موسوعة أصول الفقه

الفَرعُ الخامِسُ: استِصحابُ الحاضِرِ في الماضي الاستِصحابُ المَقلوبُ (المَعكوسُ)


وهو ثُبوتُ أمرٍ في الزَّمانِ الأوَّلِ (الماضي) لثُبوتِه في الزَّمانِ الثَّاني (الحاضِرِ)؛ لفِقدانِ ما يَصلُحُ للتَّغييرِ [2354] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (8/24، 25)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (5/154، 155)، ((نشر البنود)) لعبد الله الشنقيطي (2/260)، ((الاستصحاب المقلوب)) للضويجي (ص:101-103). .
وسُمِّي استِصحابًا مَقلوبًا؛ لكَونِ الاستِصحابِ في الأصلِ هو الحُكمَ بثُبوتِ أمرٍ في الحاضِرِ لثُبوتِه في الماضي، وهذا النَّوعُ يَقتَضي عَكسَ ذلك [2355] يُنظر: ((الاستصحاب المقلوب)) للضويجي (ص:103). ، ويُسَمَّى استِصحابَ الحالِ في الماضي [2356] يُنظر: ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (6/2612). ، واستِصحابَ الحاضِرِ في الماضي [2357] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/39)، ((البحر المحيط)) للزركشي (8/24). ، وتَحكيمَ الحالِ [2358] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص:55). .
وبَيانُه: إذا وقَعَ النَّظَرُ في أنَّ زَيدًا هَل كان مَوجودًا بالأمسِ في مَكانِ كَذا، ووجَدناه مَوجودًا فيه اليَومَ؟ فيُقالُ: نَعَمْ، إنَّه كان مَوجودًا؛ إذِ الأصلُ موافَقةُ الماضي للحالِ، كما إذا وقَعَ النَّظَرُ في هذا الكَيلِ، هل كان على عَهدِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فيُقالُ: نَعَمْ؛ إذِ الأصلُ موافَقةُ الماضي للحالِ، فإذا ثَبَتَ استِعمالُ اللَّفظِ في هذا المُدَّعى، فنَدَّعي أنَّه كان مُستَعمَلًا قَبلَ ذلك؛ لأنَّه لو كان الوَضعُ غَيرَه فيما سَبَقَ لزِمَ أن يَكونَ قد تَغَيَّرَ إلى هذا الوضعِ، والأصلُ عَدَمُ تَغَيُّرِه، فالأصلُ استِقرارُ الواقِعِ في الزَّمَنِ الماضي إلى هذا الزَّمَنِ [2359] يُنظر: ((البحر المحيط)) (8/25)، ((تشنيف المسامع)) كلاهما للزركشي (3/426، 427)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (5/155). .
كما أنَّ الحُكمَ الثَّابتَ في الحاضِرِ لو لم يَكُنْ ثابتًا في الماضي لكان غَيرَ ثابتٍ الآنَ؛ إذ لا واسِطةَ بَينَهما، وإذا كان غَيرَ ثابتٍ في الماضي اقتَضى الاستِصحابُ ألَّا يَكونَ ثابتًا في الحاضِرِ، لكِنَّه ثابتٌ الآنَ؛ فكان ثابتًا في الماضي [2360] يُنظر: ((تشنيف المسامع)) للزركشي (3/427، 428)، ((الغيث الهامع)) لأبي زرعة العراقي (ص:643، 644)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (5/155)، ((غاية الوصول)) لزكريا الأنصاري (ص: 146). .
قال الزَّركَشيُّ: (وهذا القِسمُ لم يَتَعَرَّضْ له الأُصوليُّونَ، وإنَّما ذَكَرَه بَعضُ الجَدَليِّينَ مِنَ المُتَأخِّرينَ) [2361] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (8/25). .
وصَحَّحَ الاحتِجاجَ به الحَنَفيَّةُ وأكثَروا مِنَ الاعتِمادِ عليه في فُروعِهم [2362] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص:55)، ((درر الحكام)) لعلي حيدر (4/334). ، وعَمِلَ به الشَّافِعيَّةُ في بَعضِ المَسائِلِ [2363] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/40)، ((البحر المحيط)) للزركشي (8/26،25). .
والأدِلَّةُ على حُجِّيَّتِه:
1- ما سَبَقَ مِن أدِلَّةٍ على حُجِّيَّةِ استِصحابِ الحالِ [2364] قال ابنُ السُّبكيِّ: (اعلَمْ أنَّ الطَّريقَ في إثباتِ الحُكمِ به يَعودُ إلى الاستِصحابِ المَعروفِ؛ وذلك لأنَّه لا طَريقَ له إلَّا قَولُك: لو لم يَكُنْ جالسًا أمسِ لكان الاستِصحابُ يُفضي بأنَّه غَيرُ جالسٍ الآنَ، لكِنَّه جالسٌ الآنَ؛ فدَلَّ على أنَّه كان جالسًا أمسِ). ((الإبهاج)) (6/2613). .
2- أنَّ الأصلَ مُوافَقةُ الحالِ للماضي وعَدَمُ التَّغايُرِ، فثُبوتُه الآنَ عَلامةٌ على ثُبوتِه في الماضي؛ إذ لو لم يَكُنْ ثابتًا فيه لاختَلف الحالانِ، والأصلُ توافُقُهما [2365] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (8/25)، ((تقريرات الشربيني على شرح المحلي على جمِ الجوامع)) (2/350). .
3- أنَّه لو لم يَكُنِ الحُكمُ الثَّابتُ الآنَ ثابتًا أمسِ لكان غَيرَ ثابتٍ؛ إذ لا واسِطةَ بَينَهما، وإذا كان غَيرَ ثابتٍ أمسِ اقتَضى الاستِصحابُ أنَّه الآنَ غَيرُ ثابتٍ، لكِنَّه ثابتٌ الآنَ؛ فدَلَّ على أنَّه كان ثابتًا أمسِ أيضًا [2366] يُنظر: ((الغيث الهامع)) لأبي زرعة العراقي (ص:643،644)، ((غاية الوصول)) لزكريا الأنصاري (ص:146). .
ومِثالُه:
1- إذا وجَدنا رِكازًا مَدفونًا في الأرضِ ولم يُعرَفْ: هَل هو مِن دَفينِ الجاهِليَّةِ أوِ الإسلامِ؟ ففيه وَجهٌ عِندَ الشَّافِعيَّةِ أنَّه رِكازٌ؛ لأنَّ المَوضِعَ يَشهَدُ له، وعلى هذا الوَجهِ فقد استصحَبْنا مَقلوبًا؛ لأنَّا استَدلَلْنا بوِجدانِه في الإسلامِ على أنَّه كان مَوجودًا قَبلَ ذلك [2367] يُنظر: ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (6/2613، 2614)، ((البحر المحيط)) للزركشي (8/25). .
2- إذا أشكَلَ حالُ القَريةِ التي فيها الكَنيسةُ: هَل أحدَثَها المُسلِمونَ أم لا؟ فإنَّها تُقَرُّ؛ استِصحابًا لظاهِرِ الحالِ. نَقَله الزَّركَشيُّ عنِ الرُّويانيِّ، وذَكَرَ أنَّ الرَّافِعيَّ لم يَحكِ غَيرَه [2368] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (8/26). .

انظر أيضا: