موسوعة أصول الفقه

الفَرعُ الحادِيَ عَشَرَ: قادِحُ الكَسرِ


وهو عِندَ أكثَرِ الأُصوليِّينَ عِبارةٌ عن إسقاطِ وَصفٍ مِن أوصافِ العِلَّةِ المُرَكَّبةِ، وإخراجِه عن الاعتِبارِ ببَيانِ أنَّه لا أثَرَ له، بشَرطِ أن يَكونَ المَحذوفُ مِمَّا لا يُمكِنُ أخذُه في حَدِّ العِلَّةِ [2183] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (7/349)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (5/2020)، وهذا هو مَعنى الكَسرِ عِندَ أكثَرِ الأُصوليِّينَ والجَدَليِّينَ، وعَبَّرَ عنه الآمِديُّ بالنَّقضِ المَكسورِ، وجَعَل الكَسرَ قِسمًا آخَرَ غَيرَه. وعَرَّف الكَسرَ: بوُجودِ الحِكمةِ المَقصودةِ مِن شَرعِ الحُكمِ، مَعَ تَخَلُّفِ الحُكمِ عنها. فالنَّقضُ حينَئِذٍ: تَخَلُّفُ الحُكمِ عن العِلَّةِ. والكَسرُ: تَخلُّفُه عن حُكمِها. يُنظر: ((الإحكام)) (3/233)، ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (4/210)، ((الدرر اللوامع)) للكوراني (3/327). .
شَرحُ التَّعريفِ:
مَعنى "إسقاط وصفٍ مِن أوصافِ العِلَّةِ المُرَكَّبةِ": أي بَيانُ أنَّه مُلغًى لا أثَرَ له في التَّعليلِ [2184] يُنظر: ((الغيث الهامع)) لأبي زرعة العراقي (ص: 600). .
فالعِلَّةُ تَكونُ مُرَكَّبةً مِن وصفَينِ: أحَدُهما: لا تَأثيرَ له، أي: يوجَدُ الحُكمُ بدونِه.
والثَّاني: مَنقوضٌ، أي: يوجَدُ، والحُكمُ يَتَخَلَّفُ عنه [2185] يُنظر: ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (5/2287). .
فالكَسرُ قادِحٌ مُرَكَّبٌ مِن اعتِراضَينِ: النَّقضُ، وعَدَمُ التَّأثيرِ [2186] يُنظر: ((شرح اللمع)) للشيرازي (2/902). ، فيُبَيِّنُ المُعتَرِضُ عَدَمَ تَأثيرِ أحَدِ جُزأيِ المُرَكَّبِ الذي ادَّعى المُستَدِلُّ عِلِّيَّتَه، ونَقضَ الآخَرِ، فيَكونُ ذلك قدحًا في تَمامِ العِلَّةِ بعَدَمِ التَّأثيرِ، وفي جُزئِها بالنَّقضِ [2187] يُنظر: ((الإبهاج)) لابن السبكي (6/2496). .
أهَمِّيَّةُ قادِحِ الكَسرِ:
الكَسرُ قادِحٌ يَرِدُ على العِلَّةِ، فإن أُلزِمَ به المُستَدِلُّ فقد فسَدَت عِلَّتُه، وإن لم يُلزِمْه بأن استَطاعَ الجَوابَ عنه فقد سَلِمَت العِلَّةُ، وصَحَّ القياسُ [2188] يُنظر: ((شرح اللمع)) للشيرازي (2/909). .
قال الباجيُّ: (الكَسرُ سُؤالٌ صَحيحٌ، وهو مِن أفقَهِ ما يَجري بَينَ المُتَناظِرَينِ، وقد اتَّفقَ المُحَقِّقونَ على صِحَّتِه، وإفسادِ العِلَّةِ به) [2189] ((إحكام الفصول)) (2/667). .
وقال الشِّيرازيُّ: (وهو سُؤالٌ مَليحٌ، والاشتِغالُ به يَنتَهي إلى بَيانِ الفِقهِ، وتَصحيحِ العِلَّةِ، وقد اتَّفقَ أكثَرُ أهلِ العِلمِ على صِحَّتِه، وإفسادِ العِلَّةِ به، ويُسَمُّونَه النَّقضَ مِن طَريقِ المَعنى، والإلزامَ مِن طَريقِ الفِقهِ) [2190] يُنظر: ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (4/213)، ((البحر المحيط)) للزركشي (7/352)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (5/2021). .
مِثالُ قادِحِ الكَسرِ:
قَولُ المُستَدِلِّ في بَيعِ الغائِبِ: لا يَجوزُ بَيعُ ما لم يَرَه المُشتَري؛ لأنَّه مَبيعٌ مَجهولُ الصِّفةُ عِندَ العاقِدِ حالَ العَقدِ، فلم يَصِحَّ بَيعُه؛ قياسًا على ما لو قال: بِعتُك ثَوبًا.
فيَقولُ المُعتَرِضُ: هذا القياسُ يَنكَسِرُ بما إذا عَقَدَ على امرَأةٍ لم يَرَها؛ فإنَّه يَصِحُّ نِكاحُها مَعَ كونِها مَجهولةَ الصِّفةِ عِندَ العاقِدِ، فهذا كَسرٌ؛ لأنَّه نَقضٌ مِن طَريقِ المَعنى، بدَليلِ أنَّ النِّكاحَ في الجَهالةِ كالبَيعِ؛ إذِ الجَهلُ بالعَينِ في كُلٍّ مِنهما يوجِبُ الفسادَ.
فالعِلَّةُ في هذا القياسِ مُرَكَّبةٌ مِن وصفينِ هما: كَونُه مَبيعًا، وكَونُه مَجهولَ الصِّفةِ. والمُعتَرِضُ لم يَعتَبَرِ الوصفَ الأوَّلَ، وهو كونُه مَبيعًا؛ لأنَّه لا تَأثيرَ له عِندَه؛ حَيثُ إنَّ المَرهونَ والمُستَأجِرَ كالمَبيعِ.
وأمَّا الوصفُ الثَّاني، وهو كونُه مَجهولَ الصِّفةِ، فقد نَقَضَه المُعتَرِضُ بقَولِه: ليسَ كُلُّ مَجهولِ الصِّفةِ لا يَصِحُّ العَقدُ عليه؛ حَيثُ إنَّه يَصِحُّ العَقدُ على امرَأةٍ لم يَرَها [2191] يُنظر: ((المعونة)) للشيرازي (ص: 107)، ((الواضح)) لابن عقيل (2/291)، ((الإبهاج)) لابن السبكي (6/2496). .
أنواعُ الكَسرِ:
للكَسرِ نَوعانِ:
النَّوعُ الأوَّلُ: أن يُبَدِّلَ المُعتَرِضُ الوَصفَ الخاصَّ الذي بَيَّن أنَّه لغوٌ لا أثَرَ له بوَصفٍ أعَمَّ مِنه، ثُمَّ يَنقُضَه على المُستَدِلِّ. وهذا جائِزٌ بشَرطِ أن يَكونَ الوَصفُ الذي يَأتي به المُعتَرِضُ في مَعنى الوَصفِ الذي ذَكَرَه المُستَدِلُّ في تَعليلِه [2192] يُنظر: ((شرح اللمع)) للشيرازي (2/898)، ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (4/213)، ((تشنيف المسامع)) للزركشي (3/339)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (5/2021). .
مِثالُه: قَولُ المُستَدِلِّ في إثباتِ صَلاةِ الخَوفِ: صَلاةٌ يَجِبُ قَضاؤُها إذا لم تُفعَلْ، فيَجِبُ أداؤُها كصَلاةِ الأمنِ.
فيَقولُ المُعتَرِضُ: خُصوصُ كونِها صَلاةً مُلغًى لا أثَرَ له في العِلِّيَّةِ؛ لأنَّ الحَجَّ والصَّومَ كذلك، فلم يَبقَ إلَّا الوَصفُ العامُّ، وهو كَونُها عِبادةً، ثُمَّ يَنقُضُ ذلك بقَولِه: وليسَ كُلُّ عِبادةٍ يَجِبُ قَضاؤُها يَجِبُ أداؤُها، بدَليلِ صَومِ الحائِضِ؛ حَيثُ كان عِبادةً يَجِبُ قَضاؤُها، ولا يَجِبُ أداؤُها، بَل يَحرُمُ، فيَكونُ ذلك قدحًا في تَمامِ العِلَّةِ بعَدَمِ التَّأثيرِ، وفي جُزئِها بالنَّقضِ [2193] يُنظر: ((الإبهاج)) لابن السبكي (6/2495)، ((البحر المحيط)) للزركشي (7/350). .
فأمَّا إذا لم يَكُنِ الوَصفُ الذي أتى به المُعتَرِضُ في مَعنى وَصفِ المُستَدِلِّ فلا يَكونُ صَحيحًا، ولا نُسَمِّيه كسرًا.
ومِثالُه: أن يَقولَ المُستَدِلُّ في بَيعِ الغائِبِ: مَبيعٌ مَجهولُ الصِّفةِ عِندَ العاقِدِ حالَ العَقدِ، فأشبَهَ إذا قال: بِعتُك ثَوبًا.
فيَقولُ المُعتَرِضُ: هذا يَنكَسِرُ بالموصى به؛ فإنَّه مَجهولُ الصِّفةِ عِندَ العاقِدِ حالَ العَقدِ، وتَصِحُّ الوصيَّةُ به.
فهذا وأمثالُه كسرٌ فاسِدٌ، لا يَلزَمُ الكَلامُ عليه؛ لأنَّ هذا لا يَتَوجَّهُ على لَفظِ العِلَّةِ، ولا على مَعناها؛ لأنَّ الوصيَّةَ ليسَت بنَظيرٍ للبَيعِ في بابِ الجَهالةِ ولا في مَعناه؛ إذ لا يوجَدُ شَيءٌ مِن الجَهالاتِ يَمنَعُ صِحَّةَ الوصيَّةِ؛ ولهذا لو قال: أوصَيتُ لك بثَوبٍ أو بشَيءٍ، لجاز، ومِثلُ هذا لا يَصِحُّ في البَيعِ.
وهذا بخِلافِ ما لو ألزَمَ النِّكاحَ على البَيعِ، فقد ألزَمَ على العِلَّةِ ما هو في مَعناها في الحُكمِ المُتَنازَعِ فيه، وهو الجَهالةُ؛ حَيثُ إنَّ جَهالةَ العَينِ تُفسِدُ النِّكاحَ كما تُفسِدُ البَيعَ [2194] يُنظر: ((شرح اللمع)) للشيرازي (2/899). .
النَّوعُ الثَّاني: ألَّا يُبَدِّلَ المُعتَرِضُ خُصوصَ الوَصفِ، وإنَّما يُسقِطُ وصفًا مِن أوصافِ العِلَّةِ، ويورِدَ صورةَ النَّقضِ على ما بَقيَ [2195] يُنظر: ((شرح اللمع)) للشيرازي (2/900)، ((البحر المحيط)) للزركشي (7/350). .
مِثالُه: ما سَبَقَ في المِثالِ المَذكورِ في إثباتِ صَلاةِ الخَوفِ، فيَقولُ المُستَدِلُّ: صَلاةٌ يَجِبُ قَضاؤُها، فيَجِبُ أداؤُها، كصَلاةِ الأمنِ.
فيُسقِطُ المُعتَرِضُ قَولَ المُستَدِلِّ: فيَجِبُ أداؤُها؛ لأنَّه إذا سَقَطَ وَصفُ الصَّلاةِ الذي هو أحَدُ أوصافِ عِلَّتِك، فلم يَبقَ إلَّا أن يُقالَ: يَجِبُ قَضاؤُها. وليسَ كُلُّ ما يَجِبُ قَضاؤُه يَجِبُ أداؤُه، بدَليلِ صَومِ الحائِضِ؛ فإنَّ الأداءَ مُحرَّمٌ عليها، مَعَ وُجوبِ القَضاءِ، فقد أعرَضَ عن ذلك الوَصفِ بالكُلِّيَّةِ، وذَكَرَ صورةَ النَّقضِ [2196] يُنظر: ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (4/213)، ((تشنيف المسامع)) للزركشي (3/339)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (5/2021)، ((الدرر اللوامع)) للكوراني (3/327). .
الفَرقُ بَينَ الكَسرِ والنَّقضِ:
الكَسرُ كالنَّقضِ؛ فهو نَقضٌ مِن طَريقِ المَعنى [2197] يُنظر: ((شرح اللمع)) للشيرازي (2/893)، ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (2/203)، ((المقترح في المصطلح)) للبروي (ص: 349)، ((الإبهاج)) لابن السبكي (6/2494). ، بدَليلِ أنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنهما يَمنَعُ الاحتِجاجَ بالعِلَّةِ [2198] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (5/1454). .
ويُمكِنُ التَّفريقُ بَينَهما مِن ثَلاثةِ أوجُهٍ:
الوَجهُ الأوَّلُ: أنَّ الكَسرَ وإن آلَ إلى النَّقضِ، وهو نَقضُ ما ثَبَتَ أنَّه عِلَّةٌ، إلَّا أنَّا لم نَتَوصَّلْ إلى ذلك إلَّا بَعدَ أن سَبَقَه مَرحَلةٌ، وهيَ بَيانُ عَدَمِ تَأثيرِ أحَدِ الوَصفَينِ.
الوَجهُ الثَّاني: أنَّ الكَسرَ كما اتَّضَحَ مِن حَقيقَتِه لا يَكونُ إلَّا في العِلَّةِ المُرَكَّبةِ مِن وصفَينِ أو أكثَرَ [2199] يُنظر: ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (5/2289). .
الوَجهُ الثَّالثُ: أنَّ النَّقضَ يَرِدُ على لَفظِ العِلَّةِ، بأن توجَدَ ألفاظُ العِلَّةِ ولا يوجَدَ الحُكمُ [2200] يُنظر: ((رسالة العكبري)) (ص: 62)، ((الواضح)) لابن عقيل (2/290). .
أمَّا الكَسرُ فهو نَقضُ العِلَّةِ على مَعناها دونَ لفظِها [2201] يُنظر: ((المعتمد)) لأبي الحسين البصري (2/455). ، فقد فسَّرَه بَعضُ الأُصوليِّينَ بوُجودِ مَعنى العِلَّةِ مَعَ عَدَمِ الحُكمِ [2202] يُنظر: ((الحدود)) للباجي (ص: 125)، ((المعونة)) للشيرازي (ص: 107)، ((التمهيد)) للكلوذاني (4/168). ، بأن يَستَدِلَّ بعِلَّةٍ على حُكمٍ بحَيثُ يوجَدُ مَعنى تلك العِلَّةِ في مَوضِعٍ آخَرَ، ولا يوجَدَ مَعَها ذلك الحُكمُ [2203] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (7/349). .
فمِثالُ النَّقضِ: أن يَكونَ للرَّجُلِ ابنانِ، فيُعطيَ أحَدَهما، فيُقالَ له: لمَ أعطَيتَه؟ فيَقولَ: لأنَّه ابني. فيُقالَ له: يَنتَقِضُ بالابنِ الآخَرِ؛ فإنَّه ابنُك ولم تُعطِه [2204] يُنظر: ((شرح اللمع)) للشيرازي (2/900). .
ومِثالُ الكَسرِ: أن يَكونَ له ابنٌ، وله ابنٌ، فيُعطيَ ابنَه شَيئًا، فيُقالَ له: لمَ أعطَيتَه؟ فيَقولَ: لأنَّه ابني. فيُقالَ له: يَنكَسِرُ عليك بابنِ ابنِك، فهو في مَعنى الابنِ ولم تُعطِه شَيئًا؛ لأنَّ مَعنى الابنِ مَوجودٌ فيه؛ لأنَّ ابنَ الابنِ بمَنزِلةِ الابنِ في بابِ الوِلاياتِ والنَّفقاتِ والميراثِ وتَحريمِ المُصاهَرةِ، وغَيرِ ذلك مِن الأحكامِ [2205] يُنظر: ((شرح اللمع)) للشيرازي (2/900)، ((البحر المحيط)) للزركشي (7/350). .
حُجِّيَّةُ قادِحِ الكَسرِ:
الاعتِراضُ بالكَسرِ صحيحٌ، أي: أنَّ للمُعتَرِضِ أن يوجِّهَ هذا القادِحَ إلى عِلَّةِ المُستَدِلِّ ليُفسِدَها به. وهو مَذهَبُ أكثَرِ الأُصوليِّينَ [2206] يُنظر: ((الإبهاج)) لابن السبكي (6/2494)، ((الغيث الهامع)) لأبي زرعة العراقي (ص: 600). ، ونَقل الباجيُّ اتِّفاقَ المُحَقِّقينَ على صِحَّتِه [2207] يُنظر: ((إحكام الفصول)) (2/667). .
مِن الأدِلَّةِ على أنَّ الكَسرَ قادِحٌ في العِلَّةِ:
الدَّليلُ الأوَّلُ: أنَّ العُلماءَ قد اختَلفوا في جَوازِ تَخصيصِ العِلَّةِ، ولم يَختَلِفْ أحَدٌ مِن القائِسينَ في إفسادِ كُلِّ عِلَّةٍ خالفت الأُصولَ [2208] يُنظر: ((إحكام الفصول)) للباجي (2/668). .
الدَّليلُ الثَّاني: أنَّ القياسَ ذو أوصافٍ، ويَحتاجُ كُلُّ وَصفٍ مِنها في تَعَلُّقِه بالحُكمِ وكَونِه جالبًا له إلى دَليلٍ يَخُصُّه، ويَجعَلُه بذلك الحُكمِ أولى مِنه بسائِرِ الأحكامِ، وإلَّا لم يَكُنْ تَعَلُّقُ ذلك الحُكمِ بأَولى مِن تَعَلُّقِ سائِرِ الأحكامِ به [2209] يُنظر: ((إحكام الفصول)) للباجي (2/668). .
وقيل: لا يَقدَحُ الكَسرُ في العِلَّةِ. وهو قَولُ بَعضِ الأُصوليِّينَ [2210] يُنظر: ((التمهيد)) للكلوذاني (4/169)، ((الواضح)) لابن عقيل (2/291). ، ونَقَله الشِّيرازيُّ عن بَعضِ الشَّافِعيَّةِ [2211] يُنظر: ((شرح اللمع)) (2/894). ، وعَزاه الباجيُّ إلى مُتَفقِّهةِ خُراسانَ [2212] يُنظر: ((إحكام الفصول)) (2/667). .
كيفيَّةُ الجَوابِ عن قادِحِ الكَسرِ:
يُجيبُ المُستَدِلُّ عن هذا القادِحِ بأحَدِ طَريقَينِ هما:
الطَّريقُ الأوَّلُ: أن يُبَيِّنَ المُستَدِلُّ أنَّ للوَصفِ الذي رَفضَه خَصمُه تَأثيرًا في الحُكمِ حتَّى يَجِبَ إضافتُه إلى غَيرِه مِن الأوصافِ، بأن يُبَيِّنَ أنَّ ما أسقَطَه المُعتَرِضُ وصفٌ مُؤَثِّرٌ بدَليلٍ يُقيمُه على ذلك [2213] يُنظر: ((المعتمد)) لأبي الحسين البصري (2/455)، ((شرح اللمع)) للشيرازي (2/904)، ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (5/2290). .
مِثالُه: قَولُ المُستَدِلِّ: إنَّ كُلَّ ما تَحَقَّقَ فيه الطُّعمُ مَطعوم جِنس، فلا يَجوزُ التَّفاضُلُ في بَيعِه؛ قياسًا على البُرِّ.
فيَقولُ المُعتَرِضُ: وَصفُ الطُّعمِ الذي ذَكَرتَه مَنقوضٌ ببَيعِ الحِنطةِ بالشَّعيرِ، فهما مَطعومانِ، ولا يَحرُمُ التَّفاضُلُ بَينَهما.
فيُجيبُ المُستَدِلُّ بقَولِه: إنَّ الوَصفَ الذي أسقَطتَه وهو: "الجِنسُ" هو وصفٌ مُؤَثِّرٌ قد ثَبَتَ ذلك بالدَّليلِ، وهو قَولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "فإذا اختَلفَت هذه الأجناسُ فبيعوا كيف شِئتُم إذا كان يَدًا بيَدٍ" [2214] أخرجه مسلم (1587) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ عُبادةَ بنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللهُ عنه، بلفظِ: ((الذَّهَبُ بالذَّهَبِ، والفِضَّةُ بالفِضَّةِ، والبُرُّ بالبُرِّ، والشَّعيرُ بالشَّعيرِ، والتَّمرُ بالتَّمرِ، والمِلحُ بالمِلحِ، مِثلًا بمِثلٍ، سَواءً بسَواءٍ، يَدًا بيَدٍ، فإذا اختَلفت هذه الأصنافُ فبيعوا كَيف شِئتُم، إذا كان يَدًا بيَدٍ)). ، وما دَلَّ عليه الدَّليلُ الشَّرعيُّ الصَّحيحُ فلا يَجوزُ إسقاطُه [2215] يُنظر: ((شرح اللمع)) للشيرازي (2/904)، ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (5/2290). .
الطَّريقُ الثَّاني: أن يُجيبَ المُستَدِلُّ بفَرقٍ تَضَمَّنَته عِلَّتُه نُطقًا أو مَعنًى، بأن يَذَكُرَ المُستَدِلُّ فَرقًا بَينَ ما ذَكَرَه هو مِن العِلَّةِ، وبَينَ ما أورَدَه المُعتَرِضُ في صورةِ الكَسرِ؛ ليُبَيِّنَ أنَّ ما أورَدَه المُعتَرِضُ ليسَ في مَعنى العِلَّةِ [2216] يُنظر: ((المعونة)) للشيرازي (ص: 107)، ((التمهيد)) للكلوذاني (4/178)، ((المسودة)) لآل تيمية (ص: 429)، ((أصول الفقه)) لابن مفلح (3/1229). .
ومِثالُه: ما سَبَقَ في قَولِ المُستَدِلِّ في بَيعِ الغائِبِ: لا يَجوزُ بَيعُ ما لم يَرَه المُشتَري؛ لأنَّه مَبيعٌ مَجهولُ الصِّفةِ عِندَ العاقِدِ حالَ العَقدِ، فلم يَصِحَّ بَيعُه؛ قياسًا على ما لو قال: بِعتُك ثَوبًا.
فيَقولُ المُعتَرِضُ: هذا القياسُ يَنكَسِرُ بما إذا عَقَدَ على امرَأةٍ لم يَرَها؛ فإنَّه يَصِحُّ نِكاحُها مَعَ كونِها مَجهولةَ الصِّفةِ عِندَ العاقِدِ، فهذا كَسرٌ؛ لأنَّه نَقضٌ مِن طَريقِ المَعنى، بدَليلِ أنَّ النِّكاحَ في الجَهالةِ كالبَيعِ، بدَليلِ أنَّ الجَهلَ بالعَينِ في كُلٍّ مِنهما يوجِبُ الفَسادَ.
فالعِلَّةُ في هذا القياسِ مُرَكَّبةٌ مِن وصفَينِ هما: كونُه مَبيعًا، وكَونُه مَجهولَ الصِّفةِ. والمُعتَرِضُ لم يَعتَبِرِ الوَصفَ الأوَّلَ، وهو كونُه مَبيعًا؛ لأنَّه لا تَأثيرَ له عِندَه؛ حَيثُ إنَّ المَرهونَ والمُستَأجِرَ كالمَبيعِ.
وأمَّا الوَصفُ الثَّاني -وهو كونُه مَجهولَ الصِّفةِ- فقد نَقَضَه المُعتَرِضُ بقَولِه: ليسَ كُلُّ مَجهولِ الصِّفةِ لا يَصِحُّ العَقدُ عليه؛ حَيثُ إنَّه يَصِحُّ العَقدُ على امرَأةٍ لم يَرَها.
فيُجيبُ المُستَدِلُّ بالفَرقِ، فيَقولُ: ليسَ النِّكاحُ كالبَيعِ في هذا الحُكمِ؛ لأنَّ للجَهالةِ مِن التَّأثيرِ في بابِ البَيعِ ما ليسَ لها في النِّكاحِ؛ لأنَّ النِّكاحَ لا يُعقدُ فيه على الصِّفاتِ؛ ولذلك لا تُفرَدُ صِفاتُه بالعَقدِ، ولا يَلزَمُ اشتِراطُها، ولا يَثبُتُ الخيارُ فيه بالرُّؤيةِ، بخِلافِ سائِرِ السِّلعِ؛ ولهذا لو تَزَوَّجَ امرَأةً لم يَرَها ثُمَّ رَآها، ثَبَت له الخيارُ، فجازَ أن يَكونَ عَدَمُ الرُّؤيةِ في النِّكاحِ لا يَمنَعُ الصِّحَّةَ، وأمَّا في البَيعِ فيَمنَعُ [2217] يُنظر: ((المعونة)) للشيرازي (ص: 107)، ((التمهيد)) للكلوذاني (4/178)، ((الواضح)) لابن عقيل (2/291). .

انظر أيضا: