موسوعة أصول الفقه

الفَرعُ الثَّاني: استِصحابُ ما دَلَّ الشَّرعُ على دَوامِه


ويُقصَدُ به استِصحابُ حُكمٍ دَلَّ الشَّرعُ على ثُبوتِه بالدَّليلِ، ولم يَقُمْ دَليلٌ على تَغييرِه، فيُحكَمُ ببَقائِه لوُجودِ سَبَبِه، ويُطلَقُ عليه أيضًا استِصحابُ الوَصفِ المُثبِتِ للحُكمِ الشَّرعيِّ حتَّى يَثبُتَ خِلافُه، كالحُكمِ باستِمرارِ الحِلِّ بَينَ الزَّوجَينِ لبَقاءِ سَبَبِه، وهو العَقدُ الصَّحيحُ حتَّى يوجَدَ ما يُغَيِّرُه، وكالحُكمِ بثُبوتِ المِلكِ بعَقدِ البَيعِ الصَّحيحِ حتَّى يوجَدَ ما يَنقُلُ المِلكيَّةَ، وكالحُكمِ باستِصحابِ الطَّهارةِ والحَدَثِ حتَّى يَرِدَ ما يُغَيِّرُهما، وكشَغلِ الذِّمَّةِ عِندَ جَرَيانِ إتلافٍ أوِ التِزامٍ أو قَرضٍ؛ فإنَّ هذا حُكمٌ شَرعيٌّ دَلَّ الشَّرعُ على ثُبوتِه ودَوامِه لوُجودِ سَبَبِه [2312] يُنظر: ((المستصفى)) للغزالي (ص:160)، ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (3/100-102)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (6/2610)، ((تشنيف المسامع)) للزركشي (3/419، 420)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (5/150)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (4/405). .
ومِن هذا القَبيلِ أيضًا كُلُّ الأحكامِ التي رَبَطَها الشَّارِعُ بأسبابٍ، فيُحكَمُ بتَكَرُّرِ الأحكامِ عِندَ تَكَرُّرِ أسبابِها، كـ: شُهودُ رَمَضانَ سَبَبٌ لوُجوبِ الصِّيامِ ويَتَكَرَّرُ بتَكَرُّرِه، ونَفقاتُ الأقارِبِ عِندَ تَكَرُّرِ الحاجاتِ ودُخولِ أوقاتِ الصَّلواتِ سَبَبٌ لوُجوبِها؛ لأنَّه لمَّا عَرَف حَمَلةُ الشَّريعةِ قَصدَ الشَّارِعِ إلى نَصبِها أسبابًا وجَبَ استِصحابُها، ولولا دَلالةُ الدَّليلِ على كَونِها أسبابًا لما جازَ استِصحابُها [2313] يُنظر: ((المستصفى)) للغزالي (ص:160)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (6/2610، 2611)، ((البحر المحيط)) للزركشي (8/18). .
وهذا النَّوعُ مُتَّفَقٌ على حُجِّيَّتِه في الجُملةِ، ومِمَّن حَكى الاتِّفاقَ: الزَّركَشيُّ [2314] قال: (وهذا لا خِلافَ في وُجوبِ العَمَلِ به، إلى أن يَثبُتَ مُعارِضٌ له). ((البحر المحيط)) (8/18). ، وابنُ القَيِّمِ [2315] قال: (لم يَتَنازَعِ الفُقَهاءُ في هذا النَّوعِ، وإنَّما تَنازَعوا في بَعضِ أحكامِه لتَجاذُبِ المَسألةِ أصلَينِ مُتَعارِضَينِ). ((إعلام الموقعين)) (2/160). .
واستُدِلَّ لهذا النَّوعِ بما يَلي:
1- أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال في الرَّجُلِ يُخَيَّلُ إليه أنَّه يَجِدُ الشَّيءَ في الصَّلاةِ: ((لا يَنفَتِلْ أو لا يَنصَرِفْ حتَّى يَسمَعَ صَوتًا أو يَجِدَ ريحًا)) [2316]  أخرجه البخاري (137)، واللَّفظُ له، ومسلم (361) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ زَيدٍ رَضِيَ اللهُ عنه. .
وَجهُ الدَّلالةِ:
 أنَّ قَولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتَّى يَسمَعَ صَوتًا أو يَجِدَ ريحًا مَعناه حتَّى يَتَيَقَّنَ الحَدَثَ؛ فالحَديثُ أصلٌ وقاعِدةٌ مِن قَواعِدِ الفِقهِ، وهيَ أنَّ الأشياءَ يُحكَمُ ببَقائِها على أُصولِها حتَّى يُتَيَقَّنَ خِلافُ ذلك، ولا يَضُرُّ الشَّكُّ الطَّارِئُ عليها [2317] يُنظر: ((معالم السنن)) للخطابي (1/64)، ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (1/225)، ((شرح مسلم)) للنووي (4/49)، ((إحكام الأحكام)) لابن دقيق العيد (1/117، 118)، ((الواضح)) لابن عقيل (2/311). .
2- عن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إذا شَكَّ أحَدُكُم في صَلاتِه فلم يَدرِ كَم صَلَّى ثَلاثًا أم أربَعًا، فليَطرَحِ الشَّكَّ وليَبْنِ على ما استَيقَنَ، ثُمَّ يَسجُدُ سَجدَتَينِ قَبلَ أن يُسَلِّمَ، فإن كان صَلَّى خَمسًا شَفَعنَ له صَلاتَه، وإن كان صَلَّى إتمامًا لأربَعٍ كانتا تَرغيمًا للشَّيطانِ)) [2318]  أخرجه مسلم (571). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّه لمَّا كان الأصلُ بَقاءَ الصَّلاةِ في ذِمَّةِ المُكَلَّفِ، أمَر الشَّارِعُ الشَّاكَّ فيها أن يَبنيَ على اليَقينِ ويَطرَحَ الشَّكَّ؛ لأنَّه لم يَقُمِ السَّبَبُ الذي به تَبرَأُ ذِمَّتُه مِن هذه الشُّكوكِ، فيَستَصحِبُ ما تَيَقَّنَ أنَّ ذِمَّتَه قد بَرِئَت مِنه، وما لم يَتَيَقَّنْ مِنه بَقيَت ذِمَّتُه مَشغولةً به ولم تَبرَأْ بالشَّكِّ، بل لا بُدَّ مِنَ اليَقينِ بفَراغِها [2319] يُنظر: ((إكمال المعلم)) للقاضي عياض (2/506)، ((الواضح)) لابن عقيل (2/311)، ((شرح مسلم)) للنووي (5/58)، ((التوضيح)) لابن الملقن (9/366)، ((الاستصحاب وآثاره في الفروع الفقهية)) للخضر (ص:47). .
3- عن عَديِّ بنِ حاتِمٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إذا أرسَلتَ كَلبَك فاذكُرِ اسمَ اللهِ، فإن أمسَك عليك فأدرَكتَه حَيًّا فاذبَحْه، وإن أدرَكتَه قد قَتَل ولم يَأكُلْ مِنه فكُلْه، وإن وجَدْتَ مَعَ كَلبِك كَلبًا غَيرَه وقد قَتَل، فلا تَأكُلْ؛ فإنَّك لا تَدري أيُّهما قَتَله، وإن رَمَيتَ سَهمَك فاذكُرِ اسمَ اللهِ، فإن غاب عنك يَومًا فلم تَجِدْ فيه إلَّا أثَرَ سَهمِك فكُلْ إن شِئتَ، وإن وجَدتَه غَريقًا في الماءِ فلا تَأكُلْ)) [2320]  أخرجه البخاري (5484)، ومسلم (1929)، واللفظ له. ، وفي رِوايةٍ: ((فإنَّك لا تَدري الماءُ قَتَلَه أم سَهمُك)) [2321]  أخرجها مُسلمٌ (1929) باختلافٍ يسيرٍ، ولفظُها: ((سَألتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عنِ الصَّيدِ، قال: إذا رَمَيتَ سَهمَكَ فاذكُرِ اسمَ اللهِ، فإن وجَدتَه قد قَتَل فكُلْ، إلَّا أن تَجِدَه قد وقَعَ في ماءٍ؛ فإنَّكَ لا تَدري الماءُ قَتَله، أو سَهمُكَ)). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّه لمَّا كان الأصلُ في الذَّبائِحِ التَّحريمَ، ووقَعَ الشَّكُّ في وُجودِ الشَّرطِ المُبيحِ أم لا، بَقيَ الصَّيدُ على أصلِه في التَّحريمِ حتَّى يوجَدَ ما يُغَيِّرُ ذلك [2322] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (2/159). .

انظر أيضا: