَرى الاستِدلالَ بالعُمومِ الذي خُصِّصَ، أو يُبَيِّنُ -أي المُستَدِلُّ- أنَّ هذه الآيةَ مُعارَضةٌ بآيةٍ أُخرى هي كذا، فتَعارَضَت الآيَتانِ، فلم يَتِمَّ الاستِدلالُ بهما، وسُلِّمَ القياسُ، وهكذا إلى آخِرِ الاعتِراضاتِ والمُناقَشاتِ التي يُمكِنُ أن تُوجَّهَ إلى الاستِدلالِ بالكِتابِ [2072] يُنظر: ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (5/2250). .
مِثالُ ذلك: قَولُ المُستَدِلِّ: صَومُ رَمَضانَ مَفروضٌ، فاشتُرِطَ له تَبييتُ النِّيَّةِ، فلا يَصِحُّ بنيَّةٍ مِن النَّهارِ، قياسًا على صَومِ القَضاءِ.
فيَقولُ المُعتَرِضُ: قياسُك هذا فاسِدُ الاعتِبارِ؛ لأنَّه يُخالفُ نَصًّا مِن القُرآنِ، وهو عُمومُ قَولِ اللهِ تعالى: وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمِاتِ [الأحزاب: 35] إلى آخِرِ الآيةِ؛ فإنَّه يَدُلُّ على أنَّ كُلَّ مَن صامَ يَحصُلُ له الأجرُ العَظيمُ، وذلك مُستَلزِمٌ للصِّحَّةِ، وهذا قد صامَ، فيَكونُ صَومُه صحيحًا؛ لأنَّ اللَّهَ تعالى قد أطلقَ الصِّيامَ، فيَكونُ صحيحًا دونَ تَبييتِ النِّيَّةِ.
فيُجيبُ المُستَدِلُّ بقَولِه: لا أُسَلِّمُ أنَّ الآيةَ تَدُلُّ على صِحَّةِ الصَّومِ بدونِ تَبييتِ النِّيَّةِ؛ لأنَّها مُطلَقةٌ، وقَيَّدناها بحَديثِ: ((لا صيامَ لمَن لم يُبَيِّتْه مِن اللَّيلِ)) [2073] أخرجه أبو داود (2454)، والترمذي (730) بنحوه، والنسائي (2331) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ حَفصةَ أُمِّ المُؤمِنينَ رَضِيَ اللهُ عنها، ولفظُ النَّسائيِّ: ((مَن لم يُبَيِّتِ الصِّيامَ قَبلَ الفَجرِ فلا صيامَ له)). قال البخاريُّ كما في ((العلل الكبير)) للترمذي (118): خَطَأٌ، وهو حَديثٌ فيه اضطِرابٌ، والصَّحيحُ عن ابنِ عُمَرَ مَوقوفٌ، وقال النسائي في ((السنن الكبرى)) (2661): الصَّوابُ عِندَنا مَوقوفٌ ولم يَصِحَّ رَفعُه، وقال ابنُ حَجَرٍ في ((التلخيص الحبير)) (2/778): اختَلف الأئِمَّةُ في رَفعِه ووقفِه، فقال ابنُ أبي حاتِمٍ عن أبيه: لا أدري أيُّهما أصَحُّ، لكِنَّ الوَقفَ أشبَهُ، ونقل عن البخاريِّ أنَّه قال: هو خَطَأٌ، وهو حَديثٌ فيه اضطِرابٌ، والصَّحيحُ عن ابنِ عُمَرَ مَوقوفٌ، وقال النَّسائيُّ: الصَّوابُ عِندي مَوقوفٌ ولم يَصِحَّ رَفعُه، وقال أحمَدُ: ما له عِندي ذلك الإسنادُ، وأخرجه مَوقوفًا النَّسائي (2338)، والدارقطني (3/130) بلفظِ: عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ (عن حَفصةَ قالت: لا صيامَ لمَن لم يُجمِعِ الصِّيامَ قَبلَ الفَجرِ). صَحَّحه الألبانيُّ في ((صحيح سنن النسائي)) (2338)، وقال البخاري كما في ((العلل الكبير)) للترمذي (118): هو حَديثٌ فيه اضطِرابٌ، والصَّحيحُ عن ابنِ عُمَرَ مَوقوفٌ، وقال النسائي في ((السنن الكبرى)) (2661): الصَّوابُ عِندَنا مَوقوفٌ ولم يَصِحَّ رَفعُه، وقال ابنُ حَجَرٍ في ((التَّلخيص الحَبير)) (2/778): اختَلف الأئِمَّةُ في رَفعِه ووقفِه، فقال ابنُ أبي حاتِمٍ عن أبيه: لا أدري أيُّهما أصَحُّ، لكِنَّ الوَقفَ أشبَهُ، ونقل عن البخاريِّ أنَّه قال: هو خَطَأٌ، وهو حَديثٌ فيه اضطِرابٌ، والصَّحيحُ عن ابنِ عُمَرَ مَوقوفٌ، وقال النَّسائيُّ: الصَّوابُ عِندي مَوقوفٌ ولم يَصِحَّ رَفعُه. ، أو يَقولُ: إنَّها دَلَّت على أنَّ الصَّائِمَ يُثابُ، وأنا أقولُ به، لكِنَّها لا تَدُلُّ على أنَّه لا يَلزَمُه القَضاءُ. والنِّزاعُ فيه، أو يَقولُ: إنَّها دَلَّت على ثَوابِ الصَّائِمِ، وأنا لا أُسَلِّمُ أنَّ المُمسِكَ بدونِ تَبييتِ النِّيَّةِ صائِمٌ [2074] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/467، 469). .
ثانيًا: إذا قال المُعتَرِضُ: إنَّ قياسَك هذا فاسِدُ الاعتِبارِ؛ لأنَّه خالَف نَصًّا مِن السُّنَّةِ، فإنَّ المُستَدِلَّ يورِدُ المُناقَشاتِ التي تَرِدُ على الاستِدلالِ بالسُّنَّةِ، كما لو كان الاستِدلالُ بالسُّنَّةِ ابتِداءً، فيُورِدُ عليه نَفسَ المُناقَشاتِ التي سَبَقَ ذِكرُها في الاستِدلالِ بالكِتابِ، ويَزيدُ على ذلك المُناقَشاتِ والاعتِراضاتِ على السَّنَدِ بأن يَطعنَ في سَنَدِ الحَديثِ، أو أن يُثبِتَ أنَّ راويَ الحَديثِ قد خالف ما رَواه، أو يُثبتَ أنَّ هذا الحَديثَ الذي ذَكَرَه المُعتَرِضُ مَعارَضٌ بحَديثٍ آخَرَ، فيَتَساقَطانِ، ويَسلَمُ له القياسُ. أو أن يُبَيِّنَ أنَّ القياسَ في قوَّةِ النَّصِّ كما في مَفهومِ الموافَقةِ؛ ولهذا جازَ النَّسخُ به كما بالنَّصِّ، فحينَئِذٍ تُجرى فيه التَّرجيحاتُ، فإن كان له ما يُرَجِّحُه على ذلك النَّصِّ سَقَطَ سُؤالُ عَدَمِ اعتِبارِ القياسِ عنه، وإلَّا لزِمَه ذلك [2075] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (4/72)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (8/3579)، ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (5/2251). .
ومِثالُ ذلك [2076] يُنظر: ((شَرح مُختَصَر الرَّوضة)) للطَّوفي (3/467، 469)، ((المُهَذَّب)) لعبد الكريم النَّملة (5/2251). : قَولُ المُستَدِلِّ: لا يَصِحُّ السَّلَمُ في الحَيَوانِ؛ لأنَّه عَقدٌ يَشتَمِلُ على الغَرَرِ، فلا يَصِحُّ؛ قياسًا على السَّلَمِ في المُختَلِطاتِ.
فيَقولُ المُعتَرِضُ: قياسُك هذا فاسِدُ الاعتِبارِ؛ لأنَّه قد خالف حَديثًا ثابتًا عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهو أنَّه رَخَّصَ في السَّلَمِ [2077] والتَّرخيصُ في السَّلَمِ جاءَ في الصَّحيحِ: عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((قدِمَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المَدينةَ وهم يُسلِفونَ بالتَّمرِ السَّنَتَينِ والثَّلاثَ، فقال: مَن أسلَفَ في شَيءٍ ففي كَيلٍ مَعلومٍ، ووزنٍ مَعلومٍ، إلى أجَلٍ مَعلومٍ)) أخرجه البخاري (2240) واللَّفظُ له، ومسلم (1604). ؛ فلفظُ "السَّلَمِ" عامٌّ في جَميعِ ما يُمكِنُ أن يَكونَ فيه.
فيُجيبُ المُستَدِلُّ بقَولِه: إنَّ هذا الحَديثَ يُحمَلُ على ما سِوى الحَيَوانِ مِمَّا يُمكِنُ ضَبطُه مِن المَكيلِ والمَوزونِ، وقد دَلَّ على هذا الحَملِ قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن أسلَفَ في شَيءٍ ففي كيلٍ مَعلومٍ، ووزنٍ مَعلومٍ إلى أجَلٍ مَعلومٍ)) [2078] أخرجه البخاري (2240) واللَّفظُ له، ومسلم (1604) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما. .
ثالثًا: إذا قال المُعتَرِضُ: إنَّ قياسَك فاسِدُ الاعتِبارِ؛ لأنَّه قد خالف إجماعًا، فإنَّ المُستَدِلَّ يورِدُ المُناقَشاتِ والاعتِراضاتِ التي تَرِدُ على الاستِدلالِ بالإجماعِ، كما لو كان الاستِدلالُ بالإجماعِ ابتِداءً، فيورِدُ عليه بأنَّه لا يُسَلِّمُ أنَّ هذا مُجمَعٌ عليه، أو أنَّ الطَّريقَ الذي ثَبَتَ به هذا الإجماعُ مَشكوكٌ فيه، أو أنَّ هذا الإجماعَ إجماعٌ سُكوتيٌّ، والإجماعُ السُّكوتيُّ ليسَ بحُجَّةٍ عِندَه، أو غَيرِ ذلك [2079] يُنظر: ((المُهَذَّب)) لعبد الكريم النَّملة (5/2252). .
ومِثالُ ذلك: قَولُ المُستَدِلِّ: لا يَجوزُ للرَّجُلِ أن يُغَسِّلَ زَوجَتَه المُتَوفَّاةَ؛ لأنَّ عَقدَ النِّكاحِ الذي بَينَه وبَينَها قد انقَطَعَ بالمَوتِ، فلا يَجوزُ نَظَرُه إليها؛ قياسًا على الأجنَبيَّةِ.
فيَقولُ المُعتَرِضُ: هذا القياسُ فاسِدُ الاعتِبارِ؛ لأنَّه قد خالف الإجماعَ السُّكوتيَّ، وهو أنَّ عليًّا رَضِيَ اللهُ عنه قد غَسَّل زَوجَتَه فاطِمةَ رَضِيَ اللهُ عنها بَعدَ وفاتِها [2080] أخرجه مِن طُرُقٍ: الشَّافِعيُّ في ((المسند)) (571)، والدارقطني (2/447)، والبيهقي (6740)، ولفظُ البَيهَقيِّ: عن أسماءَ بنتِ عُمَيسٍ أنَّ فاطِمةَ بنتَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أوصَت أن يُغَسِّلَها زَوجُها عليُّ بنُ أبي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، فغَسَّلها هو وأسماءُ بنتُ عُمَيسٍ. قال العراقي في ((طرح التثريب)) (1/150): إسنادُه مُنقَطِعٌ. ، ولم يُنكِرْ عليه أحَدٌ مِن الصَّحابةِ، فكان إجماعًا على جَوازِ ذلك.
فيُجيبُ المُستَدِلُّ بقَولِه: أنا أمنَعُ ثُبوتَ هذا الإجماعِ، فلم يَصِحَّ هذا عن عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه.
أو يَقولُ: إن سَلَّمتُ صِحَّتَه مِن عليٍّ، فإنِّي لا أُسَلِّمُ كونَه قد اشتَهَرَ وسَمعَ به كُلُّ الصَّحابةِ حتَّى يَكونَ سُكوتُهم عن الإنكارِ إجماعًا.
أو يَقولُ: إن سَلَّمتُ اشتِهارَه، فإنَّ هذا ثَبت عن طَريقِ الإجماعِ السُّكوتيِّ، وهو ليسَ بحُجَّةٍ عِندي.
وإن سَلَّمَ بحُجِّيَّةِ الإجماعِ السُّكوتيِّ، فالفَرقُ بَين عليٍّ وغَيرِه: أنَّ فاطِمةَ زَوجَتُه في الدُّنيا والآخِرةِ، فالمَوتُ لم يَقطَعِ النِّكاحَ بَينَهما؛ بإخبارِ الصَّادِقِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، بخِلافِ غَيرِهما؛ فإنَّ المَوتَ يَقطَعُ نِكاحَهما [2081] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/468، 469). .
الوَجهُ الثَّاني: أن يُبَيِّنَ المُستَدِلُّ أنَّ القياسَ الذي استَنَدَ إليه مِن قَبيلِ ما يَجِبُ تَرجيحُه على النَّصِّ المُعارِضِ له بوجهٍ مِن وُجوهِ التَّرجيحاتِ المُساعِدةِ له؛ وذلك إذا كانت العِلَّةُ فيه بنَصٍّ راجِحٍ على الخَبَرِ، ووُجودُها في الفَرعِ قَطعيٌّ، وهذا حَيثُ يَكونُ النَّصُّ خَبَرًا. وإمَّا لكَونِ النَّصِّ ضَعيفًا، فيَكونُ القياسُ أَولى مِنه، أو لكَونِ النَّصِّ عامًّا، فيَكونُ القياسُ مُخَصِّصًا له؛ جَمعًا بَينَ الدَّليلينِ، أو لكَونِ مَذهَبِ المُستَدِلِّ يَقتَضي تَقديمَ القياسِ على ذلك النَّصِّ، ككَونِه حَنَفيًّا يَرى تَقديمَ القياسِ على الخَبَرِ إذا خالف الأُصولَ، أو فيما تَعُمُّ به البَلوى، أو مالكيًّا يَرى تَقديمَ القياسِ على الخَبَرِ إذا خالفه خَبَرُ الواحِدِ [2082] يُنظر: ((روضة الناظر)) لابن قدامة (2/304)، ((الإحكام)) للآمدي (4/72)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/470)، ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (4/161). .
الفرقُ بَينَ فسادِ الاعتِبارِ وفَسادِ الوَضعِ:
يَتَبَيَّنُ وَجهُ الفَرقِ مِن خِلالِ مَعرِفةِ حَقيقةِ كُلِّ واحِدٍ مِنهما؛ فيَرِدُ فسادُ الوَضعِ إذا كان القياسُ على غَيرِ الهَيئةِ الصَّالحةِ لأخذِ الحُكمِ مِنه، مَعَ كونِه لم يُخالِفْ نَصًّا ولا إجماعًا.
ويَرِدُ فسادُ الاعتِبارِ إذا كان القياسُ على الهَيئةِ الصَّالحةِ لتَرتيبِ الحُكمِ عليه، لكِنَّه خالف نصًّا أو إجماعًا.
وقد يَجتَمِعانِ بأن يَكونَ القياسُ على هَيئةٍ غَيرِ صالحةٍ لتَرتيبِ الحُكمِ عليه، مَعَ كونِه قد خالف نَصًّا أو إجماعًا [2083] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (7/401)، ((نثر الورود)) لمحمد الأمين الشنقيطي (2/549). .

انظر أيضا: