موسوعة أصول الفقه

المَطلَبُ الخامِسُ: أهَمِّيَّةُ اعتِبارِ العُرفِ في الاجتِهادِ


مِن شُروطِ الاجتِهادِ ضَرورةُ المَعرِفةِ بالأعرافِ وأحوالِ النَّاسِ؛ فقد كان الشَّافِعيُّ رَحِمَه اللهُ يَشتَرِطُ المُتابَعةَ الدَّائِمةَ للتَّغَيُّراتِ وتَطَوُّراتِ الأُمورِ؛ إذ لا يُقبَلُ مِنَ الفقيه الذي غابَ عن مَعرِفةِ أحوالِ السُّوقِ سَنةً واحِدةً أن يُفتيَ فيما غابَ عنه، فقال الشَّافِعيُّ: (لا يَجوزُ لعالمٍ بسُوقِ سِلعةٍ مُنذُ زَمانٍ، ثُمَّ خَفيَت عنه سَنةً أن يُقالَ له: قَوِّم عبدًا مِن صِفَتِه كَذا وكَذا؛ لأنَّ السُّوقَ تَختَلِفُ، ولا لرَجُلٍ أبصَرَ بَعضَ صِنفٍ مِنَ التِّجاراتِ، وجَهِلَ غَيرَ صِنفِه، والغَيرُ الذي جَهِلَ لا دَلالةَ له عليه ببَعضِ عِلمِ الذي عَلِمَ: قَوِّمْ كَذا، كما لا يُقالُ لبَنَّاءٍ: انظُرْ قِيمةَ الخياطةِ، ولا لخَيَّاطِ: انظُرْ قيمةَ البِناءِ) [2739] ((الأم)) (7/317). .
فهو لم يُورِدْ هذا في مَعرِضِ حَديثِه عن فُروعٍ فِقهيَّةٍ، وإنَّما في مَعرِضِ الحَديثِ عن شُروطِ الاجتِهادِ؛ لكَي تُراعى في تَنزيلِ الأحكامِ [2740] يُنظر: ((تربية ملكة الاجتهاد)) لبولوز (2/1003). .
وقد تَكَلَّمَ إمامُ الحَرَمَينِ عن أهَمِّيَّةِ إدراكِ الفقيهِ لمَجاري الأحوالِ، فقال: (مَن لم يَمزُجِ العُرفَ في المُعامَلاتِ بفِقهِها لم يَكُنْ على حَظٍّ كامِلٍ فيها) [2741]  ((نهاية المطلب)) (11/382). .
وأكَّدَ ابنُ القَيِّمِ ذلك ونَبَّهَ على أنَّ الإفتاءَ بمُجَرَّدِ ما في الكُتُبِ مَعَ اختِلافِ الأعرافِ والأزمِنةِ والأمكِنةِ ضَلالٌ وجِنايةٌ على الدِّينِ، فقال: (مَن أفتى النَّاسَ بمُجَرَّدِ المَنقولِ في الكُتُبِ على اختِلافِ عُرفِهم وعَوائِدِهم وأزمِنَتِهم وأمكِنَتِهم وأحوالِهم وقَرائِنِ أحوالِهم، فقد ضَلَّ وأضَلَّ، وكانت جِنايَتُه على الدِّينِ أعظَمَ مِن جِنايةِ مَن طَبَّبَ النَّاسَ كُلَّهم على اختِلافِ بلادِهم وعَوائِدِهم وأزمِنَتِهم وطَبائِعِهم بما في كِتابٍ مِن كُتُبِ الطِّبِّ على أبدانِهم، بَل هذا الطَّبيبُ الجاهلُ وهذا المُفتي الجاهِلُ أضَرُّ ما على أديانِ النَّاسِ وأبدانِهم. واللهُ المُستَعانُ) [2742]  ((إعلام الموقعين)) (3/548). .

انظر أيضا: