موسوعة أصول الفقه

الفرعُ الثَّامِنُ: إذا ورَدَ القَولُ والفِعلُ بَعدَ المُجمَلِ، وكُلُّ واحِدٍ مِنهما صالِحٌ للبَيانِ، فأيُّهما الذي يَقَعُ به البَيانُ؟


اختَلَف الأُصوليُّونَ في هذه المَسألةِ، والرَّاجِحُ: أنَّه إذا تَعارَضَ القَولُ والفِعلُ في البَيانِ فالقَولُ أَولى مِنَ الفِعلِ. وهو قَولُ بَعضِ الشَّافِعيَّةِ [667] يُنظر: ((اللمع)) للشيرازي (ص: 69)، ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/311). ، وبه قال الكَلْوَذانيُّ [668] يُنظر: ((التمهيد)) (2/331). ، وابنُ عَقيلٍ [669] يُنظر: ((الواضح)) (4/166). ، وصَحَّحه الخَطيبُ البَغداديُّ [670] يُنظر: ((الفقيه والمتفقه)) (1/351). ، والشِّيرازيُّ [671] يُنظر: ((اللمع)) (ص: 69). .
الأدِلَّةُ:
1- أنَّ القَولَ يَدُلُّ على الحُكمِ بنَفسِه، والفِعلَ لا يَدُلُّ بنَفسِه، وإنَّما يُستَدَلُّ به على الحُكمِ بواسِطةٍ، وهيَ الاستِدلالُ على أنَّ الفِعلَ جائِزٌ، مِن جِهةِ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فعَلَه، وهو لا يَفعَلُ ما لا يَجوزُ؛ فإنَّه لَو لَم يَجُزْ ذلك لَما فعَلَه؛ فكان ما دَلَّ على الحُكمِ بنَفسِه أَولى مِمَّا دَلَّ عليه بواسِطةٍ [672] يُنظر: ((التمهيد)) للكلوذاني (2/331)، ((الواضح)) لابن عقيل (4/166). .
2- أنَّ الأصلَ في البَيانِ هو القَولُ؛ ولذلك يَتَعَدَّى بصيغَتِه، والفِعلُ مُختَلَفٌ فيه، فمِنَ الأُصوليِّينَ مَن قال: لا يَتَعَدَّى حُكمُه إلى غَيرِه إلَّا بدَليلٍ، فكان ما يَتَعَدَّى بنَفسِه بإجماعٍ أَولى [673] يُنظر: ((التبصرة)) للشيرازي (ص: 249)، ((الفقيه والمتفقه)) للخطيب البغدادي (1/351). .
3- أنَّ البَيانَ بالقَولِ يَستَغني بنَفسِه عنِ الفِعلِ، والبَيانَ بالفِعلِ لا يَستَغني عنِ البَيانِ بالقَولِ، والنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لمَّا حَجَّ وبَيَّنَ المَناسِكَ للنَّاسِ قال لهم: ((خُذوا عنِّي مَناسِكَكُم)) [674] أخرجه مسلم (1297) باختِلافٍ يَسيرٍ من حديثِ جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما، بلفظ: رَأيتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَرمي على راحِلَتِه يَومَ النَّحرِ، ويَقولُ: لتَأخُذوا مَناسِكَكُم؛ فإنِّي لا أدري لَعَلِّي لا أحُجُّ بَعدَ حَجَّتي هذه. ، ولمَّا صَلَّى وبَيَّنَ أفعالَ الصَّلاةِ قال: ((صَلُّوا كما رَأيتُموني أُصَلِّي)) [675] أخرجه البخاري (631) من حديثِ مالِكِ بنِ الحُوَيرِثِ رَضِيَ اللهُ عنه، ولَفظُه: أتَينا إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ونَحنُ شَبَبةٌ مُتَقارِبونَ، فأقَمنا عِندَه عِشرينَ يَومًا وليلةً، وكان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رَحيمًا رَفيقًا، فلمَّا ظَنَّ أنَّا قدِ اشتَهَينا أهلَنا -أو قدِ اشتَقنا- سَألَنا عَمَّن تَرَكْنا بَعدَنا، فأخبَرْناه، قال: ارجِعوا إلى أهليكُم، فأقيموا فيهم وعَلِّموهم ومُروهم وذَكَرَ أشياءَ أحفَظُها أو لا أحفَظُها- وصَلُّوا كَما رَأيتُموني أُصَلِّي، فإذا حَضَرَتِ الصَّلاةُ فليُؤَذِّنْ لكُم أحَدُكُم، وليَؤُمَّكُم أكبَرُكُم. ، ولمَّا صَلَّى جِبريلُ عليه السَّلامُ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وبَيَّنَ له المَواقيتَ قال: ((الوَقتُ ما بَينَ هَذَينِ)) [676] لَفظُه: عنِ ابنِ عَبَّاسٍ، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أمَّني جِبريلُ عِندَ البَيتِ مَرَّتَينِ، فصَلَّى بيَ الظُّهرَ حينَ زالَتِ الشَّمسُ، وكانت قَدرَ الشِّراكِ، وصَلَّى بيَ العَصرَ حينَ كان ظِلُّه مِثلَه، وصَلَّى بيَ -يَعني- المَغرِبَ حينَ أفطَرَ الصَّائِمُ، وصَلَّى بيَ العِشاءَ حينَ غابَ الشَّفقُ، وصَلَّى بيَ الفجرَ حينَ حُرِّمَ الطَّعامُ والشَّرابُ على الصَّائِمِ، فلَمَّا كان الغَدُ صَلَّى بيَ الظُّهرَ حين كان ظِلُّه مِثلَه، وصَلَّى بيَ العَصرَ حينَ كان ظِلُّه مِثلَيه، وصَلَّى بيَ المَغرِبَ حينَ أفطَرَ الصَّائِمُ، وصَلَّى بيَ العِشاءَ إلى ثُلُثِ اللَّيلِ، وصَلَّى بيَ الفجرَ فأسفرَ، ثُمَّ التَفتَ إليَّ وقال: يا مُحَمَّدُ، هذا وقتُ الأنبياءِ مِن قَبلِكَ، والوَقتُ ما بَينَ هَذَين الوقتَينِ. أخرجه أبو داود (393) واللفظ له، والترمذي (149)، وأحمد (3081). صَحَّحه الترمذي، وابن خزيمة في ((الصحيح)) (1/424)، والنووي في ((المجموع)) (3/45)، وأحمد شاكر في تخريج ((سنن الترمذي)) (1/279)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (393). ، فلَم يَكتَفِ في هذه المَواضِعِ بالفِعلِ حتَّى ضَمَّ إليه القَولَ؛ فكان تَقديمُ القَولِ أَولى [677] يُنظر: ((التبصرة)) للشيرازي (ص: 249)، ((الواضح)) لابن عقيل (4/166). .
وقيلَ: الفِعلُ أولى؛ لأنَّ مُشاهَدةَ الفِعلِ آكَدُ وأبلَغُ في البَيانِ مِنَ القَولِ. وهو قَولُ بَعضِ الشَّافِعيَّةِ [678] يُنظر: ((اللمع)) (ص: 69)، ((التبصرة)) (ص: 249) كلاهما للشيرازي، ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/312). .
وقيلَ: هما سَواءٌ، ولا بُدَّ مِن دَليلٍ آخَرَ لتَرجيحِ أحَدِهما على الآخَرِ؛ لأنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنهما يَقَعُ به البَيانُ كما يَقَعُ بالآخَرِ. وهو قَولُ بَعضِ الشَّافِعيَّةِ [679] يُنظر: ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/312). ، وغَيرِهم [680] يُنظر: ((التبصرة)) للشيرازي (ص: 249)، ((التمهيد)) للكلوذاني (2/331). ، واختارَه السَّمعانيُّ [681] يُنظر: ((قواطع الأدلة)) (1/312). .

انظر أيضا: