موسوعة أصول الفقه

الفَرعُ الثَّالثُ: استِصحابُ الدَّليلِ مَعَ احتِمالِ المُعارِضِ


ويُقصَدُ به استِصحابُ الدَّليلِ القائِم حتَّى يَرِدَ ما يُعارِضُه، فلمَّا كان النَّصُّ يَحتَمِلُ النَّسخَ الذي يَرفعُ حُكمَه، والعامُّ يحتَمِلُ التَّخصيصَ الذي يَقصُرُه على بَعضِ أفرادِه، وكَذا المُطلَقُ يَحتَمِلُ التَّقييدَ، والاسمُ اللُّغَويُّ يَحتَمِلُ النَّقلَ إلى مَعنًى شَرعيٍّ أو عُرفيٍّ؛ فإنَّ هذه الاحتِمالاتِ لا تُؤَثِّرُ على الحُكمِ، بَل يُستَصحَبُ الدَّليلُ، وهو النَّصُّ والعُمومُ والإطلاقُ ونَحوُها، ويُعمَلُ بها حتَّى يَرِدَ النَّسخُ أوِ التَّخصيصُ أوِ التَّقييدُ أوِ النَّقلُ [2323] يُنظر: ((ميزان الأصول)) لعلاء الدين السمرقندي (ص: 659-661)، ((شرح المعالم)) لابن التلمساني (2/459). .
فإذا ورَدَ لفظٌ عامٌّ ولم نَجِدْ دَليلًا على تَخصيصِه، فإنَّه يُستَصحَبُ حُكمُ العامِّ في الفَردِ المُتَنازَعِ فيه، وعلى مَنِ ادَّعى التَّخصيصَ إقامةُ الدَّليلِ على أنَّ الفَردَ مَحَلَّ النِّزاعِ خَرَجَ مِن حُكمِ العامِّ [2324] يُنظر: ((الإحكام)) لابن حزم (5/2)، ((شرح المعالم)) لابن التلمساني (2/459)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (8/3955)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/156). .
ومِثالُ ذلك: قَولُ اللهِ تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقةُ فاقُطَعوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة: 38] .
فعُمومُ الآيةِ يَقتَضي إيجابَ القَطعِ في كُلِّ ما يُسَمَّى آخِذُه سارِقًا، إلَّا ما استَثناه الدَّليلُ [2325] يُنظر: ((تخريج الفروع على الأصول)) للزنجاني (348-350). .
مِثالٌ آخَرُ: عن ابنِ عُمَرَ عن حَفصةَ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((لا صيامَ لمَن لم يُجمِعِ الصِّيامَ قَبلَ الفَجرِ)) [2326]  أخرجه موقوفًا النسائي (2338)، والدارقطني (3/130). صَحَّحه الألبانيُّ في ((صحيح سنن النسائي)) (2338)، وقال البخاري كما في ((العلل الكبير)) للترمذي (118): هو حَديثٌ فيه اضطِرابٌ، والصَّحيحُ عن ابنِ عُمَرَ: مَوقوفٌ، وقال النَّسائي في ((السنن الكبرى)) (2661): الصَّوابُ عِندَنا مَوقوفٌ، ولم يَصِحَّ رَفعُه، وقال ابنُ حَجَرٍ في ((التلخيص الحبير)) (2/778): اختَلف الأئِمَّةُ في رَفعِه ووقفِه؛ فقال ابنُ أبي حاتِمٍ عن أبيه: لا أدري أيُّهما أصَحُّ، لكِنَّ الوَقفَ أشبَهُ، وقال النَّسائيُّ: الصَّوابُ عِندي مَوقوفٌ، ولم يَصِحَّ رَفعُه. .
فهو عامٌّ في كُلِّ صيامٍ، سَواءٌ كان صيامَ فَرضٍ أو نَفلٍ، وعلى مَن يَدَّعي تَخصيصَه بالفَرضِ إقامةُ الدَّليلِ على إخراجِ النَّفلِ [2327] يُنظر: ((المستصفى)) للغزالي (ص:201)، ((إيضاح المحصول)) للمازري (ص:381)، ((الإحكام)) للآمدي (3/59). .
وإذا دَلَّ على الحُكمِ دَليلٌ دونَ أن يُبَيِّنَ الدَّليلُ دَوامَ الحُكمِ واستِمرارَه أو نَسخَه، فإنَّ الاستِصحابَ يَدُلُّ على دَوامِه واستِمرارِه وعَدَمِ نَسخِه، ولولا هذا لتَطَرَّق احتِمالُ النَّسخِ لكُلِّ حُكمٍ ثابتٍ، ولم يَدُلَّ دَليلٌ على دَوامِه واستِمرارِه؛ فالنَّصُّ دَليلٌ على دَوامِ الحُكمِ حتَّى يَرِدَ النَّسخُ، وعلى مَن يَدَّعي التَّخصيصَ أوِ النَّسخَ الإتيانُ بالدَّليلِ [2328] يُنظر: ((التمهيد)) للكلوذاني (4/253، 254)، ((المحصول)) للرازي (6/120، 121)، ((شرح المعالم)) لابن التلمساني (2/459)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/156). .
والأُصوليُّونَ لم يَختَلِفوا في العَمَلِ بهذا النَّوعِ مِنَ الاستِصحابِ، ومِمَّن نَقَل الإجماعَ: الزَّركَشيُّ [2329] قال: (هذا أمرُه مَعمولٌ به بالإجماعِ). ((البحر المحيط)) (8/19). ، والمَحَلِّيُّ [2330] قال: (حُجَّةٌ جَزمًا). ((البدر الطالع)) (2/317). .
والاختِلافُ بَينَ الأُصوليِّينَ في هذا النَّوعِ في التَّسميةِ: هل يُسَمَّى استِصحابًا أو لا؟
فصَحَّحَ عَدَدٌ مِنَ الأُصوليِّينَ تَسميَتَه استِصحابًا مُحتَجِّينَ بأنَّ ثُبوتَ الحُكمِ بالنَّصِّ، لكِنَّ الذي دَلَّ على بَقاءِ الحُكمِ هو الاستِصحابُ، فدَليلُ الحُكمِ غَيرُ دَليلِ البَقاءِ؛ فالنَّصُّ أثبَتَ أصلَ الحُكمِ، وبَقاءُ الحُكمِ ثَبَتَ بدَليلٍ آخَرَ، وهو الاستِصحابُ؛ لأنَّه لو كان دَليلُ البَقاءِ دَليلَ الثُّبوتِ لما جازَ النَّسخُ؛ فإنَّ النَّسخَ يَرفعُ البَقاءَ والدَّوامَ [2331] يُنظر: ((تقويم الأدلة)) للدبوسي (ص:324، 325، 400)، ((البحر المحيط)) للزركشي (8/19). .
ومَنَعَ إمامُ الحَرَمَينِ [2332] يُنظر: ((البرهان)) (2/171). ، وابنُ السَّمعانيِّ [2333] قال السَّمعانيُّ: (هذا المَوضِعُ نَتَّفِقُ عليه ولا يَجوزُ أنَّ يُسَمَّى هذا استِصحابَ الحالِ؛ لأنَّ لفظَ العُمومِ دَلَّ على استِغراقِه جَميعَ ما يَتَناولُه اللَّفظُ في أصلِ الوَضعِ في الأعيانِ وفى الأزمانِ، فأيُّ عَينٍ وُجِدَت ثَبت الحُكمُ فيها، وأيُّ زَمانٍ وُجِد ثَبَتَ الحُكمُ فيه، يَكونُ اللَّفظُ دالًّا عليه، وتَناوُلُه بعُمومِه، فيَكونُ ثُبوتُ الحُكمِ في هذه الصُّورةِ مِن ناحيةِ العُمومِ لا مِن ناحيةِ استِصحابِ الحالِ). ((قواطع الأدلة)) (235). ، وإلْكِيا [2334] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (8/19). تَسميَتَه استِصحابًا؛ لأنَّ الحُكمَ فيه ثابتٌ باللَّفظِ لا بالاستِصحابِ.
لكِنَّ إمامَ الحَرَمَينِ قال: (فهذه مُناقَشةٌ لفظيَّةٌ؛ فإنَّه ثَبَتَ بالدَّليلِ القاطِعِ قيامُ الدَّليلِ إلى يَومِ نَسخِه؛ فإن سَمَّى مُسَمٍّ هذا استِصحابًا لم يُناقَشْ في لفظٍ) [2335] ((البرهان)) (2/171). .

انظر أيضا: