موسوعة أصول الفقه

المَطلَبُ الثَّاني: وُقوعُ التَّرادُفِ


اختَلَف الأُصوليُّونَ في ذلك؛ فقيلَ: إنَّ وُقوعَ التَّرادُفِ ثابِتٌ، ومِمَّن قال به: الرَّازيُّ [169] يُنظر: ((المحصول)) (1/254). ، والزَّركَشيُّ [170] يُنظر: ((البحر المحيط)) (2/355). ، وأبو زُرعةَ العِراقيُّ [171] يُنظر: ((الغيث الهامع)) (ص: 161). ، ونَسَبَه صَفيُّ الدِّينِ الهِنديُّ وغَيرُه إلى جُمهورِ الأُصوليِّينَ [172] يُنظر: ((الفائق)) (1/ 66). ويُنظر أيضًا: ((الفوائد السنية)) للبرماوي (2/806). .
قال الرَّازيُّ: (المَسألةُ الأولى في إثباتِه: مِنَ النَّاسِ مَن أنكَرَه وزَعم أنَّ الذي يُظَنُّ أنَّه مِنَ المُتَرادِفاتِ فهو مِنَ المُتَبايِناتِ التي تَكونُ لتَبايُنِ الصِّفاتِ أو لتَبايُنِ المَوصوفِ مَعَ الصِّفاتِ، والكَلامُ مَعَهم إمَّا في الجَوازِ، وهو مَعلومٌ بالضَّرورةِ، أو في الوُقوعِ، وهو إمَّا في لُغَتَينِ وهو أيضًا مَعلومٌ بالضَّرورةِ، أو في لُغةٍ واحِدةٍ، وهو مِثلُ الأسَدِ واللَّيثِ؛ والحِنطةِ والقَمحِ. والتَّعَسُّفاتُ التي يَذكُرُها الاشتِقاقيُّون في دَفعِ ذلك مِمَّا لا يَشهَدُ بصِحَّتِها عَقلٌ ولا نَقلٌ؛ فوجَبَ تَركُها عليهم) [173] ((المحصول)) (1/254-255). .
وقيلَ: إنَّ التَّرادُفَ غَيرُ واقِعٍ، وبه قال بَعضُ أئِمَّةِ العَرَبيَّةِ، كابنِ فارِسٍ [174] يُنظر: ((الصاحبي)) (ص: 19). ، والرَّاغِبِ [175] يُنظر: ((المفردات)) (ص: 55). . وبَعضِ الأُصوليِّينَ [176] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (1/254)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (2/806-807). ، ومِنهم: الجُوَينيُّ [177] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (2/357). .
قال الزَّركَشيُّ: (ومِمَّنِ اختارَ ذلك مِنَ المُتَأخِّرينَ: الجُوَينيُّ في "اليَنابيعِ"، وقال: أكثَرُ ما يُظَنُّ أنَّه مِنَ المُتَرادِفِ ليس كذلك، بَلِ اللَّفظانِ مَوضوعانِ لمَعنَيَينِ مُختَلِفينِ، لَكِنَّ وَجهَ الخِلافِ خَفيٌّ) [178] ((البحر المحيط)) (2/357). .
قال الأصفهانيُّ: (مِنَ النَّاسِ مَن أنكَرَ التَّرادُفَ، وقال: "ليس في الألفاظِ شَيءٌ مِنَ المُتَرادِفاتِ"، ويَنبَغي أن يُحمَلَ كَلامُ المُنكِرِ للتَّرادُفِ على مَنعِ التَّرادُفِ في لُغةٍ واحِدةٍ، وأمَّا في لُغَتَينِ فلا يُنكِرُه عاقِلٌ أصلًا) [179] ((الكاشف)) (2/118). .
ولا تَعارُضَ حَقيقةً بَينَ وُجودِ التَّرادُفِ في مُفرَداتِ اللُّغةِ، وبَينَ وُجودِ فُروقٍ بَينَها. بمَعنى: أنَّ التَّرادُفَ -مِن حَيثُ إنَّه اشتِراكُ ألفاظٍ في مَعنًى واحِدٍ- أمرٌ واقِع وثابِتٌ لا يُمكِنُ إنكارُه، لَكِنَّ الحَقيقةَ أنَّه اشتِراكٌ في المَعنى العامِّ أو في الدَّلالةِ على ذاتٍ واحِدةٍ، فمِن هذه الوِجهةِ هناكَ تَرادُفٌ، وفي ذاتِ الوَقتِ يوجَدُ بَينَ مَعاني تلك الألفاظِ المُتَرادِفةِ فُروقٌ مُحَقَّقةٌ بَينَها، وإن تَعَذَّر على البَعضِ مَعرِفتُها، بحَيثُ إنَّها تَجعَلُ لكُلِّ لَفظٍ خُصوصيَّةً في المَعنى؛ ليوضَعَ في المَوضِعِ الصَّحيحِ والأنسَبِ له في سياقِ الكَلامِ، وليُعَبَّرَ عنِ المَعنى المُرادِ بدِقَّةٍ أكبَرَ، وأمَّا تَسميةُ بَعضِها بالمُتَبايِنةِ والمُتَكافِئةِ ونَحوِ ذلك فهيَ مُصطَلَحاتٌ، ولا مُشاحَّةَ في الاصطِلاحِ، والعِبرةُ بالحَقائِقِ.
قال ابنُ تَيميَّةَ: (التَّرادُفُ في اللُّغةِ قَليلٌ، وأمَّا في ألفاظِ القُرآنِ فإمَّا نادِرٌ، وإمَّا مَعدومٌ، وقَلَّ أن يُعَبَّرَ عن لَفظٍ واحِدٍ بلَفظٍ واحِدٍ يُؤَدِّي جَميعَ مَعناه، بَل يَكونُ فيه تَقريبٌ لمَعناه، وهذا مِن أسبابِ إعجازِ القُرآنِ) [180] ((مجموع الفتاوى)) (13/ 341). .
وذَكَرَ ابنُ تَيميَّةَ أنَّ مِن قَبيلِ اختِلافِ التَّنَوُّعِ الواقِعِ بَينَ السَّلَفِ في تَفسيرِ القُرآنِ الكَريمِ (أن يُعَبِّرَ كُلُّ واحِدٍ مِنهم عنِ المُرادِ بعِبارةٍ غَيرِ عِبارةِ صاحِبِه، تَدُلُّ على معنًى في المُسَمَّى غَيرِ المَعنى الآخَرِ، مَعَ اتِّحادِ المُسَمَّى... كما قيلَ في اسمِ السَّيفِ: الصَّارِمُ والمُهَنَّدُ، وذلك مِثلُ أسماءِ اللهِ الحُسنى، وأسماءِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأسماءِ القُرآنِ؛ فإنَّ أسماءَ اللهِ كُلَّها تَدُلُّ على مسمًّى واحِدٍ) [181] ((مجموع الفتاوى)) (13/ 333). .
قال ابنُ تيميَّةَ: (فإذا كان مَقصودُ السَّائِلِ تَعيينَ المُسَمَّى عَبَّرنا عنه بأيِّ اسمٍ كان، إذا عُرِف مُسَمَّى هذا الاسمِ، وقد يَكونُ الاسمُ عَلَمًا، وقد يَكونُ صِفةً، كَمَن يَسألُ عن قَولِه: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي. ما ذِكرُه؟ فيُقالُ له: هو القُرآنُ مَثَلًا... وإن كان مَقصودُ السَّائِلِ مَعرِفةَ ما في الاسمِ مِنَ الصِّفةِ المُختَصَّةِ به، فلا بُدَّ مِن قَدرٍ زائِدٍ على تَعيينِ المُسَمَّى، مِثلُ: أن يَسألَ عنِ القُدُّوسِ السَّلامِ المُؤمِنِ، وقد عَلِمَ أنَّه اللهُ، لَكِنَّ مُرادَه: ما مَعنى كَونِه قُدُّوسًا سَلامًا مُؤمِنًا ونَحوَ ذلك؟) [182] ((مجموع الفتاوى)) (13/ 334-335). .
وقال أيضًا: (كما أنَّ اللَّفظَ قد يَتَّحِدُ ويَتَعَدَّدُ مَعناه، فقد يَتَعَدَّدُ ويَتَّحِدُ مَعناه كالألفاظِ المُتَرادِفةِ. وإن كان مِنَ النَّاسِ مَن يُنكِرُ التَّرادُفَ المَحضَ فالمَقصودُ أنَّه قد يَكونُ اللَّفظانِ مُتَّفِقَينِ في الدَّلالةِ على مَعنًى ويَمتازُ أحَدُهما بزيادةٍ، كما إذا قيلَ في السَّيفِ: إنَّه سَيفٌ وصارِمٌ ومُهَنَّدٌ؛ فلَفظُ السَّيفِ يَدُلُّ عليه مُجَرَّدًا، ولَفظُ الصَّارِمِ في الأصلِ يَدُلُّ على صِفةِ الصَّرمِ عليه، والمُهَنَّدُ يَدُلُّ على النِّسبةِ إلى الهِندِ، وإن كان يُعرَفُ الاستِعمالِ مِن نَقلِ الوَصفيَّةِ إلى الاسميَّةِ، فصارَ هذا اللَّفظُ يُطلَقُ على ذاتِه مَعَ قَطعِ النَّظَرِ عن هذه الإضافةِ، لَكِن مَعَ مُراعاةِ هذه الإضافةِ: مِنهم مَن يَقولُ: هذه الأسماءُ لَيسَت مُتَرادِفةً؛ لاختِصاصِ بَعضِها بمَزيدِ مَعنًى. ومِنَ النَّاسِ مَن جَعَلَها مُتَرادِفةً باعتِبارِ اتِّحادِها في الدَّلالةِ على الذَّاتِ، وأولئك يَقولونَ: هيَ مِنَ المُتَبايِنةِ، كلَفظِ الرَّجُلِ والأسَدِ، فقال لهم هؤلاء: لَيسَت كالمُتَبايِنةِ. والإنصافُ: أنَّها مُتَّفِقةٌ في الدَّلالةِ على الذَّاتِ، مُتَنَوِّعةٌ في الدَّلالةِ على الصِّفاتِ، فهيَ قِسمٌ آخَرُ قد يُسَمَّى المُتَكافِئةَ) [183] ((مجموع الفتاوى)) (20/ 423). .
وقال ابنُ القَيِّمِ: (فالأسماءُ الدَّالَّةُ على مسمًّى واحِدٍ نَوعانِ:
أحَدُهما: أن يَدُلَّ عليه باعتِبارِ الذَّاتِ فقَط، فهذا النَّوعُ هو المُتَرادِفُ تَرادُفًا مَحضًا، وهذا كالحِنطةِ والقَمحِ والبُرِّ؛ والِاسمِ والكُنيةِ واللَّقَبِ، إذا لَم يَكُنْ فيه مَدحٌ ولا ذَمٌّ، وإنَّما أُتيَ به لمُجَرَّدِ التَّعريفِ.
والنَّوعُ الثَّاني: أن يَدُلَّ على ذاتٍ واحِدةٍ باعتِبارِ تَبايُنِ صِفاتِها، كَأسماءِ الرَّبِّ تعالى، وأسماءِ كَلامِه، وأسماءِ نَبيِّه، وأسماءِ اليَومِ الآخِرِ، فهذا النَّوعُ مُتَرادِفٌ بالنِّسبةِ إلى الذَّاتِ، مُتَبايِنٌ بالنِّسبةِ إلى الصِّفاتِ، فالرَّبُّ والرَّحمَنُ والعَزيزُ والقديرُ والمَلِكُ يَدُلُّ على ذاتٍ واحِدةٍ باعتِبارِ صِفاتٍ مُتَعَدِّدةٍ... وقد أنكَرَ كَثيرٌ مِنَ النَّاسِ التَّرادُفَ في اللُّغةِ، وكأنَّهم أرادوا هذا المَعنى، وأنَّه ما مِنِ اسمَينِ لمسمًّى واحِدٍ إلَّا وبَينَهما فَرقٌ في صِفةٍ أو نِسبةٍ أو إضافةٍ، سَواءٌ عُلِمَت لَنا أو لَم تُعلَمْ، وهذا الذي قالوه صحيحٌ باعتِبارِ الواضِعِ الواحِدِ، ولَكِن قد يَقَعُ التَّرادُفُ باعتِبارِ واضِعَينِ مُختَلِفَينِ، يُسَمِّي أحَدُهما المُسَمَّى باسمٍ، ويُسَمِّيه الواضِعُ الآخَرُ باسمِ غَيرِه، ويَشتَهِرُ الوَضعانِ عِندَ القَبيلةِ الواحِدةِ، وهذا كَثيرٌ، ومِن هَاهنا يَقَعُ الاشتِراكُ أيضًا، فالأصلُ في اللُّغةِ هو التَّبايُنُ، وهو أكثَرُ اللُّغةِ، واللَّهُ أعلَمُ) [184] ((روضة المحبين)) (ص: 86). .
وقال عِزُّ الدِّينِ بنُ جَماعةَ: (حَكى الشَّيخُ القاضي أبو بَكرِ بنُ العَرَبيِّ بسَنَدِه عن أبي عَليٍّ الفارِسيِّ، قال: كُنتُ بمَجلِسِ سَيفِ الدَّولةِ بحَلَبٍ، وبالحَضرةِ جَماعةٌ مِن أهلِ اللُّغةِ، وفيهمُ ابنُ خالَوَيه. فقال ابنُ خالَوَيه: أحفَظُ للسَّيفِ خَمسينَ اسمًا، فتَبَسَّمَ أبو عَليٍّ، وقال: ما أحفَظُ له إلَّا اسمًا واحِدًا، وهو السَّيفُ! قال ابنُ خالَوَيه: فأينَ المُهَنَّدُ والصَّارِمُ وكَذا وكَذا؟! فقال أبو عَليٍّ: هذه صِفاتٌ! وكَأنَّ الشَّيخَ لا يُفرِّقُ بَينَ الاسمِ والصِّفةِ.
قال الشَّيخُ عِزُّ الدِّينِ: والحاصِلُ أنَّ مَن جَعَلَها مُتَرادِفةً نَظَرَ إلى اتِّحادِ دَلالَتِها على الذَّاتِ، ومَن يَمنَعُ يَنظُرُ إلى اختِصاصِ بَعضِها بمَزيدِ مَعنًى، فهيَ تُشبِه المُتَرادِفةَ في الذَّاتِ، والمُتَبايِنةَ في الصِّفاتِ.
قال بَعضُ المُتَأخِّرينَ: ويَنبَغي أن يَكونَ هذا قِسمًا آخَرَ، وسَمَّاه المُتَكافِئةَ.
قال: وأسماءُ اللهِ تعالى وأسماءُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن هذا النَّوعِ؛ فإنَّك إذا قُلتَ: إنَّ اللَّهَ غَفورٌ رَحيمٌ قديرٌ، تُطلِقُها دالَّةً على المَوصوفِ بهذه الصِّفاتِ) [185] يُنظر: ((المزهر)) للسيوطي (1/ 318). .

انظر أيضا: