موسوعة أصول الفقه

المَسألةُ الخامِسةُ: بَيانُ الضَّرورةِ


أي: البَيانُ الذي يَقَعُ بسَبَبِ الضَّرورةِ، فكَأنَّ الحُكمَ قد أُضيفَ إلى سَبَبِه بما لَم يوضَعْ له، وهو السُّكوتُ، وهو نَوعٌ مِنَ البَيانِ يَحصُلُ بغَيرِ ما وُضِعَ له في الأصلِ [536] يُنظر: ((أصول السرخسي)) (2/50)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (3/147)، ((تفسير النصوص)) للصالح (1/38). . فالأصلُ في البَيانِ أن يَكونَ بالنُّطقِ، ولَكِن قد يَكونُ السُّكوتُ بديلًا عنِ النُّطقِ في بَيانِ ما يُرادُ بَيانُه مِنَ الأحكامِ، بسَبَبِ ضَرورةٍ يَقتَضيها الخِطابُ، فكان السُّكوتُ نَوعًا مِنَ البَيانِ. فبَيانُ الضَّرورةِ نَوعٌ مِنَ التَّوضيحِ يَقَعُ بسَبَبِ الضَّرورةِ بما لَم يوضَعْ للبَيانِ، وهو السُّكوتُ؛ إذِ المَوضوعُ للبَيانِ إنَّما هو النُّطقُ، وهذا لَم يَقَعِ البَيانُ به، بَل بالسُّكوتِ عنه؛ فحَصَلَ البَيانُ بما لَم يوضَعْ للبَيانِ. وهو مِنَ الدَّلالةِ غَيرِ اللَّفظيَّةِ؛ لأنَّ دَلالَتَه كُلَّها دَلالةُ سُكوتٍ، ولَكِنَّه يُلحَقُ باللَّفظيَّةِ في إفادةِ الأحكامِ [537] يُنظر: ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (3/147)، ((تسهيل الوصول)) للمحلاوي (1/271)، ((البيان بالترك)) لمحمود عبد الرحمن (ص: 45). .
أنواعُ بَيانِ الضَّرورةِ:
بَيانُ الضَّرورةِ أربَعةُ أنواعٍ:
1- ما يُنزَّلُ مَنزِلةَ المَنصوصِ عليه في البَيانِ.
2- ما يَكونُ بَيانًا بدَلالةِ حالِ المُتَكَلِّمِ.
3- ما يَكونُ بَيانًا بضَرورةِ دَفعِ الغَرَرِ.
4- ما يَكونُ بَيانًا بدَلالةِ الكَلامِ.
وفيما يَلي بَيانُ هذه الأنواعِ الأربَعةِ:
الأوَّلُ: ما يُنَزَّلُ مَنزِلةَ المَنصوص عليه في البَيانِ:
فيَدُلُّ اللَّفظُ المَنطوقُ به على حُكمِ المَسكوتِ عنه؛ لكَونِه لازِمًا للمَنطوقِ، ويُنزَّلُ السُّكوتُ في هذه الحالةِ مَنزِلةَ النُّطقِ بحُكمِ الحادِثةِ في وُضوحِ الدَّلالةِ.
مِثالُه: قَولُ اللهِ تعالى: وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ [النساء: 11] ، فصَدرُ الكَلامِ أوجَبَ الشَّرِكةَ؛ فإنَّه لمَّا أضاف الميراثَ إلى الأبَوينِ في صَدرِ الكَلامِ، ثُمَّ بَيَّنَ نَصيبَ الأُمِّ، كان ذلك بَيانًا أنَّ للأبِ ما بَقيَ، فحَصَلَ هذا البَيانُ بدَلالةِ صَدرِ الكَلامِ، فيَكونُ نَصيبُ الأبِ كالمَنصوصِ عليه [538] يُنظر: ((أصول الشاشي)) (2261)، ((أصول السرخسي)) (2/50)، ((بديع النظام)) للساعاتي (2/509). .
وعلى هذا قال الحَنَفيَّةُ في المُضارَبةِ: إذا بَيَّنَ رَبُّ المالِ حِصَّةَ المَضارِبِ مِنَ الرِّبحِ، وسَكَتَ عن بَيانِ حِصَّةِ نَفسِه، جازَ العَقدُ قياسًا واستِحسانًا؛ لأنَّ المُضارِبَ هو الذي يُستَحَقُّ بالشَّرطِ، وإنَّما الحاجةُ إلى بَيانِ نَصيبِه خاصَّةً، وقد وُجِدَ. ولَو بَيَّنَ نَصيبَ نَفسِه مِنَ الرِّبحِ، ولَم يُبَيِّنْ نَصيبَ المَضارِبِ، جازَ العَقدُ استِحسانًا؛ لأنَّ مُقتَضى المُضارَبةِ الشَّرِكةُ بَينَهما في الرِّبحِ، فببَيانِ نَصيبِ أحَدِهما يَصيرُ نَصيبُ الآخَرِ معلومًا، ويُجعَلُ ذلك كالمَنطوقِ به، فكَأنَّه قال: ولَك ما بَقيَ [539] يُنظر: ((أصول السرخسي)) (2/50)، ((الكافي)) للسغناقي (3/1482)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (3/148). .
الثَّاني: ما يَكونُ بيانًا بدَلالةِ حالِ المُتَكَلِّمِ
أي: يَكونُ بَيانًا بدَلالةِ حالِ السَّاكِتِ الذي وظيفتُه البَيانُ، أو مَن شَأنُه التَّكَلُّمُ في الحادِثةِ؛ بسَبَبِ سُكوتِه عِندَ الحاجةِ إلى البَيانِ؛ لأنَّ البَيانَ واجِبٌ عِندَ الحاجةِ إليه، كسُكوتِ صاحِبِ الشَّرعِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن أمرٍ يُعايِنُه مِن قَولٍ أو فِعلٍ، عنِ التَّغييرِ [540] يُنظر: ((أصول السرخسي)) (2/50)، ((تسهيل الوصول)) للمحلاوي (1/272)، ((تفسير النصوص)) للصالح (1/41). .
مِثالُه: ما شاهَدَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن مُعامَلاتٍ ماليَّةٍ كان النَّاسُ يتعامَلونها فيما بَينَهم، ومَآكِلَ ومَشارِبَ ومَلابِسَ كانوا يستديمون مُباشَرَتَها، فأقَرَّهم عليها، ولَم يُنكِرْها عليهم، فدَلَّ على أنَّ جَميعَها مُباحٌ في الشَّرعِ؛ إذ لا يَجوزُ مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يُقِرَّ النَّاسَ على مُنكَرٍ مَحظورٍ؛ فإنَّ اللَّهَ تعالى وصَفه بالأمرِ بالمَعروفِ والنَّهيِ عنِ المُنكَرِ في قَولِه تعالى: يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ [الأعراف: 157] ، فكان سُكوتُه بَيانًا أنَّ ما أقَرَّهم عليه داخِلٌ في المَعروفِ خارِجٌ عنِ المُنكَرِ [541] يُنظر: ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (3/148)، ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (1/103)، ((تفسير النصوص)) للصالح (1/41). .
ومِن ذلك: سُكوتُ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم على أمرٍ يُفتي به عالِمٌ مِنهم، أو قَضاءٍ يَصدُرُ مِنه؛ فقد جُعِلَ سُكوتُهم بَيانًا لسَلامةِ الفتوى التي صَدَرَت مِن ذلك الصَّحابيِّ، أو ذلك القَضاءِ، وأنَّ الأمرَ لَم يَخرُجْ عن دائِرةِ الشَّرعِ؛ لأنَّ الواجِبَ عليهمُ البَيانُ بصِفةِ الكَمالِ، فسُكوتُهم بَعدَ وُجوبِ البَيانِ بَيانٌ [542] يُنظر: ((تفسير النصوص)) للصالح (1/41). .
الثَّالِثُ: ما يَكونُ بَيانًا بضَرورةِ دَفعِ الغَرَرِ
أي: ما اعتُبِرَ مِن سُكوتِ السَّاكِتِ دَلالةً كالنُّطقِ؛ لضَرورةِ دَفعِ وُقوعِ النَّاسِ في الغَرَرِ [543] يُنظر: ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (1/104)، ((تسهيل الوصول)) للمحلاوي (1/273). .
مِثالُه: سُكوتُ الشَّفيعِ عن طَلَبِ الشُّفعةِ [544] هيَ: انتِزاعُ الإنسانِ حِصَّةَ شَريكِه مِن مُشتَريها بمِثلِ ثَمَنِها. يُنظر: ((الكافي في فقه الإمام أحمد)) لابن قدامة (2/ 232). بَعدَ عِلمِه بالبَيعِ؛ فإنَّه يُجعَلُ بمَنزِلةِ إسقاطِ الشُّفعةِ؛ لضَرورةِ دَفعِ الغَرَرِ عنِ المُشتَري، فإذا لم يُجعَلْ سُكوتُ الشَّفيعِ عن طَلَبِ الشُّفعةِ إسقاطًا للشُّفعةِ، فإمَّا أن يَمتَنِعَ المُشتَري مِنَ التَّصَرُّفِ، أو يَنقُضَ الشَّفيعُ عليه تَصرُّفَه، فلدَفعِ الضَّرَرِ والغَرَرِ جُعِلَ ذلك السُّكوتُ كالتَّنصيصِ على إسقاطِ الشُّفعةِ، وإن كان السُّكوتُ في أصلِه غَيرَ مَوضوعٍ للبَيانِ [545] يُنظر: ((أصول السرخسي)) (2/51)، ((الكافي)) للسغناقي (3/1486)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (3/152). .
الرَّابِعُ: ما يَكونُ بَيانًا بدَلالةِ الكَلامِ
وهو السُّكوتُ الذي جُعِلَ بَيانًا لضَرورةِ اختِصارِ الكَلامِ، أي: ما يَدُلُّ على تَعيينِ تَمييزٍ مَعدودٍ تُعورِفَ حَذفُه اختِصارًا [546] يُنظر: ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (3/152)، ((البيان بالترك)) لمحمود عبد الرحمن (ص: 42). .
مِثالُه: إذا قال: لفُلانٍ عليَّ مِائةٌ ودِرهَمٌ، أو مِائةٌ ودينارٌ.
فإنَّ ذلك بَيانٌ للمِائةِ أنَّها مِن جِنسِ المَعطوفِ عِندَ الحَنَفيَّةِ [547] يُنظر: ((أصول السرخسي)) (2/52)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (3/152). .
وعِندَ الشَّافِعيَّةِ: يَلزَمُه ذِكرُ المَعطوفِ؛ لبَيانِ جِنسِ المِائةِ؛ لأنَّه أقَرَّ بمِائةٍ مجمَلًا، والمَعطوفُ قد يَكونُ غَيرَ المَعطوفِ عليه؛ فقد يَعني: لفُلانٍ عليَّ مِائةُ ثَوبٍ ودِرهَمٌ، فلا يَكونُ العَطفُ تَفسيرًا للمَعطوفِ عليه بعَينِه [548] يُنظر: ((تسهيل الوصول)) للمحلاوي (1/274)، ((تفسير النصوص)) للصالح (1/44). .
وعِندَ الحَنَفيَّةِ يَكونُ قَولُه: ودِرهَمٌ. بَيانٌ للمِائةِ عادةً ودَلالةً:
أمَّا مِن حَيثُ العادةُ: فلأنَّ النَّاسَ اعتادوا حَذفَ ما هو تَفسيرٌ عنِ المَعطوفِ عليه في العَدَدِ إذا كان المَعطوفُ مُفسَّرًا بنَفسِه، كما اعتادوا حَذفَ التَّفسيرِ عنِ المَعطوفِ عليه والِاكتِفاءَ بذِكرِ التَّفسيرِ للمَعطوفِ؛ فإنَّهم يَقولونَ: مِائةٌ وعَشَرةُ دَراهمَ، على أن يَكونَ الكُلُّ مِنَ الدَّراهمِ، وإنَّما اعتادوا ذلك لضَرورةِ طولِ الكَلامِ وكَثرةِ العَدَدِ، والإيجازُ عِندَ ذلك طَريقٌ مَعلومٌ عادةً فيما يَثبُتُ في الذِّمَّةِ في عامَّةِ المُعامَلاتِ.
وأمَّا مِن حَيثُ الدَّلالةُ: فلأنَّ المَعطوفَ مَعَ المَعطوفِ عليه كشَيءٍ واحِدٍ، مِن حَيثُ الحُكمُ والإعرابُ، بمَنزِلةِ المُضافِ مَعَ المُضافِ إليه [549] يُنظر: ((أصول السرخسي)) (2/52)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (3/152). .

انظر أيضا: