موسوعة أصول الفقه

المَطلَبُ الثَّالثُ: حُكمُ الاستِدلالِ بالعُرفِ


العُرفُ المُستَمِرُّ بَينَ النَّاسِ إمَّا أن يُقِرَّه الدَّليلُ الشَّرعيُّ، أو يَنفيَه، أو لا يَتَعَرَّضَ له.
فإن أقَرَّه الدَّليلُ الشَّرعيُّ بأن أمَر به إيجابًا أو نَدبًا، أو نَفاه بأن نَهى عنه كَراهةً أو تَحريمًا؛ فهو على وَفقِ الدَّليلِ الشَّرعيِّ ثابتٌ لا يَتَغَيَّرُ وإن تَغَيَّرَت أعرافُ النَّاسِ، وذلك كالأمرِ بإزالةِ النَّجاسةِ وسَترِ العَوراتِ، والنَّهيِ عنِ الطَّوافِ بالبَيتِ على العُريِ، وما أشبَهَ ذلك مِنَ العَوائِدِ التي كانت جاريةً في النَّاسِ؛ فإنَّها مِن جُملةِ الأُمورِ الدَّاخِلةِ تَحتَ أحكامِ الشَّرعِ، فلا تَبديلَ لها؛ فلا يَصِحُّ أن يَنقَلبَ الحَسَنُ فيها قَبيحًا ولا القَبيحُ حَسَنًا، حتَّى يُقالَ مَثَلًا: إنَّ كَشفَ العَورةِ الآنَ ليس بعَيبٍ ولا قَبيحٍ، فلْنُجِزْه، أو غَيرَ ذلك؛ إذ لو صَحَّ لكان نَسخًا للأحكامِ المُستَقِرَّةِ المُستَمِرَّةِ، والنَّسخُ بَعدَ مَوتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم باطِلٌ، فرَفعُ العَوائِدِ الشَّرعيَّةِ باطِلٌ [2717] يُنظر: ((الموافقات)) للشاطبي (2/488، 489). .
وأمَّا العُرفُ الذي لم يَأمُرْ به الشَّارِعُ ولم يَنهَ عنه فالعَمَلُ به مَشهورٌ بَينَ العُلماءِ مِنَ السَّلفِ والخَلفِ [2718] قال القَرافيُّ: (أمَّا العُرفُ فمُشتَرِكٌ بَينَ المَذاهِبِ، ومَنِ استَقرَأها وجَدَهم يُصَرِّحونَ بذلك فيها). ((شرح تنقيح الفصول)) (ص:448). ويُنظر: ((العرف والعادة)) لأبي سنة (ص:23)، ((الوجيز)) لمحمد الزحيلي (1/ 267). ، فقدَ بوَّب البخاريُّ بابًا بعُنوانِ (بابُ مَن أجرى أمرَ الأمصارِ على ما يَتَعارَفونَ بَينَهم في البُيوعِ والإجارةِ والمِكيالِ والوَزنِ وسُنَنِهم على نيَّاتِهم ومَذاهِبِهمُ المَشهورةِ) [2719] ((صحيح البخاري)) (3/78). ، قال شارِحُه ابنُ بَطَّالٍ: (العُرفُ عِندَ الفُقَهاءِ أمرٌ مَعمولٌ به، وهو كالشَّرطِ اللَّازِمِ في البُيوعِ وغَيرِها) [2720] ((شرح صحيح البخاري)) (6/333). .
والعَمَلُ بالعُرفِ ثابتٌ عِندَ الحَنَفيَّةِ [2721] قال السَّرَخسيُّ: (الثَّابِتُ بدَلالةِ العُرفِ كالثَّابتِ بدَلالةِ النَّصِّ). ((المبسوط)) (4/227)، ويُنظر: ((نشر العرف)) لابن عابدين ضمن ((مجموعة رسائل ابن عابدين)) (2/115). ، والمالِكيَّةِ [2722] قال الشَّاطِبيُّ: (مِن أُصولِ الشَّرعِ إجراءُ الأحكامِ على العَوائِدِ). ((الموافقات)) (3/439). ويُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص:448). ، والشَّافِعيَّةِ [2723] قال السُّيوطيُّ: (اعلَمْ أنَّ اعتِبارَ العادةِ والعُرفِ رجعَ إليه في الفِقهِ في مَسائِلَ لا تُعَدُّ كَثرةً). ((الأشباه والنظائر)) (ص:90). ويُنظر: ((الغيث الهامع)) لأبي زرعة العراقي (ص:658)، ((القواعد)) للحصني (1/42). ، والحَنابِلةِ [2724] يُنظر: ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (4/448). ، إلَّا أنَّ الحَنَفيَّةَ والمالكيَّةَ اشتَهرَ عنهم كَثرةُ الاعتِمادِ على العُرفِ في الفُروعِ الفِقهيَّةِ.
الأدِلَّةُ على حُجِّيَّةِ العُرفِ:
أوَّلًا: مِنَ القُرآنِ الكَريمِ
1- قَولُ الله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف: 199] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ العُرفَ ما يَعرِفُه النَّاسُ ويتعارَفونه فيما بَينَهم مُعامَلةً [2725] يُنظر: ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/ 29)، ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (2/80)، ((تشنيف المسامع)) للزركشي (3/472). ؛ فالأمرُ بالعُرفِ في الآيةِ يَدُلُّ على وُجوبِ الرُّجوعِ إلى عاداتِ النَّاسِ، وما جَرى تَعامُلُهم به، وهذا يَدُلُّ على اعتِبارِ العاداتِ في الشَّرعِ بنَصِّ الآيةِ [2726] يُنظر: ((الوجيز)) لمحمد الزحيلي (1/ 267). .
قال ابنُ عَطيَّةَ: (وقَولُه: وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ مَعناه: بكُلِّ ما عَرَفَته النُّفوسُ مِمَّا لا تَرُدُّه الشَّريعةُ) [2727] ((المحرر الوجيز)) (2/ 491). .
2- قَولُ الله تعالى: وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ [البقرة: 236] .
3- قَولُ الله تعالى: فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ [البقرة: 240] .
4- قَولُ الله تعالى: وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة: 241] .
5- قَولُ الله تعالى: وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [النساء: 6] .
6- قَولُ الله تعالى: وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء: 25] .
وَجهُ الدَّلالةِ مِن هذه الآياتِ:
أنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ أحال في هذه الأحكامِ والتَّقديراتِ إلى ما يتَعارَفُه النَّاسُ، ولولا كَونُه حُجَّةً لما أحالهمُ اللهُ عليه؛ قال العِزُّ بنُ عبدِ السَّلامِ: (الغالِبُ في كُلِّ ما رُدَّ في الشَّرعِ إلى المَعروفِ أنَّه غَيرُ مُقدَّرٍ، وأنَّه يُرجَعُ فيه إلى ما عُرِف في الشَّرعِ، أو إلى ما يَتَعارَفُه النَّاسُ) [2728] يُنظر: ((قواعد الأحكام)) (1/71). .
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ النَّبَويَّةِ [2729] يُنظر: ((الفوائد السنية)) للبرماوي (5/2153)، ((التحبير)) للمرداوي (8/3853)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (4/450).
1- عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها أنَّ هندًا امرَأةَ أبي سُفيانَ قالت للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّ أبا سُفيانَ رَجُلٌ شَحيحٌ، فأحتاجُ أن آخُذَ مِن مالِه، قال: ((خُذي ما يَكفيك ووَلَدَك بالمَعروفِ)) [2730]  أخرجه البخاري (7180)، واللفظ له، ومسلم (1714). .
2- قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لحَمنةَ بنتِ جَحشٍ: ((تَحَيَّضي في عِلمِ اللَّهِ سِتًّا أو سَبعًا كما تَحيضُ النِّساءُ ويَطهُرنَ)) [2731]  أخرجه أبو داود (287)، والترمذي (128)، وابن ماجه (627) باختلافٍ يسيرٍ، ولفظُ أبي داودَ: ((فتَحَيَّضي سِتَّةَ أيَّامٍ أو سَبعةَ أيَّامٍ في عِلمِ اللهِ)) صَحَّحه الإمامُ أحمَد، والبخاري كما في ((سنن الترمذي)) (128)، والترمذي، وعبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الوُسطى)) (1/216)، والنووي في ((المَجموع)) (2/377). .
وَجهُ الدَّلالةِ مِنَ الحَديثَينِ السَّابقَينِ:
الرَّدُّ إلى العُرفِ في كُلٍّ مِنهما، ولو لم يَكُنْ حُجَّةً لما أحال عليه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [2732] يُنظر: ((شفاء الغليل)) للغزالي (ص:410)، ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (6/334). .
3- عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((مَن عَمِل عَمَلًا ليس عليه أمرُنا فهو رَدٌّ)) [2733]  أخرجه البخاري مُعَلَّقًا بصيغةِ الجَزمِ قَبلَ حَديث (7350)، وأخرجه مَوصولًا مُسلم (1718). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
الحَديثُ دَليلٌ على اعتِبارِ ما عليه المُسلِمونَ؛ إمَّا مِن جِهةِ الأمرِ الشَّرعيِّ، أو مِن جِهةِ العادةِ المُستَقِرَّةِ؛ لشُمولِ قَولِه: ((ليس عليه أمرُنا)) ذلك [2734] يُنظر: ((الفوائد السنية)) للبرماوي (5/2153). .

انظر أيضا: